الهجرة اليومية لفلاحات القصرين وسيدي بوزيد:  نساء تنقل على شكل بضائع من أجل ديمومة الانتاج الفلاحي !

0
3669
صورة : سوار عمايدية

الهجرة اليومية لفلاحات القصرين وسيدي بوزيد:  نساء تنقل على شكل بضائع من أجل ديمومة الانتاج الفلاحي !

رحاب المبروكي (فرع الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) 

 

في حقول الزيتون والأراضي الفلاحية الشاسعة التي تغطي معظم المناطق الشمالية لولاية قفصه تعمل أكثر من 200 إمرأة في القطاع الفلاحي. وسط بيئة غير إنسانية تواجه هؤلاء النسوة ظروف العمل الشاقة والأجور الزهيدة، الى جانب عدم الخضوع لمنظومة تأمينية صحية أو إجتماعية، الأمر الذي زاد من أوضاعهن سوءا خاصة أثناء جائحة كورونا.  جامعيات شاءت أقدارهن العمل في القطاع الفلاحي، قدمن من أرياف ومدن ولايات القصرين وسيدي بوزيد المجاورة (حاسي الفريد-أولاد حرشان- سيدي علي بن عون)، ليواجهن الاستغلال والإقصاء رغم الدور المحوري الذي يلعبنه عبر مساهمتهن في الحفاظ على سلاسل الامن الغذائي في ظل هذه الأزمة الصحية العالمية. واقع لا يمكن إعتباره إلا نتيجة مباشرة للرؤى والسياسات التي وضعتها السلطة والتي أدت الى إقصاء عاملات القطاع الفلاحي ومصادرة كرامتهن  وتهميش سبل عيشهن ليصرن بذلك ضحايا داخل جهاتهن وخارجها، عبر حرمانهن بشكل شبه كامل من الدعم الحكومي الذي يساعدهن في الحصول على حقوقهن.

في هذا التقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نكشف عن واقع التهميش الذي يعشنه عاملات القطاع الفلاحي بقفصه القادمات من ولايات مجاورة كما نسلط الضوء على غياب الدعم الحكومي لأكثر الفئات هشاشة داخل المجتمع.

 

صورة لعاملات فلاحيات أثناء عملية فرز الخضر

صورة لعاملات فلاحيات أثناء عملية فرز الخضر[1]

 

هجرة يومية بين المدن: أخطار على مرأى من السلطات 

على الساعة 05:00 صباحا تنطلق شاحنات نقل العاملات من مناطق سكناهن بأرياف كل من القصرين وسيدي بوزيد  في إتجاه الضيعات الفلاحية اللاتي يعملن بها شمال قفصه. شاحنات مكشوفة تقل كل واحدة من 15 الى 20 عاملة في هجرة داخلية محفوفة بالأخطار يخضنها يوميا عبر طرق ومسالك فلاحية وعرة، قبل أن يتنقلن الى الطريق الرئيسي بين الولايات. أمام أعين السلطات تتواتر عشرات السفرات اليومية لهؤلاء النسوة دون أن يحرك أي طرف ساكنا إزاء ما يحصل من إنتهاك صارخ للكرامة البشرية، وكأن بعض النساء أصبحن وسيلة لضمان ديمومة  الإنتاج الفلاحي يتم التعامل معهن دون وضع إعتبارات لحقوقهن الانسانية.

