قابس: ” تشيرنوبيل تونس” تطالب بحقها في الحياة

0
22211

 قابس: ” تشيرنوبيل تونس” تطالب بحقها في الحياة

 

Zoé Verninمقال لـ : ـ

ترجمه الى العربية: خولة بالعايبة

 

عزمت العودة لزيارة مدينة قابس مرات عديدة خلال السنة الماضية منذ وطأتها للمرة الأولى في أواخر شهر أوت.  لا يمكن لأحد أن يظل محايدا أمام ما يحصل بالمدينة جراء منوال تنمية أقل ما يقال عنه أنه قاس وظالم ان لم نقل “إجرامي” في حق سكان المنطقة ومحيطها حيث وصف وضعها البيئي بعديد المقالات والشهادات بال “كارثة”و “الفضاء المسموم” ليبلغ الأمر ببعض متساكني هذه المدينة الساحلية حد نعتها ب “ضفاف الموت” وتلقيبها ب”الأرض الملعونة”.

أمام المجمع الكيميائي بقابس – صورة لرافاييل بودين (Raphaël Bodin)

تزاحمت كل الشهادات وكل المقالات التي قرأتها بذهني بمجرد وقوفي أمام المجمع الكيميائي بقابس، وتذكرت حينها عبارات امرأة كنت قد تحدثت اليها بالأمس (كما قابلتها عديد المرات لاحقا) حين قالت: “عندما جئت الى قابس لأول مرة لم أحس بالتلوث فقط، بل تذوقت طعمه“.  خانتني الكلمات للتعبير لمن رافقني من مناضلين عن حجم الحيرة و مدى الاضطراب الذي انتابني. تجمدت مكاني لدقائق، مشوشة ومرتبكة، أحدق بوحش ذي براثن من دخان يلقي بوحله الأسود بمياه البحر على بعد أمتار من أحياء المنطقة.   رغم وجود تفسير مفهوم لهذه المعضلة الكبيرة التي تعكس ظلما بيئيا كبيرا بالمنطقة إلا أنه يبقى من الصعب جدا تقبله. وتبقى الشهادات والتحركات المقاومة حاملة لجزء مهم من الحقيقة ومن الحلول.  تنتظم اليوم عديد التحركات المناهضة لتدمير التراث الطبيعي الهام للمنطقة ولهذا الخطر الذي يهدد صحة المتساكنين الذين لا يتمتعون بحق النفاذ الى المعلومة  ولا بالإمكانيات المادية للعلاج.

 

التضحية ب”جنة على الأرض” في سبيل التنمية

مدينة قابس، واحة على شاطئ البحر، قبل تركيز المجمع الكيميائي

واحة قابس: رائعة من صنع الانسان الذي يتلفها اليوم ببطء

يعرف لنا “أمين”، الخبير الزراعي بجمعية حماية واحات شنني[1]، مفهوم الواحة كالآتي: ” هي نظام ايكولوجي يخلقه الانسان حول نقطة مياه بالصحراء.” تعد قابس الواحة الساحلية الوحيدة بالعالم، واستحقت اعتراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO) بها كتراث طبيعي ذو قيمة عالمية[2]. وقد اعتبر التنوع البيولوجي لهذه الموارد المائية استثنائيا في الماضي.

الواحة المنتظمة على طوابق، تعيل مدينة قابس وتساهم في ازدهارها حيث يوفر النخيل مناخا مناسبا للأشجار المثمرة وأشغال البستنة. وقد عرفت المدينة بجودة تمر واحاتها و ثمار الرمان والحنة. ازدهر العيش في مدينة قابس في الماضي، حيث كان من الممكن حتى السباحة بخزانات مياهها (الأحواض، السدود الصغيرة والقنوات).

لاحظت خلال زيارتي تعلق أصيلي مدينة قابس الشديد بهذه “الجنة الأرضية” التي ورث كل منهم قطعة منها عن عائلته. وقد حدثني السيد “عبد الله” الذي نشأ بالمدينة خلال الأربعينيات عن طفولته السعيدة، هنا، بواحة شط  السلام حيث “تعايش سكان الواحة بانسجام وكسبوا عيشهم من الصيد والفلاحة.”[3] أما عن شباب هذه الأيام فهم يحاولون أن يتخيلوا ما كان عليه هاته الأرض حسب ما يروي لهم أجدادهم، فحس الانتماء للمنطقة يستمر من جيل الى جيل، وكثيرون هم اليوم من يحاولون انقاذ هذا التراث الطبيعي الفريد.

من اليمين الى اليسار: أمين، نجيب وابنه محمد و علي، يعملون بجد للحفاظ على واحات شنني (قابس)

على سبيل الذكر، أمين، الشاب الذي على يمين الصورة، ولد وعاش بالواحة، ويعمل اليوم بجمعية حماية واحات شنني. خلال زيارتي الى قابس رافقني أمين الى حديقة متنوعة بيولوجيا يهتم بها ويسعى من خلالها للحفاظ على عديد الأنواع المحلية التي كادت تنقرض اليوم “بسبب التدهور البيئي وغزو البذور الموردة من الأسواق العالمية”، حسب ما شرح لي أمين[4]أما نجيب ، الذي يظهر وسط الصورة، فقد حوّل أرضه الى متحف من النباتات والأشجار التي يواصل زراعتها خلال تقاعده  ويأمل أن يتمكن ابنه محمد من مواصلة نفس الطريق. وأخيرا نذكر علي، على يسار الصورة، الذي يهتم من جهته بقطعة أرض مخصصة فقط لإنتاج واستنساخ البذور المحلية.

 

الانسان الذي صنع هاته الواحات منذ قرون، خرّبها في غضون عقود قليلة فالصناعة الكيميائية أنضبت الموارد المائية بالواحة كمنبع “راس الواد” اليوم.

واحة راس الواد

أعطى الحبيب العايب الكلمة لصغار فلاحي الواحة في فلمه الوثائقي “قابس لاباس” (قابس بخير)[5]شهد هؤلاء الفلاحون نضوب المياه منذ بداية الثمانينات. المياه التي كانت بالماضي “متدفقة بكثافة ومجانية” أصبحت شحيحة وباهضة الثمن منذ قدوم المجمع الكيميائي التونسي.وقد  كان لتلوث الماء والهواء آثار كارثية على المحاصيل، كما تسبب في بعض الأحيان في تسمم الحيوانات والمواشي التي يتم تربيتها أيضا بالواحة.  رغم اصرار الكثيرين على “عدم بيع أراضيهم بأي ثمن” الا أن البعض اضطر لذلك لصعوبة العيش بالواحة ولرحيل أبنائهم من أرضها.  التوسع الحضري، العشوائي غالبا، يقضي على الواحة شيئا فشيئا.

خليج قابس: من ثروة بحرية الى مقبرة

عرف خليج قابس  بكونه أكبر مصدر للأسماك والقواقع بتونس. جرفه القاري الواسع، قوة المد والجزر وخاصة تنوعه البيولوجي جعل منه ثروة بحرية استثنائية بالمتوسط.

على شواطئ قابس اليوم، يلفظ البحر السلاحف البحرية والأسماك النافقة في مشهد مأساوي حيث يعتبر خليج قابس من أكثر مناطق المتوسط تلوثا. حسب جمعية  SOSقابس التي توثق مخلفات التلوث [6] فان عدد الفصائل البحرية  تقلص من 250 سنة 1965 الى 50 فقط حاليا. هذه الظاهرة دفعت صيادي المنطقة الذين لازالوا مرغمين على الابحار في عرض الخليج،  لتنظيم وقفات احتجاجية باستمرار للتنديد بالنقصان التدريجي للموارد البحرية التي تمثل مصدر رزقهم الوحيد والتي تعيل أسرا عديدة في قابس.

هكذا أصبحت واحدة “من أجمل مناطق العالم” أكبر منطقة صناعية للمعالجة الكيميائية بتونس، تستضيف شركات صناعة الاسمنت و استخراج النفط ويتمركز فيها أكبر موقع لإنتاج الأسمدة وحمض الفوسفوريك بالمجمع الكيميائي التونسي.

