على أبواب الذكرى العاشرة للثورة: الكامور …ولادة عسيرة لحركة إجتماعية قوية وفاعلة !

0
5131

على أبواب الذكرى العاشرة للثورة:

الكامور …ولادة عسيرة لحركة إجتماعية قوية وفاعلة !

تونس-المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
بقلم الصحفية أسماء سحبون

يحتفل التونسيون قريبا بالذكرى العاشرة لثورة 17 ديسمبر 2010 -14 جانفي 2011 وسط مناخ اقتصادي واجتماعي متأزم ميّز انتقال ديمقراطي اقتصر في جوهره على البناء السياسي ليثمر ديمقراطية سياسية لا ظلّ لها على مستوى العدالة الاجتماعية وكل الاستحقاقات التي رفعها المهمشون والمفقرون إبان الثورة.
هذه السنوات العشر بدت مُنْهِكَة للحراك الاجتماعي الذي قاد مسيرة التغيير وانهى نظام حكم قمعي بعد الهزة الاجتماعية التي عاشتها مختلف مناطق البلاد. ففي العام الجاري وخاصة خلال الأسابيع الاخيرة حدثت متناقضات في الحراك الاجتماعي تؤكد بلا شك ان مسار هذا الحراك بصدد التغيّر النوعي وان هذا التغيير ستكون له ارتداداته مستقبلا حتّى على المستوى السياسي.

تغير نوعي

كانت المراهنة قوية اثر مقتل المواطن عبد الرزاق الخشناوي، فجر احد ايام شهر اكتوبر الماضي اثناء تنفيذ بلدية سبيطلة لقرار هدم “أكشاك” غير قانونية بالجهة، بان الحادثة ستفجّر احتقانا اجتماعيا في المنطقة (سيتغذّى بالتركيبة الاجتماعية الخصوصية في الجهة) قد يمتد لهيبه لبقية الجهات وسط مناخ اقتصادي واجتماعي وايضا سياسي متأزم في البلاد. ولكن جاءت ردة الفعل عكس كل التوقعات وقد تكون اقالة مسؤولين جهويين وفِي مقدمتهم والي القصرين عملية جراحية سريعة أنقذ بها رئيس الحكومة هشام المشيشي الموقف فنجح في اخماد شرارة هذا الحريق. لم يمض وقت كثير حتى جاءت حادثة انتحار الشاب صالح الفري في جندوبة حرقا على خلفية سحب رخصة بيع الأعلاف منه بسبب تجاوزات ارتكبها وعرّضته لعقوبة سجنية ولم ينجم عن الحادثة، كما هو متوقع، اي ردة فعل احتجاجية تماما كما حصل من قبل (مثلا اثر انتحار الشاب رضا اليحياوي في القصرين في جانفي 2016 وانتحار محمد طارق البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010 من قبله حرقا على خلفية عجز عربته المتجولة بما تحتويه من كميات من الغلال ).
حدث إذن عكس ما هو متوقع بخصوص ردات الفعل الاحتجاجية حول الحادثتين وغياب ردة الفعل الاحتجاجي، كما حصل مرات عديدة لسنوات طويلة اثناء وما بعد الثورة، لا يعني حتما تلاشي الحراك الاجتماعي بل هو مؤشر تغيير نوعي فيه اذ لم يعد الحراك الاجتماعي حبيس ردات فعل عفوية على حوادث اجتماعية قد تتلاشى مع الزمن وتتفكك وتندثر. فعلى بعد مئات الكيلومترات من سبيطلة وجندوبة، تحديدا في تطاوين، كان هذا التغيير النوعي في الحراك الاجتماعي يتأكّد ويعطي صورة جديدة عن الحراك وعن قيادة الحراك وعن الفاعلين الجدد الذين أطاحوا بالصورة النمطية للقائد المحلي. ففي تطاوين استمرّت حركة اعتصام الكامور وصمدت لمدة أربعة اشهر ولمدة اربع سنوات لتثمر تفاعلا لا تبديه السلطات في الغالب مع الحركات الاحتجاجية. تنسيقية اعتصام الكامور نجحت إذن في اقتلاع مكانا لها كنموذج لتغيير عميق يعيشه الحراك الاجتماعي وهي التي تقدم المثال على الاستمرارية والتطور ونيل المطالبة بشكل سلمي دون ان يكون الفاعلون في الصف الاول سياسيون او نقابيون او أبناء النخبة.