تقول خديجة ذات 41 ربيعا، أصيلة منطقة حاسي الفريد من ولاية القصرين  والعاملة بإحدى الضيعات الفلاحية بمنطقة الشبيبة شمال قفصه :”نتنقل على حسابنا الخاص يوميا نحو أماكن عملنا، نتلقى مبلغ 15 دينار في اليوم نقدم منها 5 دينارات للوسيط الذي يتولى مهمة نقلنا”، (الوسيط هو سائق الشاحنة ومالكها)، وعن ظروف النقل تجيب بأنهن يتنقلن عبر شاحنات مكشوفة أيام الحر والبرد، كما يحجر عليهن الجلوس بسبب ضيق المساحة المخصصة لهن. ما يقارب ساعتين من الزمن يقضينها واقفات بوسيلة نقل تفتقد الى أبسط مقومات السلامة، اذ من الصعب أن تضمن لهن سفرة لا تؤدي بحياة البعض منهن وجرح أخريات في احيان كثيرة. وتعمل خديجة كغيرها من النساء من أجل إعالة عائلتها المتكونة من إبن وإبنة بعد ما هجرها زوجها، وتشير الى أنها تتحمل قسوة الظروف والعمل المجحف في سبيل توفير قوت عائلتها، حيث تقضي أكثر من 08 ساعات يوميا بين جني الزيتون وجمعه أو العمل بفرز الخضروات، وتأمل كنظيراتها بتوفير  ظروف نقل مريح مثل حافلات النقل الريفي وبتغطية إجتماعية تحفظ حقوق العاملات أثناء الحوادث المرورية.

صورة لعاملات فلاحيات أثناء عملية فرز الخضر

تشارك النساء بنسبة 90 بالمئة في العمل الفلاحي بالمناطق الشمالية لولاية قفصه (الشبيبة- قطيس- أولاد عمران- الفج- الرحيبة الجنوبية) حسب ما افادنا به عضو نقابة الفلاحين منصف سالم، وأشار الى غياب إقبال العاملات الفلاحيات على الانخراط في نقابة الفلاحين بسبب انعدام ثقافة المطالبة بالحقوق لدى العديد منهن. وحمّل بن سالم مسؤولية حماية الفلاحات الى الدولة التي لم تحرك ساكنا تجاه قسوة ظروف عملهن، ورغم الضجة الاعلامية التي أحدثتها أخبار الحوادث القاتلة التي أنهت حياة الكثيرات منهن الا أنه لم يتغير شيئا في واقهن حسب تعبيره.

إستجابة غير كافية من الطرف الحكومي

تعد تونس من البلدان الرائدة في مجال حقوق المرأة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك عبر إنخراطها في الإتفاقيات العالمية الهادفة الى ضمان حقوق النساء وكرامتهن الانسانية وحمايتهن من كافة أشكال التمييز والإقصاء، وأبرزها اتفاقية سيداو[2] للقضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة، إضافة الى تشريعاتها المحلية الحامية لهاته الحقوق مثل الفصل 46 من الدستور الذي ينص على أن “تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها[3]” وقد مثّل هذا الفصل جزءا من حزمة إصلاحات قانونية إنتهجتها تونس منذ عهد دولة الاستقلال والى حد اليوم. ورغم احتواء الدستور على ضمانات قوية لحقوق المرأة وبالرغم من وجود العديد من القوانين والسياسات والبرامج الداعمة لحقوق النساء غير أن الحكومة التونسية لم توفّق الى حد ما في ضمان مستقبلا يتناسب مع قوانينها التي أدرجتها ومع المعايير الدولية التي إلتزمت بتعزيزها. فقد بقيت أغلب حقوق النساء مبتورة في قطاعات عدة وأبرزها الفلاحي، ولا تزال قضية تهميش العاملات في هذا المجال من الأمور المقلقة التي وجب لفت نظر العامة إليها،  حيث لا تتمكن النساء في الكثير من الأحيان من الوصول الى مستويات معقولة في التمتع بحقوقهن المكفولة دستوريا خاصة منها الاجتماعية والمتعلقة بحمايتهن من الأخطار المتمثلة في الحوادات التي أودت بحياة الكثيرات منهن،  وأمام هذا التهميش والإقصاء لأكثر الفئات الاجتماعية هشاشة لم تتخذ الدولة الى حد الان أية تدابير لتحقيق الإستجابة التي تعالج أسباب هذا الإقصاء  بما في ذلك العوامل الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والسياسية المساهمة في توسعه.

