Sahebejbel

0
4285

صاحب الجبل بين فكي كماشة شركة “كوموكاب” وديوان التطهير من المسؤول؟

تأليف: حياة العطار

هناك سؤال مطروح علينا جميعا ينبغي أن نجيب عليه حتى نقيم نتائج نضالاتنا وصدى نداءاتنا عند صناع القرار وراسمي السياسات العامة. وكذلك عند المساهمين بشكل مباشر وغير مباشر في حالة التلوث السام الذي تتخبط فيه بلادنا من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها. والأهم هو طرح هذا السؤال على المؤسسات الموكول اليها مهمة الرقابة والردع وتطبيق القانون. فهل نحن فعلا نتقدم على صعيد التشريعات البيئية بالشكل الذي يضمن ملاءمتها مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟ وهل من خطوات ملموسة وجادة في هذا الإطار؟

وحتى نجيب عن تساؤلاتنا يكفي أن نلقي نظرة على الواقع مثلما تترجمه الارقام والاحصائيات وتحدده درجة غليان الشارع ويعكسه نضوب الموارد الطبيعية، أو أن نرصد حالات الاصابات بالأمراض السرطانية والامراض التنفسية والجلدية وانتشار المتحورات الفيروسية. حتى نتأكد أن ما نعيشه اليوم ليس تلوثا فحسب وانما نحن في مواجهة “القاتل الخفي” ويعني بذلك التلوث الذي سمّم المياه والتربة والهواء، والصادر عن مداخن المصانع وقنوات المياه الصناعية المستعملة، وعن مياه الصرف الصحي التي تصب مباشرة في الاراضي الفلاحية وفي البحر عبر الاودية والسباخ. يقول ريشارد فولر رئيس مؤسسة الارض النقية Pure Earth  “إذا كنت تعيش في مكان ملوث فإنك قد تكون معرضا للإصابة بهذه السموم كلما أكلت أو شربت أو اغتسلت أو لعبت أو تنفست”.

يتناول هذا المقال بالدرس والتحليل الوضعية البيئية لأحدى المناطق التابعة لواحدة من أجمل الولايات التونسية واكثرها استقبالا للوافدين من داخل البلاد وخارجها لما يعرف عنها من جمال شواطئها وتنوع مواردها الطبيعية. هي منطقة صاحب الجبل التابعة لمعتمدية الهوارية ولاية نابل اين يعيش أكثر من 15 ألف ساكن وضعية بيئية متردية نتيجة التقاء مجموعة من الملوثات أبرزها مصنع المصبرات العصرية المنتصب بالمنطقة منذ ستينات القرن الماضي والديوان الوطني للتطهير، في ظل هشاشة وقلة امكانيات البلديات وتعثر مسار اللامركزية وغياب ارادة الاصلاح.

  1. التلوث الناجم عن اشغال مصنع كوموكاب

“وين تبدأ الميسرة احنا نترعبوا” هذا ما جاء على لسان محمد الجبالي رئيس لجنة الاشغال بالدائرة البلدية بصاحب الجبل إثر لقاءنا به خلال جلسة عمل جمعت فريقا من قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع ممثلين عن الدائرة البلدية بصاحب الجبل وممثل عن الوكالة الوطنية لحماية المحيط ومجموعة من الاهالي في أوت 2021. والميسرة هي الفترة التي تمتد من بداية شهر جوان الى آخر شهر أوت تكون فيها عملية انتاج وتحويل الطماطم الفصلية في ذروتها. وخلال هذه الفترة من كل سنة تتحول حياة اهالي صاحب الجبل الى كابوس يؤرق مضاجعهم ويخلف لهم من الاضرار ما يجعلهم يكملون بقية السنة في معالجة تبعاته النفسية والصحية والاقتصادية والبيئية. للأسف فقد تعودنا في كل موسم فلاحي في تونس على مشهدين متناقضين، مشهد أول تروج له السلطة واصحاب المؤسسات يظهر الوجه المضيء لكل صابة فلاحية ويعدّد مزاياها وعائداتها. ووجه آخر ينكره هؤلاء وتكشفه الاحتجاجات الاجتماعية وتشكيات الناس. هو الوجه المظلم لكل صابة يساء التصرف فيها ولا يؤخذ بعين الاعتبار تداعياتها على البيئة وعلى المحيط.

