كلمة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الذكرى العاشرة لتأسيسه

0
3649

في البداية، أرحب بالرفيق أبو أحمد فؤاد نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والرفيق كايد الغول عضو المكتب السياسي. مرحبا بكم في دياركم وبين رفاقكم.

كما نحيي الرفيق الأسير الأمين العام أحمد سعدات ومن خلاله كل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني… نحيي نضالاتهم وصمودهم.

كما لا يمكن أن ننسى رفاقا فقدناهم وميزوا مراحل معينة في تاريخ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: الرفيق وديع حداد، الرفيق جيفارا عزة، والرفيق غسان كنفاني، أبو علي مصطفى وحكيم الثورة الرفيق القائد جورج حبش.

لقد كانت مراحل غنية بتجاربها الثورية.

كما لا يمكن أن ننسى شهداءنا في مختلف الفصائل الفلسطينية فقد كانت دماؤهم تونسية وقلوبهم فلسطينية.

كما نقف احتراما وتقديرا لجميع التونسيات والتونسيين الذين غادرونا طيلة الفترة المنقضية في الحركة الديمقراطية والاجتماعية لما قدموه خلال مسيرتهم للحركة النسوية وللحركة الديمقراطية.

الصديقات والأصدقاء،

كان من المفترض في الذكرى العاشرة التعرض لأهم المحطات التي قطعها المنتدى ولكن نظرا لأهمية ودقة المرحلة التي نمر بها اليوم يتحتم علينا النظر في كل ما هو آني.

لم تعرف بلادنا بعد انتخابات 2019 حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي لعدة أسباب منها العائد لجائحة كورونا ومنها العائد لمسؤولية الأغلبية الحاكمة الجديدة فقد استمرت السياسات الحكومية في نفس النهج متجاهلة مطالب الحركة الاجتماعية وعمق الهوة بين المحتجين والحاكمين.

ولم تكن تحركات الشباب خلال شهر جانفي الفارط مفاجأة لنا بل توقعناها ونبهنا منها. كانت تحركات الشارع وغضبه حدثا متوقع والأمر يختلف هذا العام عما صار يُعرف في تونس منذ عقود بتحركات جانفي السنوية اذ تجمعت جملة من العناصر غير المسبوقة الاقتصادية والسياسية والصحية.

اذ كشفت الأزمة الصحية واقعا لم يعد من الممكن اخفاؤه فبعد أن ظلت أرقام الفئات الهشة غير معلومة بصورة دقيقة للعموم صارت هذه المعطيات اليوم متداولة بين الناس من خلال الخطاب الحكومي والتغطية الاعلامية فالى جانب 700 ألف معطل عن العمل نحصي 285 ألف عائلة معوزة و 622 ألف عائلة ذات دخل محدود وحوالي 70 ألف عامل حضيرة و 40% من 950 ألف متقاعد يتقاضون جراية أقل من الأجر الأدنى المضمون نضيف اليهم آلاف النساء العاملات في القطاع الفلاحي واللواتي يمثلن 70% من مجمل اليد العاملة الفلاحية كما عرّت هذه الأزمة الصحية الحالة المتردية لقطاع الصحة العمومية.

ان قاعدة الهرم الاجتماعي العريضة التي تشكو الخصاصة وضيق ذات اليد اصطدمت مع جائحة كورونا بحدث أربك حياتها اليومية وزعزع اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا توازنها الهش ونزع الحجاب عن معاناتها.

من الحيف تحويل مواطنين يتقاسمون معنا تراب الوطن ويتمتعون وفق الدستور بنفس الحقوق الى أرقام أو الى حشود بشرية احتلت الشوارع رغم أوامر الحجر الصحي. في هذه العلنية وفي هذه المرئية دلالات فهي تطرح على الديمقراطية التونسية تحديات صارخة لم يعد من الممكن اليوم غض النظر عنها.

لقد وقفنا خلال شهر جانفي عند مشاركة مراهقين بين 15 و18 سنة في هذه الاحتجاجات أي من كانوا أطفالا عشية الثورة ولم يعرفوا سوى النخب الحاكمة الحالية. وتواصل تحرك الشرائح العمرية الشبابية الأخرى (18 – 25) و (25 – 35) وهو ما يعني أننا من الناحية الديمغرافية أمام وضع متحول سمح بدخول دفعة جديدة من الشباب المحتج واتساع الهوة بينه وبين الأجيال السابقة.

