صمود في وجه الظروف: وضع النساء البرباشة وتحدياتهن اليومية

0
3058

صمود في وجه الظروف: وضع النساء البرباشة وتحدياتهن اليومية

ريم بن عمر (مركز الانصات والتوجيه للنساء ضحايا العنف – قصيبة المديوني )

بينما يناقش العالم حق المرأة في المشاركة السياسية بين “الانصاف” و” التناصف” تحرم بعض النساء من أبسط حقوقهن الأساسية مثل الحق في الغذاء الكافي، السكن اللائق، التعليم، الصحة، الضمان الاجتماعي وهو ما يزيد من حالة الاقصاء الاجتماعي والاقتصادي وتوسع ظاهرة التمييز الطبقي وقاعدة الفقر التي تشمل أساسا الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة. ومن أهم هذه الفئات نجد النساء ضحايا التشغيل الهش اللاتي تعملن في القطاعات غير المهيكلة حيث تواجهن الكثير من الصعوبات المرتبطة بغياب التشريعات والقوانين التي تحميهن من التمييز والعنف في ظل ظروفهن الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. فحسب تقرير الأمم المتحدة حول التمكين الاقتصادي للمرأة “في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يشارك

سوى      20.5%   من النساء في القوى العاملة. وتشير التقديرات إلى أن 33% من النساء في المنطقة يشاركن في العمالة الهشة مقارنةً بنسبة 23%  للرجال. وتُمثَّل المرأة تمثيلًا زائدًا في المهن ذات الأجور المتدنية” هذه الفئة هي الأكثر تضررا في المجتمعات العربية وخاصة تونس اذ نجد العديد من أنواع التشغيل الهش كـالعاملات في القطاع الفلاحي وقطاع الحظائر والعاملات في مجال جمع وفرز النفايات والمعروفات باسم “البرباشة”.

“البرباشة” هي مهنة ظهرت في السنوات الأخيرة خاصة في المدن إذ يقوم العاملين والعاملات بها بجمع المواد القابلة للرسكلة خاصة البلاستيك والألومنيوم ويقومون ببيعها للشركات التي تقوم بتدوير ورسكلة هذه النفايات، وينقسم عمل البرباشة إلى نوعين:

  • برباشة المصبات المراقبة أو العشوائية إذ يقومون بفرز النفايات داخل المصبات بعد جمعها من قبل البلديات
  • برباشة الأحياء الذين يقومون بجمع وفرز القوارير البلاستيكية أو الألومينيوم داخل الأحياء في الأنهج أو في حاويات النفايات.

وقد شهدت ظاهرة “البرباشة” نموا هاما في السنوات الأخيرة تزامن مع استفحال الأزمة المركبة وتفاقم ظواهر البطالة والفقر والهشاشة. وقد صاحب هذا النمو تطورا ملحوظا لعدد النساء المشتغلات في هذا القطاع. ويستقبل مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف الاقتصادي والاجتماعي بالمنتدى دوريا العديد من النساء اللاتي تمتهن هذه المهنة حيث تلجأن الى المركز بحثا عن المساعدة والاسناد في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجههن وبالخصوص المشاكل الصحية. وتكشف حصص الاستماع والانصات لهن حجم المعاناة التي تعشنها ما دفعهن للبحث عن الاسترزاق في هذه المهنة الشاقة رغم المصاعب التي تواجههن وحالة الاذلال والانهيار النفسي التي تعانينها. والكثير منهن تعرضن في حياتهن الى انتكاسات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية مثل الترمل والطلاق والعنف الأسري والطرد التعسفي والاغتصاب والتحيل وغيرها. وراء كل واحدة منهن حكاية تشهد عن عمق الأزمة الاجتماعية التي نعاني منها مجتمعيا خاصة في علاقة بالعنف المسلط على النساء والانتهاك المستمر لحقوقهن في كل المستويات وفي كل مراحل العمر.

وبالرجوع لمهنة “البرباشة” نجد أنها مهنة شاقة خاصة أن العاملات فيها تنطلقن في العمل منذ الصباح الباكر للبحث عن أي قارورة بلاستيكية أو علب ألومنيوم وتجبن أحياء المدن على مدار أكثر من 10 ساعات متحديات الصعوبات المناخية سواء في الشتاء أو الصيف ما ينجر عن ذلك صعوبات جسدية تصل حد الارهاق إذ تقطع “البرباشة” بين الأنهج والطرقات يوميا مسافات طويلة لا تقل عن 8 كيلومترات مشيا على الأقدام حاملة ما تم جمعه في أكياس كبيرة على ظهرها.