صابة الطماطم تتحول الى سيول ملوثة وغيمات دخان فعن اي “ميسرة” نتحدث؟

  • التلوث المائي:

يشق التجمعات السكنية بمنطقة صاحب الجبل وادي الصيادي الذي ينبع من مرتفعات الكدوة في اتجاه ميناء الصيد البحري بسيدي داود ليصب مباشرة في البحر، ويستقبل الوادي كميات كبيرة من المياه المستعملة المتأتية من شركة “كوموكاب”. اذ بحسب الخبير المراقب العام بالوكالة الوطنية لحماية المحيط “فرحات لمين” فان طاقة انتاج وتحويل الطماطم لشركة كوموكاب تقدر بـــ 2500 طن تصل الى 3000 طن في أوقات الذروة كما أن الشركة، وان كانت مجهزة بمحطة فيزيوكميائية وبيولوجية لمعالجة المياه المستعملة بطاقة استيعاب تقدر ب2250م3 ، الا أن عملية غسل وتنظيف الطماطم ينجم عنها افراز كميات تفوق طاقة استيعاب المحطة تصل الى 3000م3 ويتم تصريفها في قنوات ممتدة على طول حوالي 1200م تصب في مجرى وادي الصيادي وتذهب مباشرة الى البحر بعد أن تشق الاراضي الفلاحية والتجمعات السكنية. ويتسبب ركود هذه المياه في الروائح الكريهة وفي ظهور الحشرات والزواحف خاصة وان الوادي يمثل ملتقى لمياه المصنع ومياه الصرف الصحي نتيجة تعطل القنوات التابعة للديوان الوطني للتطهير. تركيبة لا يمكن أن ينتج عنها الا السموم والامراض ويدفع ضريبتها السكان المجاورون والحيوانات والمواشي التي تشرب من مياه الوادي.  وهو ما تبيّنه الصور التي التقطها فريق العدالة البيئية خلال زيارته للمنطقة.

صور لمجرى المياه الملوثة بوادي الصيادي

كنا قد تساءلنا خلال الجلسة التي انعقدت بمقر الدائرة البلدية بصاحب الجبل عن مدى تفاعل السلطات المعنية مع الاشكال وعن مدى خضوع المؤسسة الى الرقابة خاصة من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط المحمول عليها القيام بالتحاليل الدورية واتخاذ إجراءات ردعية ضد المخالفين. أكد لنا السيد فرحات لمين بأن الوكالة، بعد صدور نتائج الاختبارات التي قامت بها والتي بينت أن الشركة تقوم بتصريف مياه ملوثة غير مطابقة للمواصفات المعمول بها، قد اتخذت إجراءات قانونية ضدها.

حضور اعضاء قسم العدالة البيئية في جلسة عمل انعقدت في أوت 2021 بمقر الدائرة البلدية بصاحب الجبل

 ويأخذنا رد الخبير الى تساؤل آخر حول مدى جدية الإجراءات القانونية التي تتخذها الوكالة والهياكل الرسمية الأخرى المعنية بالشأن البيئي خاصة وان الشركة ومثلها الآلاف، لم تغير من طريقة عملها وتواصل في انتهاك كل ما يحيط بها دون رادع. وتجدر الاشارة هنا الى أن الطاقة التحويلية للطماطم في ولاية نابل، حسب تصريحات رسمية، تتجاوز 15 ألف طن في اليوم ينتج عنها كميات من المياه الصناعية المستعملة تقدر بـــــ16500 متر مكعب يتم تصريف 1200 متر مكعب في شبكة التطهير العمومي و3600 متر مكعب بسبخة قربة و11700 متر مكعب بمجاري الاودية كوادي الصيادي بصاحب الجبل ووادي القرعة بدار علوش والهوارية ووادي الحجر بقليبية…[1]