فالمواجهة كانت محتملة غير أن حجم الايقافات والانتهاكات كان غير مسبوق وكشف عودة السياسة الأمنية فمن خلال متابعة حملة الايقافات قدرت احصائيات الأيام الأولى للتحرك ب 1680 ليرتفع الرقم الى 1960 بعد أيام كما عرفت حملات الاعتقال ذروتها أيام 18 جانفي حيث سجلنا 632 ايقاف بالعاصمة وتونس الكبرى وحدها من أبناء حي التضامن والملاسين وفوشانة والسيجومي وطبربة ثم يوم 20 جانفي حيث سجلنا 200 ايقاف معظمهم قصر ويوم 21 جانفي سجلنا ايقاف 242 شاب.

والى جانب الرقم المرتفع لعدد الموقفين بشكل غير مسبوق منذ 2011 نشير الى توظيف ترسانة من القوانين البالية التي لم تعد تتلاءم مع مبادئ الدستور والمدونة الدولية لحقوق الانسان والتوجه نحو تسخير القضاء كأداة ردع للحركة الاحتجاجية.

لقد خيمت أيها الأصدقاء بعد عشر سنوات من الثورة، في ظل حكومة المشيشي، أطياف الدولة الأمنية وارتفعت مخاوف العودة الى الماضي خاصة مع رسائل التهديد الصريحة للحقوقيين والسياسيين الصادرة عن الائتلاف الحاكم.

ولقد وقفنا من جهتنا بعد قراءتنا لهذا المنعرج بعد العشرية الأولى للثورة على حيوية الحركة الاجتماعية والمواطنية حيث تواصلت المقاومة المدنية والسلمية على عدة واجهات وشملت الحركات الاجتماعية والحركات الشبابية والحركات البيئية والاحتجاجية للحركات الشعبية مثل عائلات مفقودي الهجرة غير النظامية والعاطلين والعاطلات عن العمل وضحايا التشغيل الهش وصغار الفلاحين والفلاحات والبحارة وصغار المنتجين والمنتجات وضحايات التلوث البيئي، فتميزت بتنوعها وانتشارها وتجدد وسائلها وطرحها لمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما شهدت قطاعات من الأجراء تحركات نقابية هامة خاصة في الصحة والتعليم مؤكدة مخاوف الطبقات الوسطى نفسها.

من جهة أخرى وقفنا عند نهاية التوافق العقيم السابق بين النهضة ونداء تونس منذ 2016 ومأزق التوافق اللامبدئي بين النهضة وقلب تونس وإتلاف الكرامة الى حدود 24 جويلية 2021.

ما نتج عن سقوط هذه التوافقات بروز خطوط صراع اجتماعي صريح تعلقت بالحق في الشغل والتنمية وبمقاومة الفساد وفرض المساءلة.

من هنا وصلنا الى الاقرار بمأزق الانتقال الديمقراطي وبأن فكرة “الانتقال” المستند الى التوافقات المشبوهة والتي ما فتئت تحكم لعبة التحالفات بين مكونات المشهد السياسي أصبحت خدعة لا بد من القطع معها.

لذلك نعود الى ثوابت الثورة كحدث تاريخي جلل وحتى ان لم يجن منها منتفضو الأمس وأقرانهم اليوم سوى المرارة، فإنها لم تمت في أذهانهم ومازالت مدرجة في أفق تطلعات الشباب. ورغم تراجع هذا الأفق إلا أنه لم يتبخر لأن 17 ديسمبر و14 جانفي فتحا ثغرة على الممكن بكل أوجهه وأشكاله ونحن لا نزال لا فقط نؤمن بذلك بل نعمل من أجله صونا لأمانة الشهداء ووفاء لمبادئنا.

ان عنوان المرحلة التي نعيشها اليوم هو ضرورة دخول فاعلين جدد حقل التغيير السياسي والاجتماعي كشرط حاسم للخروج من الأزمة العضوية التي تلازمنا منذ 2011 والتي لم تنجح أغلب النخب السياسية في حلها لأمها رفضت ميلاد الجديد بعد موت القديم ولأن حل هذه الأزمة يقتضي كسر الطوق عن الفضاء العام ودمقرطته وجعله متاحا للجميع. فلا مجال هذه المرة لإقصاء هؤلاء الفاعلين ولا صدهم واستبعادهم فهم قوة التغيير المقبل ومن المهم أن يكتسبوا بدورهم موارد وقدرات جديدة لفعلهم السياسي المقبل وأن ينتظموا بصيغ جديدة ومبتكرة ويقتحموا مجال التغيير من داخل المؤسسات.