 

المساء بقابس: أشبه بمدينة تحت القصف

“قابس مع حلول المساء”، صورة حزينة مشهورة على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

فتح أول مصنع “حضري” أبوابه بقابس سنة 1972 وقد اختص في تحويل الفسفاط الى حمض فسفوري وهو ما احتاج لإنشاء  وحدة انتاج لحمض الكبريت. يوفر هذا الموقع حتى اليوم قرابة 57% من الانتاج الوطني للحمض الفسفوري المستخدم أساسا كمانع للأكسدة في المخابر والصناعات المعدنية وأيضا في صناعة المياه الغازية، مواد التنظيف والأسمدة. واصل المركب الصناعي بالتوسع حتى سنة 1985، حيث تم انشاء مصنع لانتاج فسفاط الأمنيوم ومصنع لإنتاج الأمونيتر  (الذين يستخدمان أساسا كسماد). كل هاته المؤسسات كانت عمومية ومنضوية ضمن  المجمع الكيميائي التونسي الذي ينشط أيضا بمنطقة الحوض المنجمي في استخراج وغسيل الفسفاط ثم تحويله وهو ما يحتاج كميات هائلة من المياه ويستنزف بذلك الموارد المائية بقابس وأيضا بالمظيلة وصفاقس والصخيرة.

منذ خمسة وأربعين سنة، يتنفس أهالي مدينة قابس هواء مشبعا بالغازات، مستنشقين أكسيد الكبريت وأكسيد النتروجين و الفلوريد وكبريتيد الهيدروجين وغيرها من الغازات الملوثة السامة.

رغم اصدار بعض النصوص القانونية لمراقبة ومتابعة الانبعاثات الغازية[7] إلا أنها لم تشمل المجمع الكيميائي التونسي الذي “تتمتّع وحداته الصناعية بوضع استثنائي  من طرف السلطات العمومية المكلفة بمراقبته وذلك لأهمية أنشطتها” حسب تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة للبيئة[8] . وحسب نفس التقرير “يتكفل القائم بالنشاط بتركيب أجهزة القياس وأخذ العينات” وبذلك “يتكفل المجمع الكيميائي التونسي بالمراقبة الذاتية”.

تستمر الجرائم البيئية للمجمع من خلال التجاوزات التي يرتكبها في عمليات تصريف الفضلات: تستخدم خمسة أطنان من الفوسفوجيبس للحصول أخيرا على طن واحد من حمض الفوسفوريك.  تفوق كمّية الفضلات التي تنتجها قابس كمّية المنتوجات المصدرة بخمسة أضعاف.  كميات مهولة قدّرت ب 000 095 4 طن من الفوسفوجيبس سنويا  بالاعتماد على كمية الانتاج (900.000 طن من حمض الفوسفوريك سنويا)… طيلة 45 سنة ولكم أن تتصوروا حجم الكارثة.

 

000 42 مترا مكعبا من الوحل “الجبسي” (نتيجة اختلاط المياه بالفوسفوجيبس) تلقى يوميا في مياه خليج قابس دون أي معالجة فتغطي قاع البحر و الشواطئ.

يعتبر الفوسفوجيبس حسب تشريعات الجمهورية التونسية من النفايات شديدة الخطورة[9] وذلك لاحتوائه على معادن ثقيلة ومواد اشعاعية عديدة نذكر منها السترونشيوم، الكادميوم، الرصاص، النيكل واليورانيوم وغيرها…[10]

لم يلتزم المجمع الكيميائي التونسي بالقوانين الخاصة بالتصرف في النفايات الخطيرة، كما ذكر أيضا في نفس التقرير، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال السيول السوداء التي يلقي بها يوميا في مياه البحر.

حسب جمعية البيئة بقابس (SOS Environnement Gabes) يفوق حجم الاشعاعات المنبعثة من شواطئ قابس القيمة القصوى  المحددة من طرف الهيئة الدولية للوقاية من الاشعاع بأربع الى خمس أضعاف.

 

التهميش البيئي:

يقول “نادر” الذي يقطن بحي شط السلام على بعد مئات الأمتار من المجمع الكيميائي: “قابس ما هي إلا نسخة مصغرة لكارثة تشيرنوبيل بتونس. الأمر هنا شبيه بمدينة اجتاحتها الحرب وأنا فعلا لا أستغرب اختيار انشاء المجمع الكيميائي التونسي هنا فقابس مدينة سياحية وقد قرروا تدميرها لتشع أماكن سياحية غيرها”[11]

أما عبد الله فحدثني عن الفترة التي فتح فيها المجمع أبوابه للمرة الأولى قائلا: “لم يعي المتساكنون حجم خطورة الأمر حينها بل كانوا فقط مسرورين بفتح سوق جديدة للشغل بالمنطقة”.

استغل الفرع الجهوي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان عملية الانتقال الديمقراطي  بعد ثورة 14 جانفي 2011 للتعريف بقابس ك“منطقة ضحية للتلوث”. وقد هدف الملف الذي أودع بهيئة الحقيقة والكرامة سنة 2016 لإثبات التهميش المنظم للمنطقة على المستوى البيئي. الأدلة المذكورة بالملف اعتمدت أساسا على التأثيرات الخطيرة للمجمع الكيميائي التونسي وسعت لا فقط لكشف الحقيقة بل للاعتراف والتعويض عن الخسائر التي تكبدتها مدينة قابس.  هذا الملف لا يزال حتى الآن قيد المعالجة.

 

 “هنا في قابس، نصاب بالسرطان بسهولة، تماما كما نصاب بالانفلونزا”

*شهادة “سارة” شابة قاطنة بمنطقة بوشامة من ولاية قابس

“هذا الجسد من قابس”: عرضت صور هذا الطفل أصيل حي السلام بقابس الذي يعاني من تشوهات خلقية خلال زيارة قافلة تضامن دولية يوم 17 أفريل 2017 لتبين النتائج المباشرة للتلوث، أو بالأحرى “النتائج المباشرة لتحضرهم”.

رغم أن المشاكل الصحية المسكوت عنها منذ زمن طويل هي موضوع الأحاديث اليومية إلا أنها لم تحض يوما بالاعتراف ولا بالتفكير في حل للحد من قسوتها.  “في مدينة قابس، باتت الأمراض “النادرة” أمراضا “شائعة” تماما كحالات الوفاة المبكرة.” هكذا حدثنا أهالي المنطقة، ومن بينهم “رشيد” وعائلة “عاجي” الذين زارهم المرض والحزن ككثيرين غيرهم.  اشتغل “رشيد” طيلة 39 سنة في الصناعة الكيميائية للفلور بالشركة التي أنشأتها الدولة سنة 1971 (ثم تمت خصخصتها سنة 1992) بجانب المجمع الكيميائي التونسي والتي اختصت في انتاج وتوزيع فلور  الألومنيوم.

حدثني رشيد عن تجربته قائلا: “عملت بهاته الشركة واشتغلت على كل الآلات. بدأت أشعر بآلام في المفاصل منذ سنة 1991. راجعت عديد الأطباء وحتى سنة 2011 حصلت على نفس التشخيص: “أنت بخير، ما تشعر به هو مجرد التهاب بالمفاصل !” في الماضي كان من المحظور التطرق الى آثار التلوث على الصحة. اليوم، أدرك جيدا أنني أصبت بتسمم الفلور، وهو مرض مهني معترف به على الصعيد الدولي…ربما نظريا، تونس لم تعترف به فعليا الا بعد سنة2011″.

اثر 14 جانفي 2011 قرر رشيد أخيرا “خوض معركته” بالمحكمة وبالصندوق الوطني للتأمين على المرض. اعترفت المحكمة بمرضه في نفس السنة وحملت المسؤولية للشركة التي عرضته لهاته المواد السامة دون توفير الحد الأدنى من الحماية أو توعيته بمخاطر المهنة.   

“لا يوجد علاج لهشاشة العظام وتكلس الأوتار. كل ما يمكنني تناوله هو مضادات الالتهاب”. هكذا فقد رشيد 40% من قدراته الجسدية بسبب تسمم الفلور. مهنته بالمصنع الكيميائي وتصنيف تسمم الفلور كمرض مهني هو ما أسس أرضية صلبة لمطالبة رشيد بحقوقه (وخاصة بتعويضات) ومنذ نجاحه في افتكاكها اتصل العديد من عمال المصنع به للقيام بإجراءات مماثلة.

للأسف، بقابس (كما بمناطق أخرى من الجمهورية التونسية)،يمكن الاصابة بتسمم الفلور من خلال الفضلات والمخرجات الصناعية كالفوسفوجيبس والتي تلوث الأرض والمياه معرضة بذلك حياة جل أهالي النطقة للخطر. لنا اذن أن نتساءل، هل أن هذا الخطر المؤجل تشمله نفس الاجراءات القانونية وهل يمكن للمصابين اللجوء للمحاكم للدفاع عن حقوقهم؟  خلال فترة رئاسة بن علي أُثبت أنه تم اجبار العلماء والأطباء على التكتم عن الدراسات الوبائية وعن مثل هذه التأثيرات. الآن وقد أسسنا لحرية التعبير هل سيُصغى الينا فعليا؟

تقطن عائلة “عاجي” بحي ببلدة بوشامة  على بعد 3كم عن قابس خلف المجمع الكيميائي.  فارقت العائلة ابنها نزار الذي توفي عن عمر
يناهز 47سنة. 
حدثني والداه بحزن شديد عن السنة الأخيرة من حياته، حين تعكرت حالة رئتيه وكبده بشكل كبير.

