أزمة المياه بالحوض المنجمي: هل ستمحي المشاريع المبرمجة موسم الجفاف القادم؟

0
5813

أزمة المياه بالحوض المنجمي:

هل ستمحي المشاريع المبرمجة موسم الجفاف القادم؟؟

رحاب مبروكي (فرع الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية)

أكثر من 150 ألف مواطن تونسي يرفعون نفس الشعار “نريد حقنا في الماء”، هكذا تعيش مدن المنجم مشكل انقطاع مياه الشرب منذ ما يقارب العقد من الزمن. ويزداد الوضع تأزما بحلول الموسم الصيفي من كل سنة، ليصبح الإشكال شبه يومي، ما يترجم معاناة أهالي المنطقة من شبح العطش.

و رغم اعتراف المشرع التونسي بالمياه صراحة كحق مستقل من حقوق المواطنين و إقرار الدولة جملة من الالتزامات المحددة فيما يتعلق بتامين  مياه الشرب الصحية عبر تكفلها بتوفيرها لكل شخص باعتبارها عنصرا أساسيا لكرامة الإنسان و خصوصيته و جانبا من جوانب الأمن البشري، إلا أن تواصل غياب مورد المياه بالجهة يكشف عن وضع يدعو إلى القلق و إلى ضرورة التحرك الفعلي من قبل الجهات المعنية التي تمثلها كل من وزارة الفلاحة و الموارد المائية و الصيد البحري و الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه، للتصدي لهذه الأزمة عبر النظر في إمكانيات الحصول على مياه الشرب من أجل تفعيل مبدأ حقوق الإنسان.

المسؤولية القانونية للمؤسسات المعنية

ينص الدستور التونسي في فصله 44 على ضمان الحق في المياه كما يؤكد الفصل 5 من الأمر الحكومي عدد 57 لسنة 2011 المتعلق بالمصادقة على نظام الاشتراكات في الماء الصالح للشرب على ما يلي “تكفل الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه ضمان تزويد كافة مشتركيها بالمياه الصالحة للشرب دون انقطاع فيما عدا حالات القوة القاهرة أو عند تقلص الموارد المائية أو توقف إحدى محطات إنتاج المياه أو حصول عطب بالشبكة العمومية أو انجاز أشغال جديدة أو أعمال صيانة”. و إلى جانب القوانين الوطنية التي أصدرها المشرع التونسي فقد صادقت تونس كغيرها من الدول على العديد من الاتفاقيات و المعاهدات الدولية التي أكدت على ترسيخ الحق في الماء مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي نصت في المادة 14 على تكفل الدولة بالحق في التمتع بظروف معيشية ملائمة و الإمداد بالماء، و العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية الذي أقر في المادة 12 على حق كل إنسان في توفر الماء بنوعية جيدة و مأمونة و في إمكانية الوصول إليه ماديا و اقتصاديا و دون تمييز ، و في المادة 2 على تعهّد الدول بأن تتّخذ ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي بهذا الحق المعترف به .

وتعكس مجمل هذه القوانين والمعاهدات الدولية التوافق القانوني للدولة التونسية على المستويين الوطني والدولي بشأن أهمية الاعتراف بالحق في الماء وتفعيله باعتباره ضرورة حياتية، وهو ما يجعلها اليوم مدعوة إلى الالتزام بتعهداتها.

لكن ورغم الترسيخ التشريعي لهذا الحق إلا أن تواصل انتهاكه لا يزال قائما لا سيما مع استمرار انقطاع الماء بعدد من مناطق الجمهورية ومن بينها مدن الحوض المنجمي التابعة لولاية قفصة خاصة مع حلول الموسم الصيفي ومع ما يشهده الوضع الصحي للبلاد عامة من انتشار لجائحة “الكورونا”، مما يتطلب حرصا على ضمان تزود المواطنين بالمياه لتطبيق الأساليب الوقائية المجمع عليها من أجل التصدي لتفشي الوباء.

فهل تم اتخاذ إجراءات جديدة للحد من النقص الحاصل على مستوى توزيع المياه؟؟

مستوطنات العطش

  منهكة و جافة، منزوية و دون ماء تعيش معتمدية أم العرائس أياما قاسية فرضت عليها منذ سنوات و لا تزال كذلك، هذه المدينة التي حرم مواطنوها من أبسط الحقوق التي تعكس إنسانيتهم و تترجم معنى الحياة فيها، بين شوارعها المعزولة تتعالى أصوات الأهالي منادية بالحق في الماء لكن سرعان ما تتلاشى أصداء النداءات تاركة خلفها خليطا من التعب و الغضب و العطش، يرتسم على وجوه المتساكنين ليحكي لنا تفاصيل واقع هذه المنطقة التي ترزخ منذ أعوام تحت وطأة الجفاف، تماما مثل المدن المجاورة لها التي تعيش بدورها نفس الوضع مثل المتلوي و المظيلة و الرديف التي لا تزال تسجل انقطاعات متكررة و يومية للمياه مثل ما حدث بمدينة الرديف خلال شهر أفريل المنقضي عند قيام بعض الفلاحين بالمدينة بقطع الماء على باقي المتساكنين بحجة عدم تمكينهم من سقي أراضيهم مثلما أكده معتمد الجهة. وعلى هذا الحال تتواصل معضلة الجفاف في ظل تعدد الأسباب وتداخل المسؤوليات بين أكثر من طرف.