 تلك هي المهمة التي أوكلناها لأنفسنا بدءا من الغد لأننا مقتنعون أكثر من أي وقت مضى بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الأسفل، أي من خلال اشراك الفاعلين أنفسهم. وفي تقديرنا هناك حاجة ملحة للتحرك بل وللتحرك بطريقة جديدة ومبتكرة من أجل اعادة الأمل للشباب وإعادة فتح افاق التغيير الاجتماعي فليس قدرنا أن نبقى سجناء هذا الانسداد المزدوج بين هيمنة النخب والتحالفات الحاكمة من جهة ومنطق صندوق النقد الدولي الذي يسيطر عليه اهتمام واحد وهو العودة الى التوازنات الاقتصادية الكلية الرئيسية، بغض النظر عن مدى تعقد الأزمة الاجتماعية والصحية. يتمسك المانح الدولي بتوجيهاته التقليدية:

التقشف وتخفيض النفقات العمومية والخصخصة … خارطة طريق كهذه لا يمكن إلا أن تؤدي إلى انفجار اجتماعي آخر.

       لقد إخترنا لكسر هذا الانسداد  نهج مجتمع المقاومة ومنطق المدافعين عن الحريات والحقوق و نهج  النضال من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية..

إن المنتدى على اقتناع راسخ بأن المرحلة الحالية في تاريخ تونس تتطلب أكثر من أي وقت مضى العمل على تعميق التقارب بين الجمعيات والقوى والحركات الاجتماعية المناضلة صلب المجتمع المدني وخارجه لتحويل موازين القوى الحالية وتحويرها نحو منحى أكثر ملاءمة لإعمال جميع الحقوق حتى لا تخيب الآمال ولا يُفسح المجال لليأس والفوضى، وحتى لا تبقى المكاسب الدستورية الحقوقية مجرد حبر على ورق.

وأمام أزمة التنظيمات  السياسية، فإن المجتمع المدني و الحراك الاجتماعي مدعو إلى توحيد القوى من أجل التقدم على طريق التغيير وتشجيع النقاش الجاد والعميق من أجل  بدائل نضالية و برنامجيه  تتناسب مع التحديات العديدة التي تواجهها تونس.

 هنا تتنزل مبادرتنا في الدعوة إلى مؤتمر وطني للحركات الاجتماعية والمواطنية من اجل خلق مساحة للتعبير والتقاطع والالتقاء والتضامن للتفكير بشكل مشترك في مستقبلنا المشترك بما يضع حدا للمسارات الانفرادية والاستراتيجيات الفردية ويبني  رابطة اجتماعية ومواطنية تدافع عن المشترك الوطني .

الأصدقاء و الصديقات السادة الضيوف

لقد كانت مبادرتنا بالدعوة الي المؤتمر الذي نُشر نداؤه وقائمة الدّاعين اليه للعموم يوم 10 أوت  سابقة لمنعرج 25 جويلية بل هي وليدة تقييم عميق تأكدت الحاجة اليه بعد عشرة سنوات من ثورة الحرية و الكرامة وبعد انتفاضة الشباب الأخيرة

 غير أن ما جاء به 25 جويلية ثم 22 سبتمبر دفعنا بالتنسيق مع منظمات و جمعيات صديقة الي تأكيد تشخيصنا حول انسداد منظومة الحكم السابقة وعجزها عن تجاوز عطالتها ووقف رداءتها وصممها الذين جعلا من إسقاطها، ولو بغير الوسائل القانونية،  ضرورة تاريخية في نظر أغلب قطاعات المجتمع، ومخرجا وحيدا، كما جعلا من إلغائها  واقعة سياسية إيجابية يمكن البناء عليها من أجل حماية مستقبل الديمقراطية، ولا يمكن بالنتيجة قبول عودتها كما كانت عليه فهي اليوم في عداد الماضي ويفترض أن يكون المستقبل مغايرا.

