نظام الزراعة الرملية: طريقة زراعية فريدة من نوعها في العالم في مواجهة الإنسان والتغيرات المناخية

0
1497

نظام الزراعة الرملية: طريقة زراعية فريدة من نوعها في العالم في مواجهة الإنسان والتغيرات المناخية

أسماء بوحجر[1]

  1. نظام زراعي فريد في مواجهة التغيرات المناخية والأنشطة البشرية:

تعتبر منطقة غار الملح التابعة لولاية بنزرت أول مدينة عربية وشمال أفريقية تدخل قائمة رامسار لمدن الأراضي الرطبة[2] نظرا لاحتوائها على بحيرة غار الملح وسبخة سيدي على المكي التي تتميز بنظام الزراعة الرملية أو ما يطلق عليه السكان المحليون “الرملي” وهي تقنية زراعية تقوم على الزراعة في جزر رملية صغيرة داخل سبخة سيدي علي المكي يطلق عليها اسم “القطايع”.  هذا النظام الزراعي شهد خلال السنوات الأخيرة ضغوطات بشرية متزايدة إلى جانب تغيرات مناخية، أصبحت تهدد استمرارية هذه المنظومة الإيكولوجية الفريدة من نوعها ليس فقط في تونس، بل في العالم.

 وتشكل “القطايع” قرابة ربع المساحة الكلية لبحيرة غار الملح، ويشتغل نظام الزراعة الرملية في “القطعاية” وفقا لحركة المد والجزر لري المحاصيل المزروعة في الرمال من خلال ملامسة الجذور للمياه العذبة التي ترتفع فوق مياه البحر خلال عملية المد.

 إلا أن هذا الموروث الزراعي النادر، والذي تم تصنيفه سنة 2020 من قبل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) كتراث زراعي ذو أهمية عالمية “SIPAM “[3] يواجه اليوم تحديات كبرى تهدد باضمحلاله نتيجة للانتهاكات المتواصلة للمجال البحري بسبب الأنشطة البشرية والمتمثلة أساسًا في إنشاء الميناء التجاري الجديد والطريق المؤدية إليه إضافة إلى تحويل مصب وادي مجردة وتوسيع الأنشطة السياحية والبناءات العشوائية على حساب “القطايع” من جهة والتحديات المناخية كقلة التساقطات وتوالي سنوات الجفاف من جهة أخرى.

وفي إطار زيارة ميدانية قام بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى “القطايع” بمنطقة غار الملح لمعاينة جملة التحديات التي يواجهها هذا الموروث الزراعي الهام، تم الاستماع إلى شهادات مزارعين وممثلين عن خلية الإرشاد الفلاحي بالمنطقة، الذين أكدوا أن الإشكال الأساسي المتعلق بهذا النظام الزراعي يتمحور حول نقص تزويد سبخة سيدي علي المكي بمياه البحر، إضافة إلى ندرة التساقطات، مما أدى إلى ارتفاع ملوحة تربة “القطايع” وقلة تشبع المحاصيل باحتياجاتها من المياه العذبة. ونتيجةً لهذه العوامل، تراجعت مردودية “القطايع” مما أثر سلباً على مداخيل فلاحي المنطقة.

كما يجدر التنويه بأن سبخة سيدي علي المكي كانت تتغذى قديما عن طريق ثلاث ممرات بحرية رئيسية أحدها، من جانب البحر وقد تم اجتياحه بالبناء العشوائي، أما الممران الآخران فقد كانا من جهة بحيرة غار الملح، والتي تسمى أيضاً “بالبْحِيرة” وتم التخلي عنهما ببناء الطريق المؤدي إلى الميناء.

إلا أنه ومنذ تحويل مصب وادي مجردة نحو الجنوب وبناء السدود على ضفافه، شهدت البحيرة انخفاضًا واضحًا في إمدادات المياه العذبة، مما أدى إلى تراجع دور البوغاز[4] القديم مع مرور الوقت. ومنذ ذلك الحين، تم التخلي عنه لأسباب تتعلق بالتجريف المستمر، ليتم تبعا لذلك فتح ممر مائي جديد جنوب ميناء الصيد الجديد.