يتميز العمل في هذا القطاع بتنافس كبير بين البرباشة خاصة بين النساء والرجال الذين عادة ما يستعينون بعربات ودراجات نارية ويجمعون النصيب الأوفر وهم الأكثر حظا لجمع أكبر عدد ممكن من المواد القابلة للرسكلة مما يدفع النساء لتقضية الكثير من الوقت وبذل المزيد من الجهد في سبيل جمع أكبر عدد من الكيلوغرامات لتوفير قوتهن اليومي، اذ تقمن ببيعها حسب سعر السوق ويتراوح الكيلوغرام الواحد بين 400 مليم و900 مليم وتقوم “البرباشة” بجمع 30 كيلوغرام على أقصى تقدير في اليوم. كما تتعرضن إلى كثير من الحوادث أثناء عملهن خاصة وأن النفايات تشمل مختلف أنواع الفضلات من البلور إلى جميع المواد الخطرة وحتى السامة وهن مفتقدات لجميع وسائل الحماية (قفازات وأقنعة واقية…) التي لا يملكن الامكانيات المادية لتوفيرها لحماية أنفسهن من هذه الأخطار.

ويقدر الدخل اليومي للمرأة البرباشة بحوالي 8 دنانير في اليوم أي ما يعادل 240 دينار شهريا. مع الملاحظ أن الأجر الأدنى في تونس يبلغ حوالي 460 دينار شهريا.

تواجه هذه الشريحة الاجتماعية التهميش المستمر وهي غائبة تماما في سياسات الدولة الاجتماعية وشمل التهميش الذي تتعرضن له 3 مجالات أساسية:

  1. الحق في الصحة

تسبب هذه المهنة عديد المشاكل الصحية فتقريبا جميع النساء التي تمت مقابلتهن في مركز الاستماع والتوجيه تعاني من مشاكل في الظهر وفي اليدين وليس لديهن أية طريقة للتداوي والعلاج إلا على حسابهن الخاص إذ أنهن لا تتمتعن بالتغطية الصحية ولا بدفتر العلاج المجاني مما يدفعهن لتحمل الالام دون علاجها ما ينجر عنه تعكر حالتهن الصحية وتراجعها حيث أوضحت احدى هذه النساء  التي تعمل كبرباشة داخل أحد المصبات أنها مريضة بضيق التنفس و بالرغم من ذلك فقد لاحظنا  أنها كانت تقوم بفرز النفايات داخل مصب عشوائي وسط الدخان المتأتي من حرق النفايات وجل ماكانت تقوم به لحماية نفسها من هذا الدخان هو وضع وشاح كتفيها على فمها. يعتبر هذا الوضع انتهاكا صارخا لحقوقهن من قبل الدولة وخاصة “الحق في الصحة” وهو حق مضمون في الدستور وفي جميع المعاهدات الدولية الممضي عليها من قبل الدولة خاصة وأنهن يقمن بدور بيئي هام يتمثل في مقاومة التلوث بالبلاستيك.

ان الحق في الصحة هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان وتم التأكيد على ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948 في المادة 25 التي تنص أنه ” لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وعلى صعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية”

وأيضا تم التأكيد على ذلك في المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ” تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن في الصحة البدنية والعقلية”

ونجد في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تأكيدا واضحا على حق المرأة في الصحة في المادة 12 من الاتفاقية ” تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في ميدان الرعاية الصحية من أجل أن تضمن لها على أساس تساوي الرجل والمرأة، الحصول على خدمات الرعاية الصحية بما في ذلك الخدمات المتعلقة بتخطيط الأسرة”

بالرجوع أيضا لدستور البلاد التونسية لسنة 2022 نجد في الفصل 43 تأكيد على حق كل انسان في الصحة وتأكيد واضح على فاقدي السند وذوي الدخل المحدود ” الصحة حق لكل انسان، تضمن الدولة الوقاية والرعاية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية”

تضمن الدولة العلاج المجاني لفاقدي السند ولذوي الدخل المحدود وتضمن الحق في التغطية الاجتماعية طبق ما ينظمه القانون” ولكن مع كل هذه المعاهدات الممضاة من قبل الدولة الملزم تطبيقها والتأكيد على الحق في الصحة في الدستور تخلت الدولة على مسؤوليتها ودورها تجاه هذه الفئة المهمشة التي أصبحت تعيش في اقصاء اجتماعي تام اذ لا تملك أبسط مقومات العيش الكريم.