هي ربما سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها هياكل عديدة محمول عليها حماية الانسان والمحيط، أو هي تعنت وغطرسة من قبل الشركات ولي للذراع سيما إذا تعلق الأمر بمعادلة الشغل مقابل البيئة، أو ربما هي منظومة قانونية بالية لا ترتقي لمستوى الازمات التي نعيشها ولا تتلاءم مع الواقع. وتُستَغل من قبل كل الأطراف لذر الرماد على العيون. ملخص القول هي هذا وذاك. والدليل أن المشاكل البيئية تتفاقم من يوم لآخر. والكل يقف عاجزا على إيجاد حلول جذرية لها. اذ كيف يمكن التصدي للشركات الملوثة وردعها بخطايا مالية تتراوح بين 100 دينار وخمسون ألف دينار حسب ما يحدده الفصل 11 من القانون عدد 91 لسنة 1988 المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لحماية المحيط. وهي خطية تعادل في أقصاها نسبة 3 %  من تكلفة انجاز وحدات المعالجة المطلوبة؟  سؤال تجيب عنه تقارير الادارة الجهوية للبيئة بنابل التي تفيد بأن 3 وحدات فقط من جملة 15 وحدة تحويل بولاية نابل قادرة على انجاز منظومة معالجة للمياه الصناعية وفق المواصفات التونسية. في حين تبقى الوحدات الاخرى بين التي تبذل جهودا متفاوتة لاحترام الشروط البيئية وتدارك النقائص، وبين التي لا تبذل اي مجهود وتعتمد حلولا ترقيعية ينتج عنها سكب مياهها في الاودية. الشيء الذي ادى الى تزايد عدد النقاط السوداء في المنطقة.[2] تأخذنا هذه المعطيات الى الرجوع الى الفصل الثامن من نفس القانون والذي ينص على أن “كل مؤسسة صناعية، فلاحية أو تجارية وكل شخص مادي أو معنوي له أنشطة قد تؤدي إلى تلوث المحيط بواسطة الفواضل سواء كانت جامدة أو سائلة أو غازية أو غيرها مطالبون بإزالة هذه المخلفات أو الحد منها أو استعادتها عند الاقتضاء”. جملة من التناقضات على مستوى النصوص والإجراءات انعكست على الممارسات الصادرة من هذه المؤسسات وهيأت أرضية ملائمة خصبة لما نعيشه اليوم من تلوث ومن اجرام بيئي.

  • التلوث الهوائي

لا تكتفي الشركة بما تفرزه من سيول مائية ملوثة بل تعدت انتهاكاتها ضد البيئة لتشمل الهواء. فكأغلب المصانع تعتمد الشركة في اشغالها على مادة الفيول الثقيل المعروف بنتائجه المضرة بالبيئة والمحيط. وتعتمد الشركة هذه المادة نظرا لانخفاض تكلفتها مقارنة بتكلفة الغاز الطبيعي. ورغم ادعاءها بصيانة معداتها بشكل دوري وعزلها لخزانات الفيول وقيامها بالإجراءات الوقائية، الا أن الدخان الاسود الكثيف الصادر من مداخنها يكذب ادعاءاتها ويعكس عدم قيامها بالصيانة الدورية لمعداتها، واستهتارها بحياة الناس وأمنهم وبسلامة محيطها. وفي هذا الاطار تقدمنا في قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمطلب نفاذ الى المعلومة الى الوكالة الوطنية لحماية المحيط للحصول على تقارير المعاينات التي قام بها خبراء الوكالة للوضع البيئي بصاحب الجبل. الا أننا لم نجد اي تجاوب من قبل المصالح المعنية عدا المماطلة والتسويف والتحجج بعدم دقة الطلب. الشيء الذي يثير الريبة ويطرح عدة تساؤلات حول مدى تفاعل المؤسسات العمومية وشفافية تعاطيها مع مطالب المجتمع المدني.

مطلب نفاذ الى المعلومة الى الوكالة الوطنية لحماية المحيط

مع العلم فقد عاينا خلال زيارتنا للمنطقة لون جدران المنازل المحيطة بالشركة والقريبة منها والدخان الاسود الذي يغطي اوراق الشجر والنباتات. كما شاهدنا على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو مباشرة يوثق من خلالها نشطاء الجهة الدخان الاسود الذي يجتاح منازلهم في نفس الفترة من كل سنة فيستنزف طاقتهم في تنظيفه ويخلف أثرا نفسيا وماديا وصحيا ثقيلا.

