بيان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمناسبة عيد الشغل 1 ماي 2025
بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين بعد المائة لعيد الشغل العالمي، يتوجّه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتحية تقدير وإجلال إلى العاملات والعمّال في تونس وفي كافة أنحاء العالم، ويؤكد مجددًا التزامه المبدئي والثابت بمواصلة النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفئات العاملة والكادحة.
انّ عيد الشغل لا يمثل محطة نضالية رمزية فحسب، انه يوم تستحضر فيه البشرية جمعاء تاريخًا طويلًا من الكفاح العمّالي، الممزوج بالتضحيات والآلام والدماء، من أجل افتكاك حقوقهم الإنسانية والاجتماعية. وإنها مناسبة لا يمكن اختزالها في الاحتفال، فهي تشكّل لحظة تأمل واستذكار لمبادئ رسّختها نضالات الحركات العمّالية منذ بدايات القرن العشرين، ومناسبة للتأكيد على أنّ الحقوق، وعلى رأسها الحق في العمل اللائق والعيش الكريم، لا تُمنح بل تُنتزع انتزاعا. وهي دعوة متجددة لكل الأجيال كي تدرك أنّ حقوق الإنسان، بكل أبعادها، لا يمكن أن تكون مجرّد شعارات بل التزامًا نضاليًا متواصلًا من أجل العدالة والحرية والمساواة.
وفي هذا اليوم الذي نستحضر فيه التضحيات العظيمة التي قدّمها العمال والعاملات عبر مختلف مراحل التاريخ، نجد أنفسنا في مواصلة نفس المسيرة النضالية، التي تجددت مع اندلاع الثورة التونسية في 2011، والتي حملت في طياتها تطلعات عميقة إلى الحرية والكرامة والمساواة. حيث انطلق مسار جديد عنوانه الأبرز العدالة الاجتماعية سعيا إلى إعادة الاعتبار للفئات الشعبية الكادحة وإقرار حقوق طال انتظارها.
لكن، وعلى الرغم من التقدم الذي أُحرز على مستوى الاعتراف القانوني بجملة من الحقوق، فإن الواقع الاجتماعي والاقتصادي ما لبث أن كشف عن هشاشة هذه المكتسبات. فقد رافقت مسيرة ما بعد الثورة تحديات عميقة، أظهرت استمرار الإقصاء واتساع فجوة التفاوت الاجتماعي، حيث بقيت العديد من النصوص القانونية دون تفعيل، وتلاشت وعود الإصلاح أمام غياب الإرادة السياسية والسياسات العمومية الفعالة. وفي هذا السياق، تواصل الفئات الكادحة نضالها اليومي من أجل الحد الأدنى من العيش الكريم، وسط ظروف عمل قاسية، وغياب منظومة حماية عادلة وشاملة في وقت لا تزال فيه تلك المكاسب، التي تحققت بعد الثورة، بعيدة عن التطبيق الفعلي والواقعي.
ورغم الجهود المعلنة لتطوير المنظومة القانونية، لا يزال الواقع الذي يعيشه العمال في تونس مريرا، إذ تبقى القوانين، على أهميتها، دون أثر فعلي على أرض الواقع بسبب ضعف آليات التنفيذ والرقابة، ما يتيح استمرار استغلال اليد العاملة دون مساءلة أو محاسبة. ويتجلّى هذا الوضع بشكل أكثر حدة في القطاعات الهشة، مثل النسيج والفلاحة وغيرها، حيث يُجبر العمال والعاملات على العمل في ظروف تفتقر إلى أبسط معايير السلامة والكرامة، وبأجور لا تضمن العيش الكريم. وتزداد هذه الأوضاع تفاقما في ظل موجات التضخّم المتصاعدة وارتفاع الأسعار غير المسبوق، مما يهدد استقرارهم، ويعمّق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.
إن التحديات المتفاقمة التي تواجه الطبقة العاملة تستدعي معالجة شاملة، تبدأ بإقرار إصلاحات جذرية في المنظومة التشريعية، فقد بات من الواضح أن التشريعات العمالية القائمة لم تعد قادرة على مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تعرفها البلاد. فمجلة الشغل، التي تعود إلى سنة 1966، وخضعت لمراجعة في سنة 1996، باتت اليوم غير كافية للاستجابة لمتطلبات المرحلة الراهنة، مما يستوجب مراجعة شاملة تُكرّس الحقوق العمالية الفعلية وتؤسّس لبيئة عمل لائقة وعادلة، تحترم كرامة العاملات والعمال وتحفظ حقوقهم في مختلف القطاعات.
ولا يمكن لأي مراجعة جدّية أن تتم بشكل انفرادي أو تُفرض من طرف واحد، بل ينبغي أن تُبنى على مقاربة تشاركية فعلية، من خلال آليات مؤسساتية للحوار والتشاور تضم مختلف الأطراف المعنية. حيث إن الانخراط الشامل في هذا المسار الإصلاحي من شأنه أن يرسّخ مبادئ العدالة الاجتماعية، ويُفضي إلى منظومة تشريعية أكثر عدلًا ونجاعة.
كما يُعدّ إدماج القطاع غير المهيكل، الذي يحتضن شريحة واسعة من القوة العاملة، ضمن الإطار القانوني والاجتماعي، خطوة ضرورية لضمان الحقوق الأساسية لكل عامل، لا سيّما في ما يتعلّق بالحماية الاجتماعية والإنصاف والكرامة. كما تبرز الحاجة إلى دعم دور العمل النقابي وتعزيزه، عبر توفير شروط استقلاليته وفاعليته، ليضطلع بدوره الحقيقي في الدفاع عن حقوق العمال والعاملات والتصدي لكل أشكال الاستغلال والهشاشة التي تنخر سوق الشغل.
ومن هذا المنطلق، يعبّر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن دعمه المتواصل للعاملات والعمال في مختلف مواقع العمل خاصة في القطاعات ذات الهشاشة، مؤكدا أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ليست امتيازات ظرفية أو مطالب قابلة للتأجيل، بل التزامات يجب احترامها وتفعيلها دون تردد أو تسويف. وإن استمرار الانتهاكات، وضعف الرقابة، وغياب آليات المساءلة الفعالة والرادعة، كلها عوامل تكرّس مناخا من التهميش والاستغلال، تستدعي تدخّلا عاجلا لإقرار إصلاحات عميقة وشاملة تضمن العدالة والانصاف في سوق الشغل. كما يذكّر المنتدى بضرورة إدماج العاملين في القطاع غير المنظم ضمن منظومة الحماية القانونية والاجتماعية، باعتباره شرطا جوهريا لاحترام مبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية، وجزءا لا يتجزأ من التزام الدولة بمبادئ حقوق الإنسان وتحملها لمسؤولياتها تجاه جميع الفئات دون استثناء.
وإذ يواصل المنتدى رصد ه للانتهاكات ودفاعه عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يؤكد أن النضال من أجل الكرامة والعدالة لا يمكن أن ينفصل عن مسار التغيير الديمقراطي الأشمل، وأن الاستجابة الفعلية لمطالب العمال والعاملات يعدّ معيارا جوهريا لقياس مدى جدّية أي مشروع وطني يسعى إلى إرساء الاستقرار وتحقيق التنمية الشاملة.