“الرخ لا والضخ لا”

انطلق هذا الحراك في 15 مارس 2017 وكان شعاره “الرخ لا” ليلفت أنظار الجميع بخصوص الدعم الشعبي الواسع له رغم التشكيك في نواياه وهو الذي يرفع شعار “وينو حقي في الثروات الطبيعية” بشكل يبدو متكامل مع شعار ترفعه جهات سياسية “وينو البترول”.
تطور هذا الحراك لاحقا لينصب محتجون خيام للاعتصام في طريق الكامور بتاريخ 23 افريل 2017 تصعيدا لحراكهم الاحتجاجي وللضغط على السلطات للتفاعل مع مطالبهم وجاء التفاعل الرسمي بتنقل رئيس الحكومة أنذاك يوسف الشاهد الى تطاوين في 27 افريل 2017 مرفوقا بوزراء التشغيل والتجارة والشؤون الاجتماعية وتقديم مقترحات تضمنت 64 نقطة رفضها المعتصمون. وبعد حوالي 20 يوما من زيارة الشاهد للمنطقة خطب رئيس الجمهورية آنذاك الباجي قايد السبسي وهدد بعسكرة منطقة انتاج النفط في صحراء تطاوين في رسالة تلقفها المعتصمون بمزيد من التصعيد وذلك بإقدامهم على غلق الفانا بتاريخ 20 ماي 2017 ورغم محاولات فك اعتصام الكامور بالقوة العامة ثبت المعتصمون على حراكهم ليُثْمِر اتفاق جوان 2017 وبوساطة من امين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي.
مضى 30 شهرا على توقيع هذا الاتفاق دون ان يرى طريقه للتنفيذ بالإضافة الى تراجع السلطات عن تعهدها، وفقا لما ينص عليه الاتفاق، بعد تتبع المشاركون في الاحتجاج قضائيا ليعود ملف الكامور مجددا الى السطح في جانفي 2020 اثر استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيد لأربعة أعضاء من تنسيقية اعتصام الكامور. ويأتي ذلك في سياق تواتر فيه توجه المحتجون نحو قصر الرئاسة لتقديم مطالبهم وإبلاغ اصواتهم علما وان الكثير من اصحاب المطالب دخلوا آنذاك في حراك احتجاجي طريف تمثل في السير على الأقدام من جهاتهم في اتجاه القصر الرئاسي للإبلاغ عن مطالبهم. وقد أصدرت تنسيقية اعتصام الكامور بيانات عودة للاعتصام استمرت حتى اثناء فترة الحجر الصحّي الشامل دون ان تلاقي تلك البيانات اي تفاعل من قبل السلطات خاصة وأنها تأتي في مناخ سياسي متحول تميّز بتعثّر في تشكيل الحكومة في بداية العام من قبل الاحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية ثم تشكيل حكومة يقودها الياس الفخفاخ (من خارج المنظومة البرلمانية) في 27 فيفري 2020 ومناخ صحي دقيق تمثل في وصول عدوى فيروس كوفيد 19 (كورونا المستجد) الى البلاد واقرار حظر صحي شامل شلّ الاقتصاد الوطني وكلَّف البلاد خسارة 21.6٪‏ من الانتاج الداخلي الخام خلال شهرين وزيادة معدل البطالة ب3 ٪‏ إضافية.
مجمل هذه العوامل لم تثن حركة الكامور في التمسك بمطالبهم ليعود نصب الخيام في شوارع تطاوين وليأتي التصعيد مرة اخرى من قبل السلطة باعتقال الناطق الرسمي باسم الحركة طارق الحداد أواخر شهر جوان 2020 والتدخل بعنف ضد المحتجين في الجهة. وعاشت تطاوين ثلاثة ايام عصيبة من المواجهات بين المحتجين واعوان الأمن وتطور الوضع لاحقا بعودة خيام المعتصمين الى طريق الكامور على بعد حوالي خمس كيلومترات من “الفانا” وتوجيه رسائل مجددا لكل المؤسسات السيادية في الدولة لطلب تنفيذ اتفاق جوان 2017 دون اي تفاعل من قبل السلطة.
وفِي 16 جويلية 2020 أغلق المعتصمون “الفانا” وتوقف الضخ لمدة ناهزت 4 اشهر بلغ فيها حجم الخسارة وفقا للأرقام الرسمية 800 مليار وصولا الى توقيع اتفاق 8 نوفمبر الجاري والذي أنهى الازمة على أمل التزام السلطة بتعهداتها والمرور نحو تنفيذ كل بنوده.