“انا شنو ذنبي، 56 سنة نعاني في المرض” بنبرة صوت حزين تساءلت ولخصت الوضعية في استجابة جسم نحيف منهك يحمل غضبا مكبوتا بفعل المرض والعجز على المقاومة. هي أحد المتضررين والمتضررات من التلوث السام الذي تعانيه المنطقة. تستنشق رئتاها قسرا سموم المداخن طيلة فترة الميسرة ومثلها الكثيرون في الجهة. اذ بحسب شهادات الاهالي ونشطاء المجتمع المدني واعضاء الدائرة البلدية فان نسبة الاصابة بالأمراض السرطانية بمعتمدية الهوارية  قد ارتفعت في السنوات الاخيرة وهو ما أكدته لنا السيدة “روضة زروق” رئيسة الجمعية التونسية لمرضى السرطان. ونظرا لصعوبة اثبات العلاقة السببية بين التلوث وبين الاصابة بمرض السرطان توجهنا بمطلب نفاذ الى المعلومة الى وزراة الصحة، الادارة الجهوية للصحة بنابل ومعهد صالح عزيز قصد الحصول على معلومات رسمية دقيقة. فيجيبنا رئيس قسم علم الوبائيات والاحصائيات والاعلامية الطبية بالمعهد بأن “منهجية جمع المعلومات في نطاق سجل السرطان تعتمد على الملف الطبي في القطاعين العام والخاص. وحيث أن العنوان الكامل للمريض غير موجود في الملف الطبي في غالب الاحيان ومقتصر على الولاية فان المعلومات حول احصائيات السرطان بمعتمدية الهوارية غير متوفرة.” ويضيف رئيس القسم أنه “وحسب منظمة الصحة العالمية فان نسبة السرطانات الناتجة عن التلوث لا تتجاوز 4% لكن هذا التلوث يتسبب في امراض اخرى كأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الجلد والحد من جودة الحياة”.

ومع احترامنا الشديد لرأي رئيس قسم الوبائيات بمعهد صالح عزيز ووجاهة ما صرح به في رده على مطلبنا الا أننا، وفي ظل غياب دراسات ميدانية لتقييم نسبة التلوث من طرف ادارات حفظ الصحة وحماية المحيط بوزارة الصحة، نعتبر غياب مثل هذه المعلومات الهامة تقصيرا من قبل الهياكل المعنية. واستهتارً بحياة الناس. خاصة أمام تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تفيد بأن 9 من بين كل 10 أشخاص يتنفسون هواء يحتوي على مستويات عالية من الملوثات. وبأن نحو 7 ملايين شخص في العالم يموتون سنويا بسبب التعرض لجسيمات دقيقة في الهواء الملوّث، التي تخترق بعمق الرئتين والقلب والأوعية الدموية، بما يسبب الأمراض، مثل السكتة الدماغية وأمراض القلب وسرطان الرئة وأمراض انسداد الشعب الهوائية المزمنة والتهابات الجهاز التنفسي، بما فيها الالتهاب الرئوي. [3]

يكفي أن تقوم بجولة ميدانية في المنطقة وأن تشاهد وضعية الوادي والاراضي المحيطة به. أو أن تلقي نظرة على المنازل ولون جدرانها وتزور البيوت وتلتقي بسكانها حتى يصبح لديك يقينا تاما بأن ما يمارس على هذه المناطق هو اجرام بكل ما للكلمة من معنى. احد مرتكبيه مصنع لا يحترم المعايير الدولية. ولا يقوم بمسؤوليته المجتمعية تجاه محيطه. ويشغّل عددا ضعيفا من ابناء المنطقة بشكل موسمي وغير قار. بل ويتجاهل كل محاوريه من مجتمع مدني ومن سلطة محلية ويستنزف الموارد المائية في غسل وتحويل الطماطم. مستندا في ذلك على سياسات بالية وخيارات لاعادلة.  وثاني مرتكبيه مؤسسة وطنية عمومية ذات صبغة صناعية تجارية اسمها الديوان الوطني للتطهير. احدثت اساسا من اجل مقاومة كل مصادر التلوث المائي في مناطق تدخلها. يفترض حسب القانون عدد 41 لسنة 1993  أن تقوم بالتصرف والاستغلال وصيانة وتجديد واقامة كل المنشآت المعدة لتطهير المدن. يدفع لها المواطن بصفة دورية معلوما ماليا مقابل ما تقدمه له من خدمات. لكن هذه المؤسسة أصبحت اليوم شريكا في التلوث وسببا في تردي وضعية الأودية والسباخ والشواطئ.