 “لقد أخبره الأطباء أن السبب هو التلوث، الا أنهم لم يمدونا بشهادة طبية لاثبات ذلك.”[12] صارحتني والدته. لازالت العائر تذكر أولى الأعراض التي أحس بها نزار سنة 1994 حين كان يعمل بوحدة انتاج الحمض الفسفوري بالمجمع الكيميائي التونسي.

 

الصورة لانصاف أخت “نزار” مستلقية على السرير وعاجزة تقريبا عن الكلام، فهي لا تكف عن السعال. تتنفس انصاف الأكسيجين بصعوبة من خلال جهاز موصول بالكهرباء وهو ما يجعل والديها في حالة توتر دائم خوفا من عطب أو انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي.

“بدأت مشاكل انصاف التنفسية سنة 2015 حين اختنقت وأغمي عليها بالبيت.” هكذا حدثتني والدتها. “اليوم قد جفت رئتاها تماما وقد طلب منا الأطباء ابعادها عن قابس إلا أن وضعنا المادي لا يسمح لنا بذلك.” قام معتمد بوشامة بزيارة انصاف ووعد بايجاد حل لمشكلتها. “زار بعض الصحفيين انصاف أيضا إلا أنهم لم يعرضوا المقابلة.”كما زارها ممثل عن وزارة الصحة دون أن تعود أي من هذه الزيارات بأي جدوى.

“حالة انصاف تسوء يوما بعد يوم وتستوجب عملية طارئة لزرع الرئتين” هذا ما صرحتني به عائلة انصاف التي تشعر بمرارة الخذلان للمرة الثانية. “لا يوجد اثبات علمي للرابط المباشر بين التلوث والأمراض، الا أن ذلك لا ينفي وجوده” *منصف: طالب بكلية الطب وعضو بجمعية الأطباء التونسين الانسانيين

 “يؤمن المتساكنون بأن جميع آلامهم سببها التلوث خاصة مع  كثرة المرضى بقابس” هكذا حدثني منصف ومروان[13] ممثلان عن جمعية الأطباء التونسين الانسانيين، وهي جمعية تضم طلبة بكلية الطب يقومون بحملات تحسيسية بقابس منذ سنة 2012. رغم أنهم “لم يتخرجوا بعد“، يهتم هؤلاء الطلبة بالظروف الصحية لأهالي قابس وخاصة بالعلاقة بين التلوث والأمراض المتفشية بالجهة. في هذا الصدد يأسف أعضاء الجمعية لعدم توفر الوسائل (كالمخابر مثلا) والحجج العلمية (كالدراسات…) التي قد تساعد على اعتماد أبحاثهم. مروان مثلا، قام بأبحاث حول هشاشة العظام بالتعاون مع معهد سويسري، حيث يعزو الجميع تفشي هذا المرض بقابس الى التلوث الذي يؤثر على صحة  العظام بشكل كبير.  يذكر مروان جيدا ردة فعل المشاركين في اللقاء المفتوح الذي انتظم لتقديم هذه “الحقيقة العلمية”، والتي تتمثل في “عدم وجود أي دراسة تثبت العلاقة بين التلوث ومرض هشاشة العظام بأي مكان بالعالم”. يقول مروان بنبرة متأثرة: “أحسست جيدا بخيبة أمل الحاضرين حيث لم يكن ذلك ما يودون سماعه.”

أما بالنسبة لمنصف فانه يعتبر من الضروري البدأ بتقدير عدد حالات هشاشة العظام بقابس  ولو أن ذلك “أمر في غاية التعقيد، حيث يجب اجراء فحوصات تخصصية على عدد كبير من المصابين، وذلك يتطلب مبالغ مالية هامة كما أن المعدات والأجهزة اللازمة غير متوفرة بالمستشفى العمومي بقابس” على حد قوله.

معركة متواصلة لافتتاح مستشفى جامعي…

تتواصل المعركة الجهوية من أجل احداث كلية للطب بقابس وتحويل المستشفى العمومي الى مستشفى جامعي خاصة مع ارتفاع عدد الحالات الحرجة خلال السنوات الماضية.  منذ أكثر من عشرين سنة والى يومنا هذا، مازال عبد الله[14] يناضل في سبيل تحقيق هاته الغاية رغم تعدد العراقيل التي من أهمها، حسب تقديره ” سعي عديد الأطراف، وخاصة من الأطباء، عرقلة مشروع ينهض بقيمة المستشفى العمومي على حساب المصحات الخاصة “.

لم يستطع عبد الله الحصول على تصريح لإنشاء جمعية تساند هذا المشروع، حتى اثر ثورة 2011. هذا الرفض بالنسبة له “لا يهدف إلا لإحباط عزائمهم”. ورغم كل هاته العراقيل، يحظى المشروع بمساندة واسعة من طرف أهالي المنطقة حيث تجمع ألاف الأشخاص خلال مظاهرة في سنة 2013 كما يروي عبد الله، كما “أقر مجلس وزاري هذه السنة بضرورة احداث كلية للطب بقابس”.

يتطلع منصف،  والذي يتدرب حاليا بقسم الاستعجالي بقابس، لهذا “التغيير”.  وضع المستشفى حاليا يدفع الكثير من متساكني المنطقة للتنقل الى صفاقس (140كم) والى تونس العاصمة (400كم) لمراجعة دكاترة وأطباء الاختصاص  أو لإجراء التحاليل والفحوصات الضرورية الغير متوفرة بجهتهم. عدى عن صعوبة حصول المرضى على العلاج المناسب، أدى هذا الوضع الى ضياع الملفات والبيانات وهو ما يقوض امكانية القيام بدراسة وبائية على المستوى الجهوي خاصة وأن منطقة الاقامة لا تسجل بصورة منهجية في ملفات المرضى بالمستشفيات الجهوية وعدم امكانية الاستناد للسجل الوطني الذي لا يخلو من النواقص وأوجه القصور. علاوة على ذلك، ” الاطار القانوني التقييدي في علاقة بالسر الطبي” يحول دون حصور مروان ومنصف على عديد المعطيات.

“كفوا عن قتل مواطني قابس” – من الشعارات المرفوعة بالمسيرة الشعبية سنة 2013

… ماذا عن شفافية البيانات المتعلقة بالتلوث

يشرح لنا منصف أنه “من أجل التمكن من اثبات علاقة الأمراض المتفشية بتلوث المنطقة، يجب أولا  توضيح نسبة تركيز الملوثات بالهواء، وهو ما يتطلب انشاء وحدات بحث”.  ركز الرئيس السابق بن علي في الماضي لوحة قياس “آنيّة” للانبعاثات “بشارع البيئة” في قلب مدينة قابس:  الغريب بالأمر أن معدلات ثاني أوكسيد الكبريت، أوكسيد الآزوت والأمونياك لم تتعدى أبدا سقف النسب المرخص لها.  [15] حتى هاته السنة، 2017، مازالت “الشكوك القوية” تحوم حول التدابير التي يتخذها المجمع الكيميائي التونسي والتي يعرضها على الوكالة الوطنية لحماية المحيط. تم استجواب هذه الوكالة مؤخرا اثر نشر قائمة الدول الأكثر تلوثا بالعالم في سنة 2016 والتي تصدرها المنظمة العالمية للصحة بالاعتماد على المعطيات التي توفرها الدول. لم تدرج قابس ضمن الأربعة ولايات المقترحة عن الجمهورية التونسية ! تقوم الوكالة الوطنية لحماية المحيط بتعديل البيانات بعد الكشف عن عدم مصداقيتها ونأمل
أن تجد ولايتا قابس وقفصة مكانهما الحقيقي بقائمة المنظمة العالمية للصحة قبل المراكز الصناعية بتونس، بنزرت وصفاقس. [16]

في هذا الصدد،ستُلزم الوكالة الوطنية لحماية المحيط قريبا على تطبيق مشروع “حوكمة المناخ بالأورومتوسط” والذي” يهدف أساسا لتأسيس نظام مراقبة لجودة الهواء “بولاية قابس.وتواجه جمعية Air PACA[17]بفرنسا تهما في علاقة بالموضوع اذ “ساعدت في الوكالة الوطنية لحماية المحيط في اعداد تشخيص ثلاثي للفاعلين بقابس: مع تحديث عملية الجرد للملوثات بالمنطقة، حملتا قياس أراضي وتركيز معدات لنمذجة الهواء”… الأمر اذن يستحق المتابعة…

في انتظار مبادرات شعبية حول الدراسات الوبائية

في غياب الحملات التوعوية، البيانات والتحقيقات العامة، تبذل مكونات المجتمع المدني بالجهة قصارى جهدها لملأ الفراغ… في هذا الاطار نذكر بالخصوص “جمعية حماية واحة شط سيدي عبد السلام”[18] (APOCSG) أين ينشط نادر. وقد ذكرت الجمعية في تقريرها “قابس: قصة ابادة جماعية[19] قائمة بأسماء مختلف الملوثات والمواد الاشعاعية الموجودة بقابس كما ذكرت المخلفات الناتجة عنها بالتفصيل على المحيط وعلى صحة الانسان.