كما أن الحل الذي اعتمدته السلطات المعنية لم يساهم في تلافي المشكلة، حيث أن البوغاز الجديد الذي تم فتحه في الطريق الرابطة بين منطقة غار الملح والميناء غير قادر على القيام بوظيفته بشكل كافٍ لتأمين تزويد السبخة بمياه البحر. بالإضافة إلى ذلك، فقد حمل معه نفس إشكاليات البوغاز القديم من تكتلات رملية مستمرة تعرقل عملية مرور المياه، والتي تتطلب تجريفًا مستمرًا.  علاوة على ذلك، فقد عمد بعض المواطنين في المنطقة إلى تثبيت الكثبان الرملية المتشكلة في المجرى المائي الذي يغذي السبخة بهدف إنشاء منشأة سياحية، ونتيجة لهذه التدخلات تم الحد من كمية الماء المتدفقة عبر البوغاز المغذي للسبخة.

صورة توضيحية لنظام “الرملي” بين البحر والسبخة والبحيرة

 

صورة توضيحية للمشكل المطروح بتاريخ 11/06/2024 على ضفاف سبخة سيدي علي المكي

كما أثر بناء الميناء والطريق المؤدية إليه على الوظيفة الطبيعية للنظام الرملي، حيث كان نظام القطعاية يعتمد بشكل مباشر على الاتصال بين السبخة والبحيرة عبر البوغاز، ولكن هذا الاتصال تم تغييره مع بناء ميناء الصيد في عام 1975 وطريق الوصول إليه، مما عرقل عملية تمازج ماء البحيرة بالسبخة. بالإضافة إلى ذلك، تراكمت الرواسب في شرق الميناء وتآكل جانبه الغربي، وقد بلغ التراكم حداً حرجاً في عام 1983، حيث بدأت الرواسب بالالتفاف حول حاجز الميناء والتراكم عند مستوى القناة البحرية، مما استلزم حملات تجريف متزايدة ومتكررة.

  1. تراخي الدولة وهياكلها في حماية نظام الزراعة الرملية:

رغم أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قد حذر منذ 17 ماي 2016 من وجود تحديات حقيقية تتمثل أساسًا في ارتفاع منسوب مياه البحر على حساب الأراضي الزراعية بمنطقة غار الملح، خاصة في سنوات 2020، 2030، 2050، و2100، إلا أن السلطات المعنية على المستوى الوطني وعلى رأسها وزارة الفلاحة وعلى المستوى الجهوي ممثلة في المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية، المجلس الجهوي للولاية والوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي لم تتخذ أيا من الإجراءات الأساسية واللازمة لحماية هذه الأراضي الزراعية من التغيرات المناخية. ونتيجةً لذلك، يجد الفلاحون أنفسهم اليوم في مواجهة التراجع السريع لمساحات “القطايع” بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر، وهوما يهدد بغرق الزراعات الرملية.

وفي مواجهة هذه التغيرات، يرى فلاحو المنطقة أنه من الممكن التقليل من حدة هذه الظاهرة عن طريق استغلال الرمال الزاحفة باتجاه البحيرة بهدف إصلاح الأراضي ورفع مستواها على البحر، إلا أن الإطار القانوني التونسي وعن طريق وكالة حماية وتهيئة الشرط الساحلي يمنع هذه العملية، مما يجعل الفلاحين عاجزين عن الحفاظ على أراضيهم.

بالإضافة إلى هذه التغيرات المناخية، يواجه نظام الزراعة الرملية تحديات بشرية تتعلق أساسًا بالبناءات العشوائية التي تهدد السواحل في ظل تراخ من الدولة لمنع هذه التجاوزات على الرغم من أن الإطار القانوني في الفصل 25 من مجلة التهيئة الترابية يحظر البناء على مسافة تقل عن 100 متر ابتداءً من حدود الملك العمومي البحري في المناطق الساحلية. كما ينص القانون رقم 73 لسنة 1995[5] في فصله الثاني والمتعلق بحماية الملك العمومي البحري على أن البحيرات والمستنقعات والسباخ المتصلة طبيعيًا وسطحيًا بالبحر تُعتبر ملكًا عموميًا.[6]

ورغم وجود إطار قانوني يحمي الملك العمومي البحري، إلا أن سبخة سيدي علي المكي شهدت منذ سنة 2010 ارتفاعًا متزايدًا في عدد المباني، وفقًا لما نشره موقع ‘العربي الجديد’ بناءً على تقرير داخلي للإدارة الجهوية ببنزرت التابعة لوكالة حماية الشريط الساحلي، والذي يوثّق بالصور تشييد 60 منزلًا أو طابقًا علويًا بالمنطقة، وذلك حتى تاريخ 15 يناير 2015. [7]  لينتج عن هذه التجاوزات تحديات كبرى أصبح نظام الزراعة الرملية يواجهها.