 فهل من حلول جذرية في ظل التعاطي مع هذا الإشكال الذي يعد أزمة طارئة؟؟

الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه

تتطلع الشركة المعنية بتوزيع المياه إلى إيجاد حلول جذرية في التعامل مع واقع المياه بالجهة. لكن الهوّة التي تظل قائمة بين تطلعات الشركة والواقع المعيش، تعكس حجم المعاناة التي يتكبدها المواطنون بالجهة جرّاء حرمانهم من أحد أهم حقوقهم الأساسية. ومع ما تمثله هذه المسألة من إشكال حقيقي فان تجاوزها يتطلب وعيا مؤسساتيا من قبل الجهات المسؤولة، من أجل إدارة أفضل لتدفق المياه إلى المواطنين دون استثناء. وفي غضون ما تشهده منطقة الحوض المنجمي من اضطرابات على مستوى توزيع المياه فان العمل على تخطي الأزمة مستمر عبر برمجة عدد من المشاريع الهادفة إلى ضمان التزوّد بالماء الصالح للشرب خلال صائفة 2020 حسب ما أكده لنا المدير الجهوي للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه محمد بنعاسي.

و يشير ذات المصدر أيضا إلى أن الشركة قامت بالبدء في انجاز بئر جديدة بمنطقة “وادي الحاشي” التابعة لمعتمدية أم العرائس و بئر “الطرفاية 15 ” التابعة لمدينة الرديف و ستكون هذه الآبار جاهزة قبل حلول صيف 2020 ، و بالنسبة إلى معتمدية المتلوي فأكد أنه تم الرفع في تدفق المياه بكل من بئر “اللوزة 3” و “الشنوفية” ب10 متر في الثانية، أما منطقة المظيلة فتم برمجة محطة ضخ مياه بها بمحاذاة المعمل الكيميائي من أجل الرفع في تدفق المياه من 45 لتر إلى 60 لتر في الثانية، غير أن المقاول المكلف بإنجاز المشروع رفض العمل أثناء فترة الحجر الصحي و طالب بتأجيل بدء انجاز المشروع إلى ما بعد رفع الحجر الشامل عن البلاد وفق ما صرح به المدير الجهوي لشركة المياه.

 تتزامن تصريحات مسؤولي الجهة حول أزمة العطش في ولاية قفصة ومنطقة الحوض المنجمي بالخصوص مع وجود واقع مغاير لما تم التصريح به. ففي حين يتم التأكيد على اقتراب انفراج الأزمة قبل حلول الموسم الصيفي، يتواصل الانقطاع المتكرر للمياه ليطال عديد الأحياء يوميا وهو ما يجعل السؤال مطروحا، من هو المسؤول الفعلي عن استمرار الوضع على هذا النحو من السوء؟

مسؤولية مشتركة بين المواطن وشركة المياه

الربط العشوائي للمياه هو فصل من فصول أزمة العطش لا يمكن التغاضي عنه، إذ يتعمد العديد من المواطنين إلى جانب بعض الفلاحين انجاز أربطة غير قانونية للمياه واستغلالها في ري الأشجار سواء بالمناطق الريفية أو داخل المدن والأحياء السكنية مما يؤثر على عملية تزويد الأهالي بهذا المورد، كما يزيد من حدة معضلة العطش الذي أصبح يمتد إلى أكثر من أسبوع خلال أيام الصيف.

ولم ترتق محاولات التصدي الى حجم هذه الأزمة حيث اقتصرت على حملة وحيدة ضد الربط العشوائي نفذتها لجنة مشتركة تضم معتمد أم العرائس ومسؤول عن الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه إضافة إلى أعوان بالحرس الوطني بحضور عدل منفذ حيث تم ضبط عدد من المخالفات بمنطقة البركة التابعة لمعتمدية أم العرائس وإحالتهم على أنظار القضاء لكن اللجنة لم تكمل عملها وتفككت منذ جوان 2018.