قائمة التأثيرات على الصحة قائمة طويلة جدا، تتجلى معالمها بمنطقة شط السلام وهو ما  تسعى الجمعية لإثباته والإنذار لخطره مستندة
على ملاحظاتها وخاصة على دراسة احصائية قامت بها شملت استجواب مئة عائلة قاطنة بالجهة: ” عدد الأمراض المزمنة والقاتلة المرتبطة مباشرة بالتلوث، عدد مهول. نذكر منها مرض السرطان، العقم، الاجهاض، الأمراض التنفسية والجلدية، الاعاقة العضوية والعقلية منذ الولادة وغيرها الكثير….”

ويبقى السؤال المطروح، لو قمنا بتحقيق على مستوى أشمل، هل ستفوق هاته الاحصائيات المعدلات الوطنية؟ حتى الآن لا يتعدى الأمر قناعات بنيت على الملاحظة الجماعية. توجد دراسة واحدة حول الموضوع قامت بها جمعية “خبرات فرنسا” سنة 2016 في اطار برنامج الحوكمة البيئية[20]. تبقى تفاصيل منهجية المشروع (شكله وعدد المشاركين من متساكني الجهة وعمالها) غير معلومة الى حد الآن.

من يملك المعلومة يملك القوة: كيف يمكن فعليا وبشكل عملي التوعية بمدى خطورة هذه المعاناة لمواصلة حشد الدعم؟ كيف يمكن دفع الأطراف المسؤولة للاعتراف بجرائمهم ومحاسبتهم ؟ كيف السبيل للمطالبة ب”الحق في بيئة سليمة” دون وجود أدلة قاطعة للجرائم البيئية؟

“يرغب الناس في التخلص من المجمع الكيميائي بشدة… تماما بنفس الشدة التي يرغبون بها في العمل فيه” عبد الجبار، نقابي بالاتحاد العام التونسي للشغل – الفرع الجهوي بقابس

معضلة يمكن وصفها بالكارثة

يشرح لنا عبد الجبار[21]، نقابي بالاتحاد الجهوي للشغل بقابس، رأيه في الأمر قائلا: “هو حقيقة وضع مأساوي، نحن ملزمون على الاختيار واختيارنا يدفعنا للتضحية بقضية عادلة…” وذلك في اشارة للمعضلة التي تضع سلامة المحيط والصحة في كفة، والتشغيل في الكفة الأخرى.

يتألم فلاحو الجهة لرؤية أبنائهم يتسابقون للعمل عند المشغل الأول بالجهة. المجمع الكيميائي التونسي بقابس يوفر 4000 موطن شغل مباشر، مئات فرص الشغل بخدمة المناولة، اضافة الى عديد الموظفين “بالشركات البيئية” التي يمولها المجمع والتي من المفترض أن “تعوض” عن الأضرار والخسائر البيئية وتخفف من وطأة البطالة بالمنطقة.

“أغلب العمال النقابيين المنخرطين بفرع الاتحاد العام التونسي للشغل بقابس هم من يعملون في قطاع الصناعة الكيميائية”، يواصل عبد الجبار، “فالنقابيون من الفلاحين والصيادين ينشطون ضمن الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري”. يجدر القول بأن المجمع يوفر امتيازات عديدة لموظفيه (مثالا عن ذلك يهب المجمع الكيميائي التونسي خروفا لكل موظف في عيد الاضحى، لوازم دراسية في الفترة العودة المدرسية، منحة للإجازة الصيفية…)

فعليا، لا وجود لنضالات نقابية في قابس في علاقة بالسلامة والصحة المهنية “فهذه المشاكل حديثة العهد“، هكذا يشرح لي عبد الجبار.  رغم أن المنطقة الأقرب للمنطقة الصناعية هي الأكثر عرضة للتسمم، المرض… والموت.

في أواخر أكتوبر 2016 توفي “عبد القادر الزيدي” موظف بالشركة التونسية للكهرباء والغاز، اثر تسرب غاز قاتل من معمل الأمونيتر. أبن فرع الاتحاد الجهوي للشغل بقابس الفقيد بمقره بحضور عائلته وحمل الدولة مسؤولية وفاته واصفا تعاملها مع سكان المنطقة بال”لا انساني”.

على اليمين صورة لتجمع التأبين بمقر الاتحاد مرفوقة بالرسالة التي نشرت بصفحات مواقع التواصل الالكتروني والتي تطرق اليها “حراك أوقفوا التلوث Mouvement Stop pollution و أوديسي ابن بطوطة للبدائل خلال مؤتمر الأمم المتحدة 22 للتغير المناخي [22].

حُول ملف عبد القادر الزيدي الى القضاء منذ مدة قصيرة بعد استخلاص الطبيب الشرعي بأن سبب الوفاة هو “انسداد الشعب الهوائية بكمية كبيرة من المخاط وهي علامة على الاختناق”. هكذا أكد لي عبد الجبار الذي يتابع مجريات القضية. ويجدر الذكر بأن الشركة التونسية للكهرباء والغاز عينت محامين للدفاع عن الفقيد ضد الشركة المسؤولة عن تسرب الغاز وهي خطوة مشجعة على الاستمرار في مكافحة افلات المصانع الكيميائية بقابس من العقاب.

يساند الاتحاد الجهوي للشغل بقابس باستمرار الأنشطة التي ينظمها التحرك المحلي “أوقفوا التلوث” ويؤكد عبد الجبار بأن ذلك يعود
الى الثقة المتبادلة بين النقابة والحراك، وخاصة الى المسؤولية التاريخية والاجتماعية للاتحاد العام التونسي للشغل في تونس منذ سنة 1946: 
“يدافع الاتحاد في المقام الأول عن العمال الذين بحاجة للاستقرار في العمل، وهو ما يحتاج بالتالي الى استقرار المؤسسة.  في نفس
الوقت، يرغب نقابيو الاتحاد دائما في مساعدة الفئات الاجتماعية الأخرى من خلال السعي للتوفيق بين المصالح المتضاربة.
ندرس الوضعية على نحو شامل بتناقضاتها و بما تحمله من خلافات. يسعى الاتحاد دائما للدفاع عن مختلف القضايا  عن طريق معالجتها من مختلف الزوايا ويحدث في بعض الأحيان أن لا يساند تحركا ما لاختلاف غاياته عن مبادئ الاتحاد.

 

“معادلة الانتاجية الغير واعية عليها أن تتغير”

يرى عبد الجبار أنه من غير المعقول ولا المجدي ايقاف المجمع الكيميائي عن العمل، الا أنه من الضروري ايجاد معادلة انتاج جديدة تكون جزءا من رؤية استراتيجية بعيدة المدى. “يدفعنا المجمع الكيميائي للتفكير الجدي في تغيير معادلة الانتاج : معادلة عليها أن تأخذ بعين الاعتبار المصاريف المتعلقة بالصحة ومخزون المياه، وأيضا الخسائر المتكبدة على مستوى القطاع الفلاحي والسياحي وقطاع الصيد البحري.” معادلة بسيطة توضح لنا أن “الانتاجية الغير واعية والغير مسؤولة أدت الى خسائر فادحة.يجدر التخلي عن منوال التنمية الحالي على مراحل انطلاقا من رؤية جديدة وواضحة من أجل بناء منوال تنموي مستدام وعادل” يأسف السيد عبد الجبار ل”غياب هاته الرؤية حاليا في قابس” إلا أن بعض التحركات والخطابات تؤسس لظهورها.  من بين هذه المبادرات، يذكر تعاون فرع الاتحاد العام التونسي للشغل وفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان يوم 11 ديسمبر 2016 من أجل لفت أنظار الرأي العام للقضايا البيئية بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان.  في هذه المناسبة أكد عبد الجبار أن حقوق الانسان الأساسية (الحق في الحياة، الحريات الفردية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية…) لا يمكن أن تضمن كرامة الانسان في غياب محيط سليم فبالنسبة له “كل
أشكال وأجيال حقوق الانسان باختلافها وأساسيتها ما هي إلا تفرعات عن الحق الأساسي في الحياة”

 

 

تحرك “أوقفوا التلوث”: “التلوث ليس قدرنا”

 “نحب نعيش” تكسر حاجز الصمت

جمعني الموعد الأول مع تحرك “أوقفوا التلوث” بأربعة نشطاء: جودة، خير الدين، محمد وأحمد[23]. ثم خلال نفس السنة تعرفت على هيفاء، مريم، خولة، نادر، رؤوف، حمزة، زياد، خالد وغيرهم عديد النشطاء ضمن التحرك جمعهم “النضال ضد الجرائم البيئية المقترفة بالمنطقة الصناعية بقابس ودفاعهم عن الحق في بيئة سليمة”.