  1. التلوث الناجم عن مياه الصرف الصحي

ذكرنا منذ بداية الجزء الاول من هذا المقال أن وادي الصيادي الذي يشق التجمعات السكنية يمثل نقطة التقاء مياه شركة “كوموكاب” ومياه الصرف الصحي المتأتية من قنوات الديوان الوطني للتطهير على مستوى محطة الضخ التي انشأت بهدف تحويل المياه الصحية المستعملة لمنطقة صاحب الجبل الى محطة التطهير بالهوارية. ونظرا لغياب المتابعة والصيانة الدورية ونقص المعدات الاساسية وتلف البعض الآخر، تشكو هذه المحطة منذ سنوات حالة تعطل مستمر ساهمت في تشويه الوادي وتسرب المياة الملوثة الى الاراضي الفلاحية المجاورة. واصبحت خطرا على حياة المواشي والابقار التي ترعى بالقرب منه. كما ادى  ركود مياه الصرف الصحي الى انبعاث روائح كريهة اقتحمت المنازل المجاورة للوادي وتسببت في ظهور الحشرات والزواحف خاصة في فصل الصيف الذي اصبح شبيها بالكابوس الجاثم على قلوب سكان المنطقة، بعد أن كانت قبلة للزوار والمصطافين.

ورغم ارتباط الوضع البيئي العام بمنطقة صاحب الجبل والمناطق المجاورة لها بالوضع البيئي لوادي الصيادي وانعكاس تلوث مياهه على محيطه الا أن ذلك لم يجد تفاعلا من قبل الجهات المعنية، خاصة الديوان الوطني للتطهير الذي واصل في سياسة الترقيع ورمي التهم على سكان المنطقة بحجة الربط العشوائي لبعض المساكن بمجرى الوادي.

يبدو أن الديوان الوطني للتطهير، على أهمية دوره في حياة المواطن وفي استدامة البيئة وسلامة المحيط أصبح اليوم جزءا من المشكل. بل صار مشكلا رئيسيا وملوّثا خطيرا. واصبحت قنواته تصرف مباشرة وعلنا في الاودية والسباخ والبحار متسببة في اتلاف الاراضي الفلاحية ونفوق الحيوانات البرية وظهور الحشرات والامراض الجلدية. الى جانب تدمير شواطئ بأكملها وتشويهها. وككل صائفة تعلن وزارة الصحة على عدد من الشواطئ الممنوعة من السباحة، بلغ عددها هذه السنة 21 شاطئا منها الزهراء وحمام الأنف ورادس… و3 شواطئ بجهة نابل والموجودة قبالة محطة التطهير بدار شعبان وشاطئ وادي الحجار بقليبية وقبالة القطب التكنولوجي بسليمان في انتظار التحاق بقية الشواطئ الى القائمة اذا استمر الوضع على ماهو عليه.

وقد شهدت معتمدية الهوارية منذ سنة 2019 احتجاجات وحالة من الغضب لدى اهالي الجهة والمجتمع المدني آنذاك على خلفية ضخ مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر وبالقرب من المصطافين. وضع ارجعه معتمد الجهة السابق محمد أمين النصراوي الى عجز المحطة على استيعاب كميات المياه الصحية الموجودة بها كما اعلن عن وجود  مشروع بصدد الدراسة بالشراكة مع ديوان التطيهر لتطوير أنابيب الضخ ومعالجة مياهها.

وفي اطار حق النفاذ الى المعلومة ومتابعة مدى تقدم المشاريع المعلن عنها توجهنا  في قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمراسلة الى كل من الادارة المركزية للديوان والادارة الجهوية بنابل طلبنا  من خلالها تفسيرا لحالة التعطل التي تشهدها محطة الضخ بصاحب الجبل، وتمكيننا من معلومات حول المشاريع المنجزة والمبرمجة للحد من عملية تصريف مياه الصرف الصحي في وادي الصيادي. الا أننا الى اليوم لم نتلقى اي رد على مطلبنا.