السيد مقداد السعيدي رئيس وحدة الأشغال المحلية للشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه بأم العرائس و الرديف و سيدي بوبكر أكد بأن انتشار ظاهرة الأربطة العشوائية هي من العوامل التي تسببت في تفاقم أزمة المياه في المنطقة، و تتركز عمليات السرقة حسب ما أدلى به ، “بمنطقة البركة و كل من حي الأمل و حي النور و حي أولاد عيساوي  و تستعمل في المجال الفلاحي أو لري الأشجار أو للاستعمال اليومي للسكان”، كل ذلك وسط ضعف رقابة الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه التي تتحمل بدورها المسؤولية خاصة على مستوى عدم تسجيلها لجميع المخالفات و التراتيب للقائمين بهذا الخرق القانوني، هذا التقصير الذي أرجحه السيد السعيدي إلى ضعف الإمكانيات للشركة كالسيارات و قلة التدخلات المرتبطة بنقص عدد الأعوان.

مسؤولية شركة فسفاط قفصة

شركة فسفاط قفصة تتحمل جزءا من المسؤولية في الإشكال المتعلق بالتزود بمياه الشرب حسب ما أدلى بع السيد مقداد السعيدي وذلك في عدم التزامها بالاتفاقية التي أبرمتها مع الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه منذ سنة 2016. و تنصّ الاتفاقية على أن تعاضد شركة فسفاط قفصة مجهود شركة المياه لإيصال المياه للمواطنين عبر مدّها بالدعم المادي المتمثل في استغلال الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه للآبار الخاصة بشركة الفسفاط.

أما السيد محمد بن عاسي المدير الجهوي للشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه فأرجح أسباب الانقطاع الرئيسية إلى أسباب مادية متمثلة أساسا في نقص عدد الآبار التي على ملك الصوناد و الأعطاب التي تطال العدادات و أيضا نقص عدد العملة و الأعوان الذي ينتج عنه بطئ في التدخلات عند حصول كسور في شبكات المياه، و أوضح أيضا أن استغلال شركة فسفاط قفصة لأكثر من نصف الموارد المائية بالجهة له تأثير على الموارد المائية بالمنطقة محمّلا مسؤولية الاستغلال إلى وزارة الفلاحة و الموارد المائية و الصيد البحري باعتبارها المسؤولة عن تقسيم كميات المياه.

المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يندد

في إطار متابعته لمشكلة انقطاع الماء الصالح للشرب كان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية طرفا فاعلا في موجة التنديد بتواصل انتهاك الحق في المياه و حمّل المسؤولية الأولى للشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه و من ورائها وزارة الفلاحة لغياب الجدية في التعاطي مع هذه الإشكالية التي بقيت دون حلول إلى يومنا هذا و اعتبر أن مشكلة العطش راجعة بالأساس إلى أسباب هيكلية صلب الشركة خاصة على مستوى النقص الفادح في عدد الأعوان و تقادم الشبكة المائية إضافة إلى تفشي ظاهرة الربط العشوائي في ظل غياب أي دور رقابي للسلطة المحلية و الجهوية التي اتخذت موقف المتفرج. كما عمل المنتدى على تنظيم عديد الوقفات الاحتجاجية بولاية قفصة ومعتمدية الرديف من أجل لفت نظر المسؤولين بشركة المياه إلى ضرورة إيجاد حل لمشكل العطش.

البيان الذي أصدره المنتدى التونسي للتنديد بتواصل انقطاع المياه

 

مسؤولية وزارة الفلاحة

وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري التي تعد المسؤول الأول والأخير عن توزيع المياه بكافة مناطق الجمهورية، تجاهلت هذه المسألة لسنوات، وهي مدعوة اليوم من منطلق مسؤوليتها القانونية إلى تطبيق التشريعات المكرسة لهذا الحق حتى يتسنى لمواطني الجهات التي تعاني من هذا الإشكال، العيش في ظروف بيئية أحسن مما هي عليه. وعلى هذا الأساس فان إدخال تحسينات عاجلة على شبكة المياه المتقادمة، وتقديم الدعم المادي واللوجيستي لشركة المياه لتحسين خدماتها تجاه المواطن، يعد من مهام الوزارة التي وجب لفت النظر إليها ووضعها في قائمة الأولويات، من أجل تحسين عملية إدارة المياه بالجهة وترجمة حقوق نادت بها شعوب وأمم داخل البلاد وخارجها.

تبقى قضية المياه في تونس وفي الحوض المنجمي على وجه الخصوص مسألة تحتاج كثيرا من الوعي المؤسساتي والمجتمعي بقيمة هذا الحق، لما تكتسيه من أهمية بالغة تعكس جوانب إنسانية من حقوق الأفراد وجب احترامها والاعتراف بها، بما وجد من الإمكانيات ومهما كانت الظروف.