اجتمعنا في لقائنا الأول بمقهى بقلب مدينة قابس، وقد كانت سابقة بأن يأتي عديد الممثلين لنفس التحرك لحضور اللقاء الأول: صورة –مثالية – عن مفهوم التحرك: لم يكن بينهم قائد ولا منسق، كل شيء تم بتلقائية وعفوية، دون اتفاق مسبق في ظل حرية التعبير.   حدثني الشباب عن بداية تكون التحرك في ماي 2012، أي بعد مضي سنة عن ثورة 14 جانفي 2014 “التي مثلت بالنسبة لعديد متساكني قابس نهاية التلوث”

يوم 5 جوان 2012 وبمناسبة اليوم العالمي للبيئة، جاب جل أهالي قابس شوارع المدينة هاتفين بصوت واحد: “نحب نعيش”. انتهت المسيرة باعتصام على الشاطئ و منتدى مواطني. كان هذا أول تحرك ضد التلوث بقابس، صار بعدها تقليدا سنويا حيث تنتظم المسيرة يوم 5 جوان من كل سنة.

أصر أعضاء “أوقفوا التلوث” على تكوين ” ائتلاف للنشطاء عوض تحالف للجمعيات وذلك بهدف ابقاء الطابع المواطني للتحرك والحفاظ على انفتاحه وأفقيته”. وقد اعتمد التحرك تنظيم المظاهرات بالطرقات، المنتديات المواطنية وحملات التوعية كوسائل لل“ضغط على أصحاب القرار من أجل احداث تغيير جذري.”

اعتصام 18 ماي 2013 أمام المسرح البلدي كان من أول تحركات “أوقفوا التلوث” للتعريف بالقضية بالعاصمة وقد عدت المسيرة السنوية بقابس ذلك العام أكثر من 4000 مشارك.

على اليسار، صورة الاعتصام بالعاصمة في ماي 2013 وعلى اليمين صورة لمسيرة 5جوان من نفس السنة.

 

 

شارك تحرك “أوقفوا التلوث” في فعاليات المنتدى الاجتماعي العالمي في سنة 2015 وأعاد تنظيم المسيرة والمنتدى يوم 5جوان أمام المنطقة الصناعية كما بدأ في ادماج التظاهرات الثقافية في مختلف أنشطة وذلك لتنويع الوسائل التحسيسية و سبل التعبئة. 

تحرك 5 جوان 2015: مسيرة، منتدى وعروض فنية

 

2016: رحلة البحث عن الدعم على المستوى الوطني والدولي

في أوت 2016، وبعد مرور أربع سنوات زاخرة بالحملات التحسيسية وتحركات التعبئة، حظي تحرك “أوقفوا التلوث” بدعم شعبي  واسع في قابس وتضاعف عدد النشطاء ضمنه (للتوضيح أنظر الصورة أسفله) وهو ما شجعه على تخصيص يومي
5 و6 جوان من سنة 2016 لتنظيم منتدى مصغر لتكوين النشطاء ومراجعة استراتيجيتهم.

أعضاء تحرك “أوقفوا التلوث” خلال منتدى 5 و 6 جوان 2016 المنظم بدعم من المنظمة الألمانية Heinrich Böll

 

وقد أشار الأعضاء الأربعة خلال لقائنا الى اجابة محامية قامت بتنشيط احدى ورشات التحرك حين سُئلت عن الحق في البيئة السليمو وامكانية اللجوء الى القضاء: “ليس من الممكن اللجوء الى القضاء الدولي لأن ذلك يستوجب أولا المرور بالمحاكم التونسية. الا أن القضاة التونسيين غير مختصين في الحق البيئي ويفرضون توفر أرقام واضحة معتمدة من طرف المنظمات “القانونية” وهو ما يصعب التحصل عليه.”[24] رغم ذلك، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، اعتبر تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة سنة 2012 “بأن نفايات الفوسفوجيبس الملقاة حاليا بخليج قابس تتعارض مع شروط معاهدة برشلونة وخاصة مع البروتوكول الذي “يمنع التلوث البحري من مصادر برية“. استنادا على ملاحظات عديدة اثر انتهاء الندوة، قام الائتلاف بنشر بيان حول “تصميمهم على كسب حلفاء على الصعيدين الوطني والدولي بغية الدفاع عن الوضعية بقابس.”

“نجح التحرك في متابعة الاستراتيجية”، هكذا لاحظ خير الدين[25] بعد مرور سنة شارك خلالها في عديد أنشطة “أوقفوا التلوث”.

في أواخر شهر أكتوبر من سنة 2016 قام التحرك بتنظيم منتدى بيئي بقابس بمناسبة أوديسي ابن بطوطة للبدائل وذلك بمشاركة عديد النشطاء التونسيين والأجانب، حيث رست عديد البواخر القادمة من الضفة الشمالية للمتوسط بتونس قبل وصولها الى الجزائر ثم المغرب للمشاركة في القمة العالمية للمناخ في دورتها الثانية والعشرين (COP22). عديد النشطاء في تحرك “أوقفوا التلوث” التحقوا بالرحلة للمشاركة في الأنشطة المفتوحة بمدينة مراكش بالمغرب والتعرف على مختلف التحركات والجمعيات القادمة من مختلف أنحاء العالم.

ثمّن خير الدين، ممثل عن تحرك “أوقفوا التلوث” بقمة مراكش، هذه التجربة قائلا: “أُتيحت لنا الفرصة للحديث مطولا عن قابس ولتفسير تأثير التلوث على السكان ووعلى المحيط. تأثر المستمعون كثيرا وتعاطفوا معنا وقد ورد اسم مدينة قابس في البيان الختامي
للحركات الاجتماعية ضمن الفقرة: “الذين في الصف الأول لمقاومة الاستغلال المفرط للثروات الطبيعية بايميتير، قابس وعين صالح، بستاندينغ روك ونوتر دام دي لاند
(Standing rock – Notre – Dame – des – Landes ) … ” ثم ورد: “وجب الشروع في التحرك فعليا لتجسيد دعمنا وتنظيم برامج للتعبئة الدولية لقضية قابس.”

أما على المستوى الوطني، حدثنا خير الدين عن مشاركة التحرك في تأسيس التحالف التونسي من أجل العدالة البيئية في شهر أفريل بقابس، والمتكون من عديد الجمعيات، كما حدثنا عن المؤتمر الوطني للحركات الاجتماعية الذي انتظم في شهر مارس، والذي أتاح الفرصة “للتعرف على التحركات الأخرى، للتأمل وتأسيس رابط تضامني يجمع بين التحركات المتشابهة في أهدافها بمناطق أخرى من الجمهورية”[26].

هذا التنسيق بين مختلف الحركات الاجتماعية البيئية في اطار المؤتمر، من شأنه، حسب تقدير خير الدين، أن “يساعد النشطاء الميدانيين في نضالاتهم اليومية، وأن يسمح بمزيد التعريف بقضاياهم وبالتالي مزيد التقدم نحو ايجاد الحلول”. كذلك، ساعد اجتماع الحركات المختلف في “تأسيس روابط مع حركات نضالية أخرى بتونس” وهو أمر ضروري ف“لا يمكن أن ينجح تحرك ما بمفرده في تغيير نظام لا يحترم الحق في الحياة ولا كرامة الشعب.” ولعل هاته الخلاصة، تشير الى مستجدات الساحة النضالية في قابس، حيث تشكلت عديد الجمعيات سنة 2017 وحظيت بدعم تحرك “أوقفوا التلوث”.