حوادث سجلت في ولاية قفصه، أبرزها حادث المرور الذي جد بالمسلك الفلاحي الرابط بين قرية سيدي عيش والطريق الوطنية رقم 3 الرابطة بين قفصة وتونس في أواخر سنة 2014 والذي أسفر على موت عاملتين فلاحيتين وجرح 11 عاملا وعاملة آخرين، علما أن الشاحنة كانت تنقل ما لا يقل عن 18 عاملة وعاملا أصيلي معتمدية سيدي على بن عون من ولاية سيدى بوزيد[4]، كما أثار حادث شاحنة تنقل فلاحات سنة 2019 في مدينة السبالة جنوب تونس راح ضحيته 12 شخصاً (7 فلاحات)  موجة سخط وإستياء كبيرين في الأوساط الشعبية والحقوقية[5]، علما وانه   تم تسجيل 7 قتيلات و85 جريحة سنة 2015، مقابل 15 قتيلة 72 جريحة سنة 2019، كما أن عدد القتلى من النساء العاملات في هذا القطاع بلغ بين سنتي 2015 و2019 نحو 47 قتيلة وأكثر من 630 جريحة، لاسيما في ظلّ غياب أي شكل من اشكال التأمين[6].

أخبار نقرأها يوميا  على أعمدة الصحف أو غيرها من وسائل الإعلام تتناول مآسي فلاحات دفعن بحياتهن في سبيل لقمة عيش كريمة، ويتواصل ذلك دون أن نرى أي تفاعل إيجابي أو خطوات جادة من الطرف الحكومي لوقف نزيف الموت الذي طال اليد العاملة النسائية. بل تعاملت الهياكل المختصة في غالب الأحيان بطريقة اللامبالاة والصمت الرهيب وعدم تحمل مسؤولية ما يحصل من إنتهاك وسط إتهامات من أطراف عدة بالتقصير والتأخر في ايجاد الحلول.  والملاحظ أيضا هو التطرق لقضية العاملات في القطاع الفلاحي بشكل مناسباتي لا يستجيب لإنتظارات الألاف منهن اللاتي يأملن في قرارات تغير من واقعهن وتضع حدا لمظاهر الاضطهاد اللاتي يتعرضن لها.

مناشدات حقوقية لوقف نزيف الاستغلال   

لم تظل المنظمات الحقوقية والحركات النسوية في تونس بمعزل عما أنتجه الواقع الحقوقي عقب 2011 من زيادة وعي بأهمية حقوق النساء لكونها جزءا لا يتجزأ من حقوق الانسان عامة، وقد لعبت الاطراف المناصرة لحقوق النساء  دورا بارزا في رصد الانتهاكات والتنديد بها والدعوة الى إدخال إصلاحات جذرية في ما يخص ضمان حقوق المرأة في مختلف الميادين. وعلى هذا الأساس لم تتوقف متابعة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لملف العاملات الفلاحيات بمختلف مناطق الجمهورية، وتجددت الدعوة في أكثر من مناسبة الى ضرورة التعجيل بتحسين ظروف النقل المتردي لتفادي تكرر الحوادث المميتة إضافة الى المطالبة بإنفاذ القانون عدد 51 لسنة 2019 والقاضي بإحداث صنف جديد لنقل العملة الفلاحيين، وتنفيذ التعهدات التي اعلنت عنها الحكومة في نفس السنة في ما يخص شروط ومعايير تنظيم هذا القطاع في شكل أوامر ترتيبية من بينها الامر عدد 724 المتعلق بمكوّنات عملية النقل بما فيها السائق وطبيعة السيارة.

أصوات لم تهفت رغم لامبالاة الحكومات التي تعاقبت على مر العشرية الفارطة. ومطالب عدة بتحسين وضع العاملات في القطاع الفلاحي بمختلف مناطق الجمهورية بدءا من ظروف النقل الى الأجور وغيرها من الحقوق المضمونة دستوريا. ولئن تواصل صكت الدولة تجاه هذا الملف الحساس فإن الوقت قد حان لوقف هذا الانتهاك الذي طال أكثر الفئات هشاشة.

[1] https://www.facebook.com/siwar.ameidia

https://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf

[2]

https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2014.pdf?lang=ar

[3]

[4] https://www.jomhouria.com/art15569_

https://www.independentarabia.com/node

[5]

[6] https://www.hakaekonline.com/article/135797/