هنا تثير الخدمات المتردية للديوان الوطني للتطهير وتعطل اشغاله وحالة السلبية الطاغية على تعاطيه مع الاشكاليات الحارقة وغياب الرؤية الواضحة عدة تساؤلات حول مدى قدرة هذه المؤسسة العريقة على الصمود وعلى القيام بواجبها تجاه المواطن (الحريف) بما يضبطه القانون المتعلق باحداثها. وبما تضبطه المواثيق الدولية والمعاهدات الضامنة لحق كل انسان في خدمات صرف صحي لائقة ومستدامة. وضع يفسره كاتب عام النقابة الاساسية للديوان بولاية تونس بالنقص الفادح في اليد العاملة وفي التجهيزات وبغياب شروط الصحة والسلامة للعاملين فيه وتراكم الملفات الاجتماعية المتعلقة بمطالب منظوريه. الى جانب وجود مشاكل هيكلية ومالية اثرت على قدرة الديوان على التخطيط ورسم استراتيجيات واضحة لتجاوز الاشكاليات مما دفع به الى التفويت في عدد من مشاريعه الى الخواص. [4]  بالاضافة الى التحكم في كتلة الأجور عن طريق التقليص من الانتدابات وعدم تعويض الشغور عند الخروج على التقاعد.

ويأخذنا هذا الى تأكيد موقفنا من السياسات البيئية التي تتبعها الدولة منذ عقود والتي اثبتت فشلها وعجزها على التصدي الى موجات التلوث التي اجتاحت كل المناطق دون استثناء. وكذلك الى اثبات عدم قدرة المنظومة القانونية البيئية على ايقاف نزيف الانتهاكات وردع المخالفين رغم ثراءها وتنوع اختصاصاتها ورغم تحركات المجتمع المدني المنادي بتفعيل الحقوق البيئية واصلاح السياسات المتبعة.

  1. التلوث في نابل: المجتمع المدني يناضل والمؤسسات تجادل وتتملص:

من المؤكد أن ولاية نابل بأكملها تعاني من مخلفات مصانع تحويل المواد الغذائية ومسالخ الدجاج ومصانع النسيج، ومن  تسرب مياه الصرف الصحي في اغلب اوديتها وشواطئها. فالهوارية وقربة والمعمورة وتازركة وكل معتمديات الجهة على صفيح ساخن منذ سنوات. هنا تعود بنا الذاكرة الى حراك  أهالي سيدي مذكور سنة 2018 على خلفية فتح قنال وادي الڤرعة وتسرب المياه المزدوجة (الصناعية والمنزلية) المسكوبة في الوادي. مما نتج عنه خلاف بين بلديتي دار علوش والهوارية وايقاف عدد من المحتجين من اهالي سيدي مذكور. تدخل المجتمع المدني حينها لمنع تجريم المحتجين والضغط على السلطات المعنية لايجاد حل. مسيرة كفاح سطرها اهالي دار علوش وسيدي مذكور. واحتجاجات ساهم في اشعال فتيلها كل من الديوان الوطني للتطهير وشركات تحويل الطماطم في المنطقة. افضت الى عقد جلسة بتاريخ 17 أوت 2018 بمقر وزارة الصناعة جمعت كل الاطراف. وافرزت مجموعة من القرارات القاضية بالزام جميع المؤسسات المنتصبة بالمنطقة والمستغلة لوادي القرعة للاستجابة للتشريع الجاري به العمل والتنسيق مع السلط الجهوية والمحلية لايجاد حلول جذرية.