  1. الحق في عمل لائق

 ان الدولة ملزمة بتوفير عمل لائق والعيش الكريم لجميع أفراد الشعب، لكن نجد البرباشة وخاصة النساء منهن تعشن وضعيات صعبة بسبب اضطرارهن للعمل في هذا المجال. فمنهن من تخجل من ممارسة هذا العمل نظرا لسوء نظرة المجتمع والوصم الاجتماعي الذي يميز النساء اللاتي تمتهن هذه المهنة وهن يسعين للقيام بها بعيدا عن أحبائهن ومدنهن حتى لا يواجهن أقرباءهن كما تلتجأ بعضهن الى العمل في الليل تحت جنح الظلام بعيدا عن الأعين. فلا يكفي انهن تعشن حالة الفقر والخصاصة لكنهن أيضا لا تجدن أبسط مقومات العمل اللائق الذي يكفل كرامتهن، فجميع مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الانسان من المادة الأولى التي تنص “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.” أكدت على أن جميع الناس أحرار ومتساوين في الكرامة والحقوق الا أن هذه الفئة من النساء لا تملكن أبسط مقومات المساواة والكرامة. فالإقصاء الاجتماعي لا تتعرض له هذه النساء فقط بل أيضا جميع أفراد عائلتهن سواء في الشارع أو في المدرسة أو في الفضاء العام حسب ما أكدته لنا إحدى النساء التي تم استقبالها في مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف الاقتصادي والاجتماعي بالمنتدى.

كما أن المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان تأكد أن

  1. لكلِّ شخص حقُّ العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة.
    لجميع الأفراد، دون أيِّ تمييز، الحقُّ في أجٍر متساوٍ على العمل المتساوي.
    3.لكلِّ فرد يعمل حقٌّ في مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية.”

رغم كل هذه التشريعات تحرم هذه الفئة من النساء من حقهن في عمل يضمن لهن حياة لائقة بالكرامة البشرية خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بالنسبة للنساء التي بلغت 21.7% في الثلث الثالث لسنة 2023 مقابل 20.4% في الثلث الثالث لسنة 2022 حسب المعهد الوطني للإحصاء.

كما تجدر الإشارة الى استغلال ضعفهن وقلة حيلتهن من قبل “الوسطاء” الذين ينقلون ما تم جمعه من منازل النساء العاملات في هذا القطاع الى المصانع المخصصة في إعادة تدوير البلاستيك والمواد القابلة للرسكلة بأجر زهيد للكيلوغرام الواحد حيث يشاركنهن مرابحهن وعرق جبينهن.

  1. العنف

ان جل الانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية التي ذكرت سابقا هي تجليات للعنف المسلط على هذه الفئة التي تتعرض الى جميع أنواع العنف (عنف معنوي، عنف مادي، | عنف اقتصادي، عنف جنسي) حيث تتعرضن الى عدة مضايقات تصل حد الاعتداء بالعنف اللفظي والمادي من قبل البرباشة الرجال الذين يعتبرون هذه المهنة حكرا لهم بسبب طبيعتها الشاقة ويرفضون مقاسمة النساء لهم لـ «مورد رزقهم”حسب ما أكدته احدى النساء والتي لم تتقدم بشكاية خوفا من التعرض لمضايقات أخرى

وقد ألزم القانون عدد 58 لسنة 2017 مؤرخ في 11 أوت 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة الدولة باتّخاذ التّدابير اللازمة للقضاء على الممارسات التّمييزيّة ضدّ المرأة على مستوى الأجْر والتغطية الاجتماعية ومنع تشغيل المرأة في ظروف قاسية أو مهينة أو مُضرّة بصحّتها وسلامتها وكرامتها

 فمتى إذن تتوفّر التغطية الصحّية والاجتماعية للنساء العاملات كبرباشة؟ متى يتنظم هذا القطاع وتتمتع العاملات فيه بظروف لائقة وبأجور تضمن لهنّ عيشا كريما؟