2017، سنة المقاومة الجماعية بقابس…

التأمل في ثلاث تحركات ظهرت هاته السنة في ولاية قابس، يسمح لنا بالتفكير الجدي في طرق التعايش مع التلوث وفي خطوات التعبئة كما يدفعنا للتساؤل حول مسألتين: مسألة الحلول المقترحة من طرف السلطات (والتي غالبا ما نتجاهلها) ومسألة تأثيرها على المجتمع المدني في قابس.

وذرف: المقاومة ضد “الجريمة القادمة”

11 فيفري 2017: تظاهر أهالي “وذرف” أمام المسرح البلدي بتونس العاصمة

تعددت اللافتات المرفوعة واختلفت الصياغات واللغات، إلا أن الجملة التي ترسخت بذهن الحاضرين هي “لا لمشروع مصب الفوسفوجيبس في وذرف”.  في اليوم التالي أيضا، تظاهر أهالي “وذرف”، التي تبعد نحو 20كم من قابس، من أجل حماية بلدتهم المعرضة
للخطر.

يبدوا أن التاريخ يعيد نفسه في بلدة وذرف، ففي 16 أكتوبر 2012،  قام الأهالي بتنفيذ اضراب عام احتجاجا على مشروع نقل وتخزين الفوسفوجيبس الذي أعلنت عنه الحكومة.  يخشى المتساكنون أن يتسبب تركيز مصب الفوسفوجيبس في منطقة محذية لهم في تلوث الهواء، المياه والتربة كما هو الحال بمدينة صفاقس، الصخيرة والمظيلة.  غضب أهالي المنطقة، التي تعد نحو 10000 ساكن، دفع الحكومة للتخلي عن هذا الحل سنة 2013.

 

في 2014، أعادت الدولة مناقشة الكلفة التقديرية لمشروع المصب الممول من طرف الاتحاد الأوروبي، وارتأت تعويضه ب”مشروع حوكمة” ملائم باعتبار خصوصيات المنطقة. هكذا انطلق “مشروع دعم الحوكمة البيئية المحلية والأنشطة الصناعية بقابس” (PGE Gabes) سنة 2015 والذي تقوده حاليا “خبرات فرنسا” –   France Expertises بتمويل يبلغ 5ملايين أورو من الاحاد الأوروبي.  في 2017 ، وذرف ليست تماما في منأى عن الخطر: تحرك أهالي قابس مجددا اثر صدور بلاغ عن الهيئة العلمية لولاية قابس في شهر فيفري يعلن عن نفس مشروع 2013 المتعلق بمصب الفوفسفوجيبس بوذرف آملين ايقاف عملية نقل مشروع دمر محيط المنطقة التي تحتضنه حاليا.

 

شط السلام: الضحية الأولى لهذا “العبئ التاريخي” 20  مارس 2017: هو تاريخ ذكرى الاستقلال، وهو أيضا اليوم الذي انطلقت فيه حملة”سكر المصب” . لم يمنع هطول الأمطار الناس من الالتحاق بالتجمع قريبا من مدينة قابس، للمشاركة في المسيرة نحو دار الشباب بشط السلام، وهو حي يبعد حوالي 500م عن المجمع الكيميائي التونسي. هناك، رُفع العلم التونسي وأُنشيد النشيد الوطني، قبل القاء الخطاب و انطلاق العروض المسرحية للأطفال والتي دعت الى الكف عن تلويث الشاطئ والبحر.

عندما التقيت منذ سنة بنادر، أحد حركيي شاطئ السلام، صارحني بأنه يأسف ل”سلبية مواطني الجهة”، الا أنه يتفهمهم فهم “يعتبرون بأنهم مواطنون من درجة ثانية ولم تقم السلطات بأي خطوة لحل المشكل منذ خمس سنوات فكل الوعود بإيقاف القاء فضلات الفوسفوجيبس في البحر وعلى الشواطئ لم يوف بها والخطط الدورية للتطهير دائما ما تؤجل. ” أما عن دور المجتمع المدني بشط السلام فقد “خصص وقته للبحث والتحليل، الا أنه اقتنع منذ 2015 بأنه لا جدوى من ذلك[27]فالمطالب تزداد تشددا بعد 45 من التلوث المستمر[28]

تندرج حملة “سكر المصب” اذا في سياق اعادة توجيه التحركات حيث تهدف أساسا للتعبئة والضغط بالخروج الى الشوارع.  حدثني يسري وصفوان ورفاقهم، وهم من مؤسسي الحملة، عن الثلاثي الأول من سنة 2017: “قررنا تكثيف الأنشطة للدفع نحو ايجاد حلول جذرية: بعد تنظيم مظاهرتين يومي 20 فيفري و20 مارس، قام نشطاء “سكر المصب” بقطع طريق السكك الحديدية الذي ينقل الفسفاط من الحوض المنجمي الى المجمع الكيميائي بقابس يوم 3ماي” طالبنا بقرار حول الملف (القاء الفوسفوجيبس) اثر هذا التحرك في أجل لا يتعدى 15 يوما وقد أعلنت الحكومة بعد انعقاد مجلس وزاري يوم 15 ماي بأن “مؤتمر المجمع الكيميائي التونسي” المبرمج يومي 24 و25 ماي سيكون “موعدا للنقاش بين الوزراء والجمعيات لحل الملف”، هكذا حدثني يسري. منذ ذلك اليوم، وبعد انقضاء المؤتمر، لم يتم اتخاذ أي اجراءات.   أخبرني يسري: “نحن  بانتظار الموعد النهائي للإيقاف الكلي لإلقاء الفوسفوجيبس في البحر وهو يوم 30 جوان 2017 والذي حُدد في أكتوبر 2016 اثر اجتماع بين الوالي، ممثلين عن المعتمديات السبع لقابس وجمعيات المجتمع المدني. بعد أسبوعين سوف يعلمنا الوزير الأول بقراره النهائي ونحن نأمل بأن يحدد خطة عمل واضحة”[29] لنا عودة اذن للحديث عن “الحلول” التي ستقدمها الحكومة والمجمع الكيميائي التونسي بخصوص هذا الملف، خاصة وأن الأمر مرتبط بقضية أخرى لا تقل تعقيدا وأهمية ألا وهي: التلوث الهوائي

 

بوشمّة: “لقد ازرقّت وجوه أطفالنا….”

 

6 ماي 2017: قطع الأولياء والأطفال الطريق أمام مدرسة بوشامة، والتي تقع على نفس الطريق الرئيسي المؤدي الى قابس، على بعد 3كم جنوبا، اثر نقل عديد الأطفال الى المستشفيات بعد اختناقهم بغاز ثاني أكسيد الكبريت المنبعث من المجمع الكيميائي التونسي والذي انتشر بمنطقة بوشامة صباحا.  وفي حركة تصعيديّة تنديدا بآثار التلوث،  نفذ الأهالي اضرابا عاما واعتصاما دام طيلة أسبوعين.

وصلت الى بوشمّة مباشرة بعد انتهاء الاضراب وفض الاعتصام. كل من اعترضني حدثني عن “سعيدة”، امرأة من متساكني المنطقة. بحثنا عنها طويلا في أزقة الحي المواجه للمدرسة، حتى وجدناها أخيرا تتبادل أطراف الحديث مع مجموعة من صديقاتها أمهات التلاميذ.  أخبرتني سعيدة عما حدث صبيحة يوم السبت 6ماي، حين أخبرها طفل يقطن بالحي باجتماع عدد كبير من الناس أمام مدرسة “عبد المجيد بوشامة”: “ركضت للالتحاق بهم دون تفكير، ففي ذلك الوقت كانت ابنتي شذى ذات التسعة أعوام تدرس هناك”[30] التقت سعيدة بمدير
المدرسة وبعض المعلمين الذين أعلموها بأن رائحة غازات اجتاحت أقسام المدرسة فجأة.

في البداية لم تكترث سعيدة  للأمر حيث حدثتني بأنها “كجميع أهالي بوشمة تأقلمت مع التلوث وتعايشت معه. لم أدرك حينها خطورة الأمر” إلا أنها بعد ذلك، وعند دخولها الى المدرسة ارتاعت لرؤية ابنتها زرقاء الوجه.  هرعت الى الخارج وقررت قطع الطريق، ودعوت كل الأولياء الذي جاؤو لرؤية أبناهم للالتحاق بي، واستجابت الأمهات لطلبي.

“لا زلت أشعر بتقصيري في الدفاع عن حقوق زوجي الذي توفي منذ 7 سنوات اثر حادث شغل بالمجمع الكيميائي التونسي. لا أقدر أن أعيش نفس التجربة مجددا وأفقد ابنتي”

نقلت سعيدة ابنتها في ذلك اليوم الى المستشفى، ف”مستوصف بوشامة،يفتقر لأبسط سبل العلاج“.  وضعت شذى على جهاز  التنفس بالأكسجين لمدة ساعة ونصف و”رفض الأطباء مدّنا بشهادة طبية. لم نستطع الحصول إلا على شهادة حضور.”