ولادة قيصرية

بهذا التدرّج والذي تخلله ايضا تصعيد تمثل في دخول الناطق الرسمي في إضراب جوع وحشي نجح معتصمو الكامور في جلب السلطة الى طاولة المفاوضات مجددا وتوقيع اتفاق كلفته 800 مليار خسائر كان يمكن تفاديها. لكن الملفت في هذا الحراك الاجتماعي الذي تميز بالاستمرارية في الزمن والتماسك عكس حركات اجتماعية مماثلة تفككت مع الزمن واندثرت هو بروز قيادات محلية عكس الصورة الكلاسيكية التي اعتدناها للمناضلين في الجهات فهذه المرة لم يكن القائد المحلي (طارق الحداد نموذج) سياسيا ولا نقابيا ولا هو ايضا من النخبة هو فقط تاجر خسر مشروعه التجاري قبل اربع سنوات ولا يتجاوز مستواه الدراسي السابعة أساسي. هذه الشخصية راكمت رصيدا من المصداقية والثقة جعلت مدينة تطاوين تنتفض اثر اعتقاله في جوان الماضي وليطالب المحتجون بإطلاق سراحه اولا. فاعل جديد بصدد البروز قد يظهر في مناطق احتجاجية اخرى غير الكامور. هذا الفاعل وُلِد من حيث انتهت النخبة وقصة النضال السياسي والنضالي. وهي ولادة قيصرية تأتي على أنقاض أزمة الثقة التي بات يعيشها الساسة والنقابيون والنخبة على المستوى المحلي ليصنع الشارع قادة جدد يكون لهم دور بلا شك على المستوى المحلي واولها التأثير في الانتخابات المحلية والعامة.
وتبدو خطوة الدولة، في تفاعلها الإيجابي مع اعتصام الكامور وتوقيع اتفاق جديد، إيجابية من حيث استعادة حبل الثقة مع المحتج وإعطاء الحراك الشبابي الثقة مجددا في مؤسسات الدولة فَلَو تمت هذه الخطوة منذ البداية ما كان ليتم تسجيل خسارة ب800 مليار بسبب توقف ضخ الانتاج لمدة أربعة اشهر. هناك دائما حلول تُبْقِي على الثقة بين الشارع والسلطة وهي حتما تبدأ بخطوة فتح باب الحوار. كما ان ازمة الكامور هي ايضا رسالة للفاعلين في المشهد بان الخطوة تباعدت بينهم وبين المواطن والذي لم يتبقى له وسط كلّ هذه الأزمات سوى التشبّث بثقة يحتاجهومن هنا جاءت كلمة سر نجاح وتماسك حركة الكامور بتحقيقها لمطالبها على الأقل بتوقيع اتفاق جديد.ا للإطمئنان على ما يحتاجه من خدمات من اجل حياة كريمة وهذا الرصيد حققه بلا شك أعضاء تنسيقية اعتصام الكامور.