والمشهد اليوم يعيد نفسه، الفاعلون هم تقريبا نفسهم، ديوان التطهير ومصانع الطماطم، والمفعول بهم هذه المرة هم اهالي صاحب الجبل ووادي الصيادي. تتصاعد احتجاجاتهم مع بداية كل “ميسرة” ويشتد غضبهم أمام تجاهل الاطراف المقابلة لنداءاتهم. وباسناد من الدائرة البلدية بصاحب الجبل، والتي تتحمل بدورها جزءا من المسؤولية تجاه تردي الوضع البيئي اليوم بالمنطقة، انتظمت عدة جلسات بمقرها جمعت عددا من اعضاءها وعددا من ممثلي اهالي المنطقة وممثلي شركة كوموكاب آخرها بتاريخ 22 جويلية 2021 سبقتها جلسة بمقر وزارة الصناعة بتاريخ 19 جويلية 2021 محورها التباحث حول ايجاد حلول لمشكل التلوث الناجم عن اشغال شركة تحويل الطماطم.

وقد تشبث اعضاء المجلس البلدي وممثلو الاهالي حينها بضرورة استبدال الشركة لمادة الفيول الثقيل بالغاز الطبيعي والتزامها بالمعايير المعمول بها في معالجة مياهها المستعملة.

وخلال الجلسة التي جمعت فريقا من قسم العدالة البيئية في أوت الفارط باعضاء الدائرة البلدية وعددا من الاهالي افادنا رئيس الدائرة أن “الشركة كانت في كل اجتماع تتملص من الحضور ولا تتجاوب مع دعواتنا للحوار أو أن تفوض احد موظفيها للحضور شكليا دون أن تكون له صفة رسمية مما يجعله يمتنع عن الامضاء والالتزام بمخرجات الجلسات”. وباطلاعنا على محضر جلسة 22 جويلية 2021 وعلى رد الشركة على نسخة المحضر الواردة على ادارتها من قبل الدائرة البلدية بتاريخ 19 أوت2021،  تبيّن لنا تعنت الشركة وعدم اعترافها بتجاوزاتها ورمي التهم على الاهالي وعلى البلدية وعزمها مواصلة اشغالها بنفس الطريقة. ففي علاقة بمسألة التلوث بالمياه المستعملة تنكر الشركة اي تجاوز وتعتبر المياه المسكوبة بالوادي هي مياه معالجة وفق المواصفات المعمول بها. وأن ما يروج من (ادعاءات) بسكب مياه ملوثة من شأنها أن تضر بالمحيط هي مجرد مغالطات هدفها تشويه الشركة. ومن شأنها أن تجعل من اصحابها محل تتبعات عدلية. وهو ما يتعارض مع تصريحات الخبير المعتمد لدى وكالة حماية المحيط.  أما بالنسبة لمسألة الغاز الطبيعي فترجع الشركة الأمر الى السلطة الجهوية والى الشركة التونسية للكهرباء والغاز. وتعتبر أن تعطل ربط الشركة بالغاز الطبيعي هو نتيجة تعطل مؤسسات الدولة وبطأ الاجراءات. ملخص القول أن الشركة تعتبر كل ما يقال في حقها ادعاءات باطلة وضرب لمصداقيتها وتهديد لاستمراريتها. مستعرضة في ذلك مزاياها على اهالي الجهة وتشغيلها لليد العاملة ومساهمتها في التنمية والتزامها بدفع المعلوم البلدي TCL. “خصنا باش يقلنا اطلبوا مني السماح” هكذا عبر محمد الجبالي عن استغرابه من تعاطي شركة كوموكاب مع المسألة.

ولئن بدت المسألة في ظاهرها تعنت وتمرد من قبل الشركات على القانون وعدم احترامها للمعايير الوطنية والدولية الا أنها تعكس في عمقها خيارات وسياسات في دولة مثلما عرّفها كارل ماركس على أنها “رأسمال يحرسه رجال مسلحون” لا تعير للجانب البيئي اي اهتمام. وتشرع للانتهاكات. وتقنن استنزاف الموارد الطبيعية. وتتجاهل القوانين التي تنصف الجانب البيئي وتضبط ممارسة الانشطة الصناعية وتكرس حقوق الانسان وتحمي حقوق الاجيال القادمة.