التقيت أيضا برتاج، ابنة صديقة سعيدة وتلميذة بنفس المدرسة، والتي أخبرتني بأن ا أطفال أيضا شاركوا في قطع الطريق في ذلك اليوم “تضامنا منا مع زملائنا المتضررين، كما قمنا يوم الاثنين التالي وبعد زيارة الوالي بالمشاركة في مسيرة دارت كل أرجاء المدينة”.  أحمد صديق رتاج المتواجد أيضا بالمكان أخبرني بأنهم لم يلتحقوا بصفوف الدراسة يومي الاثنين والثلاثاء. استؤنفت الدروس يوم الاربعاء ثم انطلق الاضراب العام يوم الخميس. أكدت لي سعيدة بأن النساء هن من صممن على مواصلة الاضراب لمدة 18ساعة رغم الاقتراحات التي دعت لإيقافه  “قاومن بشدة من شدة خوفهن على صحة أبنائهن”.

مطالب الاضراب الأساسية تمثلت في ايقاف التلوث وتحسين جودة الخدمات الصحية والظروف المدرسية. بعد أسبوعين عن انتهاء الإضراب لا زالت اللافتات معلقة أمام المدرسة، تطرح تساؤلات عديدة “أين الفصل 45 من الدستور؟” “أين المستشفى الجامعي؟” “أين حقوق المواطنة؟”

تحدثت أيضا الى سارة، شابة التقيتها بصحبة سعيدة وأخبرتني بأنها تعاني عديد المشاكل الصحية: “لا يجدر بنا أن نقتصر على طرح هذا المشكل بل علينا الحديث عن جميع مشاكلنا: الهواء الملوث المسبب لمرض السرطان وإلقاء الأحماض في مياه البحر. نحن لسنا نطالب بتعويضات بل بحل جذري للمشكل الذي مازال سيخلف عديد الضحايا”.

 يجب علينا الاتحاد وضم الصفوف الآن كما لم يجب من قبل” خير الدين، مناضل بتحرك “أوقفوا التلوث”

 

 

مشاكل مبسطة وحلول جزئية…

يؤمن خير الدين، الذي تابع وساند هذه الحركات الاحتجاجية، ب”ضرورة التنسيق بين مختلف هذه الديناميكيات” كما يحمل الحكومات المتواترة المسؤولية اذ “نجحوا في المماطلة بتنظيم الاجتماعات والمؤتمرات وأيضا في تشتيت الجهود بجلب الأنظار نحو مشكلة الفوسفوجيبس والتي قدموا خيار التخزين كالسبيل الوحيد لحلها. بعض الأشخاص سيقبلون بهذا الحل لشدة يأسهم، فهو حتما أسرع الطرق لإيقاف التصريف، الا أنه ليس الا مجرد فخ خطير لن يؤدي فقط الى الاحباط والخلافات المتصاعدة بين المناطق بل أيضا سيشيح النظر عن قضية التلوث الهوائي التي تخلف العدد الأكبر من الضحايا في قابس.”

أشار خير الدين الى مختلف الأنشطة التي دعت المجتمع المدني للتشاور ونشطت الحوار بينه وبين السلطات والمؤسسات الصناعية.  من بين هذه الأنشطة، “سعا مؤتمران محددان بوجه خاص الى توجيه الحوار بغية الحد من أفق الاحتمالات وتقييد البحث عن حلول مجدية.” ألا وهما: الملتقى المعلوماتي حول تثمين الفوسفوجيبس  المنتظم يوم 9مارس واللقاء الدولي الذي نظمه المجمع الكيميائي التونسي والمنعقد يومي 24 و 25 ماي الفارط.

 

التثمين: الفوسفوجيبس لتغطية الأدخنة؟

 

كان النشاط مفتوحا للجميع، وجمع بين كل من رجال الأعمال، المواطنين، الخبراء والممثلين السياسيين (نواب، ولاة…). خُصّصت الحصة الصباحية لعرضين من تقديم “خبير أجنبي” وآخر تونسي (الرئيس مدير عام السابق للمجمع الكيميائي التونسي في سنة 2013) والذي أشار بأن “الحكومات المتعاقبة ما انفكت تناقش وجهي المشكل بشكل عام (تلوث الهواء وتلوث الفوسفوجيبس) دون أن تركز فعليا على واحد منها”.     أما الخبير البلجيكي فقد أشار الى أن الهدف هو “وضع مخططات طريق للمستقبل باشتراك وجهات نظر خارجية”. بناء على ذلك، شرع في تقديم ظروف استغلال الفوسفوجيبس في تونس انطلاقا من الأبحاث والتجارب الأجنبية.

 

عالميا،لا تتجاوز نسبة استغلال الفوسفوجيبس ال%5 وهو ما “قد يساعد في فهم حقيقة المشكل”. هكذا وضّح الخبير قبل أن يُردف: “المشكل لا يخص تونس بشكل حصري، ولا وجود لحل سحري سريع”. كما قدّر بأن “نسبة الفوسفوجيبس بتونس لا تتعدى النسبة العالمية
للمعادن الثقيلة، تحديدا الراديوم، بالشكل المفزع الذي نتصوره”.
ثم ثمّن الانتاج التونسي السنوي للفسفوجيبس والذي يقدر بحوالي ال4.6 طن ووصفه “بمصدر للقوة”.

قام الخبير الأجنبي بعد ذلك باستعراض امكانيات ومخاطر استغلال الفوسفوجيبس حسب القطاعات. مثالا عن ذلك، في القطاع الفلاحي يُستخدم الفوسفوجيبس لتحسين تهيئة الأراضي الزراعية إلا أن ذلك قد يؤدي الى التسمم، عن طريق امتصاص المحاصيل للمادة أو عبر استنشاقها  خلال عملية التطبيق، أو تسمم المياه الجوفية. أما في علاقة بانتاج مواء البناء، يستخدم الفوسفوجيبس لصناعة الاسمنت، الجبس وحتى الأجر وهو ما يدفعنا للتساؤل عن امكانية تعرض المواطنين لاشعاعات خطيرة منبعثة عن هاته المواد.

أشار الخبير أيضا لاستعمالات أخرى في عديد القطاعات اذ يستخدم الفوسفوجيبس للحفاظ على استقرار الضفاف البحرية، كما يستعمل لتعبئة المناجم (مثلما تم في بلجيكا) وكذلك في عملية الاصطناع أو “التخليق الكيميائي”. يجدر بنا ذكر الشروط الضرورية التي تمكن من انتاج “مصدر قوتنا” : لا تزال دراسة تأثيرات الاستثمارات الضخمة، المخاطر،قواعد الاستخدام وما الى غير ذلك  غير موجودة، أو منقوصة بالأخص في تونس. رغم ذلك ينتهي الخبير الى الاستنتاج بأن ” عملية القاء فضلات الفوسفوجيبس لم تعد مقبولة وبأنه يجب بالضرورة تخزينها”.  من جهته، تحدث الخبير التونسي عن أهمية استغلال الفوسفوجيبس ودوره في خدمة مصالح البلاد، مثلا في استعماله لمنع تكلس التربة أو مكانته في اطار التنافس الاقتصادي مع المملكة المغربية وانتهى باستخلاص أن “الفسفوجيبس هو منجم للذهب !

خصصت فترة من أعمال هذه الحصة الصباحية للتفاعل والنقاش الحر، عبّر خلالها عديد النشطاء عن تخوفهم من الحلول المقترحة لمسألة التلوث التي تم معالجتها حسب تقديرهم انطلاقا من رؤية محدودة غير شاملة خاصة في علاقة بقطاع الفوسفوجيبس في مدينة قابس.  “أخشى أن تدمر هذه الندوة كل أهدافنا ونضالاتنا من أجل البيئة والصحة السليمة فقد صوّروا لنا الفضلات الكيميائية على شكل ثروات !” هكذا عبر أحد أهالي شط السلام عن رأيه.  خلال الحصة المسائية، تم تنظيم ورشة هدفت ل”اقناع الجميع بتثمين الفسفاط” والتفكير في مجالات استخدامه، العوائق، الأهداف ومراحل الاستعمال بالنسبة لكل من القطاعات المذكورة.  من بين الخطوات الذكورة سعت نقطتان بشكل خاص لتحويل وجهة النقاش نحو الغاء تصنيفه ضمن الفضلات السامة (بل عنصر مساعد للانتاج) وتثمين تخزينه.