ومع ذلك فإن  تجاربنا النضالية و مبادئ حقوق الانسان التي نؤمن بها وقيم الديمقراطية التعديد والتشاركية التي لا نتنازل عنها كمكسب من مكاسب الثورة  تجعلنا لا نستطيع أن نمنح صكّا على بياض لأحد لأننا جربنا في الماضي منظومة الحزب الواحد والزعيم الأوحد وتعرفون كلكم مآلاتها الوخيمة فتحوّل  السيادة من المؤسسات المنتخبة الي يد ”رجل واحد” في ضلّ حالة الاستثناء التي تتعارض مع القاعدة الديمقراطية كقاعدة دائمة وملزمة للجميع وضامنة للتعدّد والعيش المشترك  تضلّ حاملة لمخاطر، ولا يمكن لنا تبرير ديمومة حالة الاستثناء والتنظير لها. والأصل في الأشياء في نظرنا  أن تعود سلطة القانون كسلطة عليا تحكم دولة الحق والعدل كدولة ضامنة لعلوية القانون وخاضعة له في ذات الحين. والمنتظر لتونس اليوم هو عودتها  سريعا الى الشرعية الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلطات وضمان الحريات والتعددية.  ولا نستطيع أن نقبل حتى في ضلّ التأييد الشعبي للرئيس الابطاء في إعلان خريطة طريق للمرحلة القادمة و إجراءات استثنائية لمواجهة التحديات الاقتصادية و الاجتماعية  .

ان المطالبة بضرورة توفر ضمانات لعدم انتكاس التجربة الديمقراطية لا بدّ  ان  تقترن بالعمل المضنى  على تشكيل السلطة المضادة التي تقف في وجه كلّ انحراف، وقد يبدو اليوم الخوف من هكذا انحراف مشغل مناضلي حقوق الانسان والمدافعين عن الحريات، فإنه  سيعني غدا فئات اجتماعية و عموم المواطنين والفقراء وأصحاب الحقوق الاجتماعية حين يستأنف الاحتجاج الشعبي زخمه ضدّ منظومة الهيمنة الاقتصادية والطبقية وضدّ السياسات الليبرالية.

ونزيد هنا  التأكيد على ما نردده منذ 25 جويلية  بأنّ إنهاء منظومة الحكم الفاسدة وأجهزتها المنقلبة على شعارات الثورة التونسية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن تُعوّض بسياسة التردّد والضبابية وغياب برنامج عمل واضح وشفاف للفترة القادمة ومحدّد بسقف زمني فضلا على أنّ التأسيس لمرحلة ما بعد  25 جويلية 2021 يجب أن يُبنى على نقاش  مجتمعي واسع تساهم فيه مؤسسات المجتمع المدني والقوى الديمقراطية والوطنية  في البلاد، بعيدا عن الحوارات المغشوشة والالتفافية والشعارات الاستعراضية

 ويهمنا ختاما أيها الأصدقاء  التذكير بأن ما يحرك كل جهودنا في المنتدى هو مشروع وطني للدولة والمجتمع، يضع سياسات عمومية شعبية وديمقراطية، تلبي التطلعات الحقيقية للتونسيين  وتهدف الى مراجعة منوال التنمية وتستجيب إلى أهداف الثورة وتُوضع بشكل تشاركي على أساس قواعد معلومة للمساءلة والمحاسبة والمراقبة والشفافية ونحن اليوم على استعداد للمساهمة في ذلك من موقع السلطة المضادة ومن موقع المشاركة السياسية  أو عبر مؤسسات الدولة التي لا بدّ أن تكون دولة كلّ التونسيين .

ونضل على نفس اليقين بأن مشروع المنتدي هو جزء من حركة مغاربية و افريقية ودولية تؤمن بحقوق الشعوب وتتصدي لهيمنة الليبرالية الجديدة لذلك سنستمر في أن نكون جزءا من هذه الحركة العالمية التي تعمل من أجل تقاطع النضالات لتحقيق عالم أفضل.

شكرا لكم على مشاركتكم في احياء هذه الذكرى  وموعدنا غدا صباحا في نفس هذه القاعة لحضور الجلسة التحضيرية للمؤتمر الوطني للحقوق الاجتماعية والمواطنية المزمع عقدة أيام 10 و 11 و12 ديسمبر 2021.

 فطريق الالف ميل يبدأ بخطوة

المجد والخلود للشهداء