  • الأثار الناتجة عن هذه التحديات والتوصيات:

ساهمت الأنشطة البشرية المختلفة في اختلال التوازن الذي تقوم عليه تقنية الزراعة الرملية، مما جعلها تعاني من هشاشة مزدوجة تفاقمت مع التغيرات المناخية لتؤثر على مردودية ‘القطايع’. حيث أنه، وبحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO) [8] فإن متوسط الإنتاج في سنة 2020 من البصل كان يتراوح بين 28 و33 طنًا في الهكتار، والبطاطا بين 22 و33 طنًا في الهكتار، أما اللوبيا البيضاء فقد تراوح إنتاجها بين 3.6 و7.6 طن في الهكتار. ومع ذلك، شهدت الإحصائيات تراجعًا بما يفوق الثلثين في السنوات الأخيرة، وذلك حسب شهادات فلاحي المنطقة.

وأمام هذه الإشكاليات التي تواجهها “القطايع”، فإن مختلف الجهات المتداخلة والمعنية على دراية وإدراك بأن تواصل هذه التهديدات دون تدخل من طرف السلطات المعنية لحمايتها سيؤدي حتمًا إلى فقدان هذا الموروث الثقافي والزراعي. وهو ما أكد عليه الفلاحون وما أفادتنا به خلية الإرشاد الفلاحي بمنطقة غار الملح، التي اعتبرت أنه حسب التوقعات، وفي حال عدم تدخل الجهات المعنية، سيشهد هذا النظام اندثارًا في غضون أربع سنوات، حيث أفادتنا ممثلتها أنه : “بعد أربعة سنين معادش باش تلقي قطايع”.

وبناءً على ما تقدم، وبعد الزيارة الميدانية التي قام بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى منطقة غار الملح، فإنه يوصي بـ:

  • الاستئناس برأي الخبراء وخبرة فلاحي القطايع من أجل فتح ممر جديد من جهة البحر بهدف ضمان استمرارية تزويد السبخة بالكميات الكافية من الماء بواسطة قنوات ذات توجهات وعمق مناسب وبشكل مستدام.
  • جرف الرمال الموجودة من جهة البحر والتي تشكلت مكان الحوض المائي ومنع تثبيتها من خلال سن قانون للغرض وفرض عقوبات.
  • الحد من الضغوطات البشرية المتزايدة بالمنطقة والتي تؤثر على توازن النظام البيئي الذي تقوم عليه الزراعة الرملية.
  • نشر الدراسة المندرجة ضمن مشروع «Gemwet» وتفعيل مقترحاتها الهادفة إلى تحسين تدفق وجودة المياه إلى سبخة سيدي علي المكي، والتي أعلنت وزارة الفلاحة منذ سنة 2021 أنها في مرحلتها الثانية في تقريرها الوطني حول قطاع المياه. كما يدعو إلى إعلام مختلف الفاعلين المحليين بمآل هذا المشروع.
  • سن تشريعات تعطي امتيازات/استثناءات لفلاحي “القطايع ” خاصة في علاقة بنقل الرمال من أجل المحافظة على مستوى الاراضي وتساهم في الحد من وضعية الهشاشة التي تعاني منها المنظومة الزراعية.
  • تثمين هذا الموروث الزراعي في إطار ديناميكية سياحية جديدة تقوم على السياحة الايكولوجية ويحترم فيها التدخل البشري التوازنات الطبيعية القائمة.

[1] المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

[2] https://shorturl.at/JFlLe

[3] https://www.fao.org/giahs/news/archives/news-in-2020/ar/?page=5&ipp=4

[4] البوغاز: ممر مائي يربط مياه البحر بالسبخة.

[5]  قانون يتعلق بإصدار مجلة التهيئة الترابية والتعمير – مرصد دعم (daamdth.org)

[6] https://lejuriste.ahlamontada.com/t512-topic

[7] https://shorturl.at/lSC7d

[8] https://shorturl.at/GiFtQ

 

Télécharger (PDF, 354KB)