لئن طرحت النظريات المقترحة حلولا عملية لتشجيع ايقاف القاء فضلات الفوسفوجيبس، الا أنها تظل حلولا سطحية لفض النزاع وللدفع نحو تقبل عملية تخزينه. خير الدين اعتبر بأن هذه النظريات ماهي إلا جزء من الحل “لأنه والى حد الآن لم يقترح أي طرف امكانية تفكيك ونقل المجمع الكيميائي التونسي بعيدا عن قابس رغم وجود أماكن معزولة وبعيدة عن الأحياء السكانية مما يحد الأضرار البيئية بشكل كبير. ما يلزمنا الآن هو حل لمسألة الفوسفوجيبس يؤسس لإيجاد حلول شاملة”.

تصور مشترك مرجو وممكن: نقل المجمع الكيميائي التونسي

يشاطر علي، مهندس مختص متقاعد في الكيمياء البيترولية ،جل الأهالي هذا الرأي وقد شارك في الندوة التي نظمها المجمع الكيميائي التونسي يومي 24 و25 ماي الفارط والتي هدفت الى “معالجة ملف الفوسفوجيبس” حسب ما أخبرني مناضلو شط السلام.

يشير علي الى “الحلول الثلاثة المقترحة ألا وهي: التخزين، الاستغلال وتفكيك وحدات انتاج حمض الكبريت وحمض الفوسفور المكونان الأساسيان لفضلات الفوسفوجيبس.” وقد فسر لي خلال الندوة بأن مداخلات الخبراء وإطارات المجمع الكيميائي التونسي تصب كلها في نفس الاطار: ضرورة التخزين لاستحالة الاستغلال بدونه.

يخمّن علي بأن التخزين اقتُرح بطريقة تقدّمه على أنه الأنسب والأسرع رغم أن “فعاليته لن تبدأ إلا بعد مرور 5سنوات” (مع الاشارة بأنه ان تم تحويل الطريق فعليا حتى وذرف سيحطم المشروع ا أرقام القياسية). “مع أن الخمس سنوات كافية لتطبيق الحلول الثلاثة”.

شجع المشروع المقترح خلال الندوة على التفكير أكثر في هذا الاحتمال: مشروع استثمار مشترك بين تونس والصين بقيمة 400 مليون أورو يمكّن من استغلال 20000 متر مكعب من الفوسفوجيبس يوميا لصناعة الاسمنت، أي ما يقدر بنسبة 50% من النتاج اليومي بقابس. تم استكمال المرحلة التقنية للمشروع (دراسة الجدوى وما الى ذلك…) و اقتُرح على الوزارة تركيزه في منطقة الصخيرة في أجل 3سنوات فقط.، أي بنفس المنطقة التي تحتضن وحدة تصنيع الحمض الفوسفوري الخاصة بالمجمع الكيميائي التونسي و “سيخلق المشروع أكثر من 2000 موطن شغل”.

حسب تقدير علي: “المبلغ المالي المخصص من طرف الاتحاد الأوروبي للحد من التلوث البحري بقابس يكفي لتفكيك وتحويل وحدات الانتاج بالصخيرة مما يمكن من ايقاف تلوث الفوسفوجيبس وانبعاثات حمض الكبريت والفسفور في قابس”

 

جوان 2017: قابس، ان شاء الله لاباس

*”ان شاء الله لاباس” عبارة تونسية لتمني الشفاء لشخص مريض، أو لتمني تحسن الأحوال بشكل عام.

هل سيمكن تفكيك المجمع الكيميائي التونسي – أو تحويله بحلول 30 جوان القادم من ايقاف مأساة قابس ؟

“ننتظر كلنا وبفارغ الصبر قرار الوزيرة هالة الشيخ روحو الموعود وخارطة الطريق المقرر صدورهما في شهر جوان.” هكذا حدّثني خير الدين “يجب تصعيد الضغط في الأسابيع المقبلة للدفع لإصدار القرار”.

قام تحرك” أوقفوا التلوث” منذ أيام بتقديم عريضة في قابس تدعو ل”تفكيك الوحدات الملوثة” كما وجّهت نداءا “للنشطاء في مجال البيئة على المستوى الدولي” لطلب الدعم على نطاق أوسع . يحضّر التحرك أيضا لمظاهرة في أواخر شهر جوان بالتعاون مع صيادي المنطقة.

 

في حال لم يف الدستور التونسي بوعوده في علاقة  بالحق الدولي في بيئة سليمة، وتواصل تجاهل السلطات والصناعيين لاستغاثات أهالي قابس،  ألم يحن الوقت للتضامن الوطني والدوليو تفعيل الدعم للنضال ضد واحدة من أكبر وأقدم الجرائم البيئية المقترفة في تونس باسم التنمية والنهوض بالصادرات ؟

 


[1] صفحة الجمعية على موقع فايس بوك: https://www.facebook.com/AssociationDeSauvegardeDeLOasisDeCheniniGabesasoc/

[2]  الموقع الالكتروني لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO) http://whc.unesco.org/fr/listesindicatives/5386/

[3]  لقاء بتاريخ 28 أوت 2016

[4]  لقاء بتاريخ 25 أوت 2016

[5]  الوثائقي متوفر على هذا الرابط بموقع الحبيب العايب https://habibayeb.wordpress.com/2015/11/22/gabes-labess-online-en-ligne/

 

[6]  SOS Environnementصفحة الفايس بوك Gabès : https://www.facebook.com/sos.environnement.gabes/

[7]  كالمرسوم عدد 2010 – 2519 الذي يحدد النسبة الأقصى للانبعاثات الهوائية الملوثة

[8]  “اصلاحات سياسية متعلقة بالتصرف في الفوسفوجيبس بتونس، المرحلة الأولى: تقييم للوضع الراهن” 2012 مخطط عمل لمنطقة المتوسط، برنامج الأمم المتحدة للبيئة/ برنامج الأغذية العالمي

[9]  المرسوم عدد 2000 – 2339 

[10]  ذكرت كل هذه المعلومات في تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي أشرت اليه سابقا

[11]  لقاء بتاريخ 27 أوت 2016

[12]  لقاء بتاريخ 25 ماي 2017

[13]  لقاء بتاريخ 26 ماي 2017

[14]  لقاء بتاريخ 28 أوت 2016

[15] موروث تونس من التلوث في مواجهة السياسات الديمقراطية، ايريك قولدستاين 2014 Eric Goldstein, « Tunisia’s legacy of
pollution confronts democratic politics », 2014 : 
https://www.opendemocracy.net/north-africa-west-asia/eric-goldstein/tunisia’s-legacy-of-pollution-confronts-democratic-politics

[16]  S. Ilse et F. Houissa, « Gabes –
Une oasis tunisienne toujours polluée », article
مقال: “قابس – الواحة
التونسية الملوثة دائما”
 disponible sur le site de la Fondation
Heinrich Böll, Afrique du Nord : 
https://tn.boell.org/fr/2016/07/04/gabes-une-oasis-tunisienne-toujours-polluee

جمعية مرخص من طرف وزارة البيئة ومراقبة نوعية الهواء بمنطقة بروفانس آلب كوت دازير بجنوب شرق فرنسا. مكونة من وحدات اقليمية، ادارات حكومية ومنشآت عمومية، صناعية، جمعياتية وأشخاص ذوي كفاءة في مجال الصحة[17] http://www.airpaca.org/article/lassociation-air-paca

[18]  صفحة الجمعية على الفايسبوك https://www.facebook.com/APOCSG/

[19]  الصفحة 23 – 24

[20]  الموقع الالكتروني للمشروع http://pge-gabes.org/

[21]  لقاء بتاريخ 26 ماي 2017

[22]  “تقرير: حشد دولي ضد التلوث بقابس” د.روبرت – نواة، أكتوبر 2016 

[23]  لقاء بتاريخ 26 أوت 2016

[24]  في هذا الصدد، يجدر قراءة مقرر الندوة الدولية حول “القاضي والبيئة” التي نظمتها كلية الحقوق بصفاقس والفيدرالية التونسية للبيئة والتنمية بقلم جيهان المثلوثي بالجريدة الرسمية للجنوب la Gazette du Sud في مارس 2017

[25]  لقاء بتاريخ 28 ماي 2017

[26]  للقراءة أكثر عن الموضوع: “الحركات الاجتماعية في تونس تتحد” ت. برزيلونT. Bresillon

[27]  لقاء بتاريخ 27 أوت 2016

[28]  اشارة لعنوان مقال بقلم هندة الشناوي على موقع
نواة والصادر في أفريل 2017   

[29]  لقاء بتاريخ 26 ماي 2017

[30]  لقاء بتاريخ 25 ماي 2017