الدروس التي يجب استخلاصها

لا يمكن لأزمة الكامور ان تمر هكذا دون ان يستخلص منها الجميع دروسا في مقدمتها المحافظة على السلم الاجتماعي فتعطّل الملف الاجتماعي طيلة سنوات ما بعد الثورة وعدم امتلاك الحكومات المتعاقبة لرؤية استراتيجية واضحة بخصوص إدارة الملف الاجتماعي راكم الأزمات وابقى على الاحتقان الاجتماعي وإذا ما أضفنا الى هذا الوضع تراكم ازمة الثقة بين الشارع ومكونات المجتمع المدني من سياسيين ومنظمات ونخبة نصل الى أزمة مماثلة-ازمة الكامور حيث يقود الحراك فاعلون جدد اغلبهم شباب معطَّل عن العمل من خريجي الجامعات. ورغم ان هذا الحراك يلاقي العدوان والتشويه واعتباره نوع من التمرد غير المحمود الذي يتهدد ببداية عودة نحو القبلية والعروشية الا ان المتابعون للوضع الاجتماعي يَرَوْن ان هذا الحراك نجح في خلق كتلة تاريخية جهوية وحدت قوة الحركة الاجتماعية مع المنظمات الاجتماعية والكفاءات الإدارية والاكاديمية الجهوية فالاتحاد العام التونسي للشغل شارك هذه المرة في مفاوضات الاتفاق الجديد باعتباره جزء من الحراك وليس باعتباره وسيطا بين المحتجين والسلطة كما حصل في العام 2017 كما تواجد في المفاوضات ممثلو الاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة كجزء من الحراك ايضا كما ان حراك الكامور نجح في جعل مطلب التشغيل الذاتي ينصهر في إطار رؤية كاملة للحل تدمج البعد التنموي خاصة وان قيادة الحراك نجحت في إدارة الصراع الداخلي ليتحول التنوع المحلي والقبلي والمنظماتي وحتى السياسي الى عنصر قوة في داخل الحراك وفقا لقراءة متابعون للوضع الاجتماعي.
هذا الحراك والذي تعود نواة بداياته الى ما قبل 2017 ظهر قوي وموحد خاصة بعد ان اعتمدت الحكومة اُسلوب المواجهة معه في جوان الماضي واعتقلت الناطق الرسمي باسم التنسيقية طارق الحداد مما عزز التضامن والوحدة والالتفاف الشعبي حول الحراك وايضا التفاف المنظمات اذ أعلن الاتحاد الجهوي الإضراب العام الجهوي احتجاجا على التدخل العنيف ضد المحتجين وهكذا أصبح جزء من الحراك. كما ان التدخل الأمني العنيف لفض الاعتصام في 2017 أعطى لحراك الكامور شرعية التضحية اثر سقوط الشهيد أنور السكرافي دهسا بسيارة امنية علما وان الشهيد السكرافي هو خريج الجامعة معطلا عن العمل كان يبحث قبل اعتصام الكامور عن الحصول على قرض صغير قيمته 5 آلاف دينار للانتصاب للحساب الخاص (كان ينوي الاستثمار في تربية الماشية) لكنه لقي حتفه اثناء فض اعتصام الكامور.
هذا الحراك النوعي وان قاده أعضاء عرفهم الرأي العام الا انه لا يمكن التغافل عن قيادات ظل غير معروفين اعلاميا وهم صف النخبة في تطاوين من مهندسين واساتذة جامعيين وغيرهم وهؤلاء لديهم رصيد من الثقة والحكمة لدى قادة الاعتصام الذين راكموا بدورهم رصيد من الثقة في تطاوين بفضل الشرعية النضالية (صلب الاعتصام). لهذا الحراك النوعي ايضا قيادات ميدانية، اغلبهم شباب، لعبت دورا لوجستيا في تزويد المعتصمين بالمؤونة وتوفير الماء. هذا الرصيد البشري الذي وقف خلف الستارة اسهم في نجاح حراك الكامور وفِي دفعه وهذا ربما ما افتقدته حركات اجتماعية اخرى.
وما بعد توقيع الاتفاق الثاني، وهذه خطوة اخرى نوعية، ارسى حراك الكامور قواعد الشفافية والحوكمة في إدارة المناظرات بدأ بفتح باب الترشح لمناظرة البستنة منذ الجمعة 13 نوفمبر وهي الشروط التي افتقدتها المناظرات خلال السنوات الاخيرة بل ان غياب شرطيْ الشفافية والحوكمة أثمرت تحركات احتجاجية واسعة في عدد من المناطق والتأخير في اعلان النتائج مثل سببا للاحتجاج الدائم في الحوض المنجمي.
في المحصلة حراك الكامور هو نقطة تحول رئيسية يجب استخلاص دروسها فهي حراك نوعي ارسى مشهدا جديدا من القيادات ومشهد جديد من التآزر والتضامن الجهوي ومشهد جديد من التفاعل أدت فيه الحكومة دور المنصت المهتم والمتفاعل طيلة خمسة اسابيع من التفاوض وصولا الى توقيع اتفاق بدأ تنفيذه يرسي تقاليد منشودة من الحوكمة والشفافية. بلا شك هو ليس الحراك الأنموذج من حيث تعطيل الانتاج وفتح باب نزيف اقتصادي بلغت قيمته 800 مليار كخسائر اثر غلق الفانا طيلة أربعة اشهر ولكنه نقطة التحول التي يجب البناء عليها ليستخلص الجميع الدروس حكومة ونخبة وسياسيين واعلام. فإما ان يكون حراك الكامور بداية طريق نحو ولادة حركة اجتماعية قوية وواعية وفاعلة وإلا هي الانزلاق المقيت نحو الجهوية والتمرد