 ان هذه الشركات، وان كانت محركا للاقتصاد ومورد رزق للعديد من العائلات وبابا للتصدير الى الاسواق العالمية الا أنها تستنزف الموارد المائية بشكل مهول وتساهم بنسبة عالية في نضوبها. فالى جانب ما تستهلكه الفلاحة من مياه تقدر بنسبة 80% من المخزون المائي للبلاد، في ظل أزمة جفاف تتلخص في تراجع نصيب الفرد في تونس من الماء الصالح للشراب الى حدود 400 م3 سنويا وهي كمية اقل بكثير من 1000م3 في السنة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية. تستهلك عملية غسل 1 طن من الطماطم وتحويلها بين ألف و3 ألاف لتر من المياه تنبع من آبار ارتوازية تستخرج من المائدة المائية العميقة. هذا الى جانب ما يصدر عن عديد الفلاحين من تشكيات جراء الاتفاقيات المبرمة بينهم وبين الشركات المصنعة والتي يعتبرونها اتفاقيات غير عادلة لا تراعي حقوق الفلاح بل تتركه رهين أهواء ومصالح اصحاب المصانع. معلومة استقصيناها في احدى الزيارات الميدانية من قبل أحد الفلاحين.

أما بالنسبة للديوان الوطني للتطهير، الذي انخرط بقوة في عملية تدمير الموارد الطبيعية وتشويهها  والذي يقف اليوم عاجزا أمام هذا الوضع. ولا يكلف نفسه عناء الرد على تساؤلات المجتمع المدني وفتح بابه للحوار والنقاش وتبادل الافكار. وجب عليه اليوم تحمل مسؤوليته الكاملة واحترام القانون  ومراجعة سياساته وبرامجه والايفاء بتعهداته وتطوير آليات عمله. الى جانب الالتزام بالشفافية والوضوح في علاقة بالمشاريع التي يعلن عنها في كل مرة وتبقى سرابا يطارده المواطن دون التمتع به.

ختاما، وفي انتظار تفاعل الجهات المعنية مع قضية تلوث وادي الصيادي ومنطقة صاحب الجبل وكل القضايا البيئية الحارقة، وجب على كل المتدخلين الاعتراف بحق الانسان في بيئية سليمة وصحية، بيئة يكون فيها العيش كريما.  لا يتعارض فيه حق الشغل مع الحق في الهواء النظيف والحق في المياه الآمنة. ولا تدور فيه عجلة الاقتصاد المربح في جو ملوث وسم قاتل. نذكر بأننا في دولة قوانينها ودستورها والتزاماتها كلها تصب في خانة واحدة هي خانة حقوق الانسان واحترام علوية القانون.  وعلى الدولة ومؤسساتها مراجعة سياساتها وانقاذ ما يمكن انقاذه. والاخذ بمقترحات المجتمع المدني واصحاب الحقوق من أجل تونس أخرى نظيفة وآمنة ممكنة.

كما نذكر أننا في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نتبنى بصفة رسمية مطالب أهالي صاحب الجبل وندافع عن الحقوق البيئية بكل الآليات المتاحة. وحيث أننا نرافق اهالي المنطقة منذ بداية تحركاتهم ونتابع بانشغال مسارات التفاوض بينهم وبين شركة “كوموكاب”. وكنا قد اصدرنا بيانات آخرها بتاريخ 27 جويلية 2022 [5]  أكدنا فيها على ضرورة ايجاد حلول جذرية لأزمة التلوث في المنطقة للحد من تداعياته على صحة وسلامة الاهالي وتفاديا للانفجار الاجتماعي المحتمل. كما نهيب بمسيّري الشركة الايفاء بتعهداتهم والالتزام بما جاء في مراسلتهم الواردة على الدائرة البلدية، والتي أكدوا من خلالها سعيهم الى ايجاد حلول جذرية لمشكل التلوث والتزامهم بتزويد الشركة بالغاز الطبيعي أو بطاقة بديلة خلال موسم 2023.

[1] https://www.babnet.net/cadredetail-207179.asp

[2] [i] https://www.babnet.net/cadredetail-207179.asp

[3] https://news.un.org/ar/story/2018/05/1007402

[4] https://www.echaabnews.tn/ar/article/963/%D8%A5%D9%87%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%87%D9%8A%D8%B1-%D9%8A-%D9%86%D8%B0%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D8%B6%D9%85%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%87

[5] https://ftdes.net/ar/saheb-ejbel/