(العربية) “الرخ لا”… تطاوين ليست على سطح القمر

0
10325

“الرخ لا”… تطاوين ليست على سطح القمر

شهادة صحفي مصري عن اعتصام الكامور

كارم يحيى

يوزع مكتب الديوان القومي التونسي للسياحة بوسط مدينة تطاوين جنوبي البلاد وعلى بعد نحو 550 كيلوا مترا من العاصمة على زائريه الأجان مطوية ملونة مصقولة لامعة الورق . وإلى أسفل صورة للمخرج العالمي “جورج لوكاس” وعنوان فرعي ” صحراء تونس استديوهات عالمية للتصوير السينمائي” جاء يمكنك استعادة ذكريات فيلم حرب النجوم 2 بعد أن احتفظ المكان بالديكورات العجيبة التي صور فيها المخرج العالمي أجمل مشاهد فيلمه بعدما أسرته فتنة الموقع الشبيهة لتلك المواقع الساحرة فوق سطح القمر .وننصحك بحمل آلة التصوير الشخصية لالتقاط صور ذكرى لك عن رحلة تأكد أنها ستكون من أجمل رحلات العمر “.

وعلى بعد كيلو مترات معدودة كان بامكاني في الصباحات الباكرة لأربعة أيام أمضيتها بتطاوين المدينة ونقطة الكامور الاستراتيجية على طريقآبار النفط حيث بدأ منذ 23 إبريل 2017  ويتواصل اعتصام شباب الولاية تحت عنوان “الرخ لا ” أن أشاهد اطفال المدارس الابتدائية يقطعون مسافات شاسعة سيرا على الأقدام طلبا للعلم .تماما الى جانب طريق مسفلت ( مزفت كما يقول الناس هنا ) يشق
الصحراء وعلى جانب منه مرتفعات جبلية وعلى الجانب الآخر تتناثر بضع فنادق . ولأنني كغيري كثيرين لم أزر مطلقا سطح القمر فإن المقارنة كانت غير واردة مع المطوية السياحية .لكنني أعلم يقينا مالذي يعنيه العلم والتعليم من أمل الارتقاء بالمعيشة لملايين العائلات .ليس في تطاوين فقط . بل في تونس وبلدي مصر وغيرها .وهذا على الرغم من تضاؤل فرص الكسب والحق في العمل والدخل العادل اللائق، حتى مقارنة بالسنوات الأولى للاستقلال عن الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية  .

الطريق  الى تطاوين

 تستغرق الرحلة باللواج ( سيارات الأجرة ) من العاصمة تونس الى تطاوين المدينة عاصمة الولاية نحو سبع ساعات عبر طرق غير سريعة .وعندما توقفت السيارة في منتصف المسافة عند ” الصخيرة” بولاية صفاقس تبينت أن شعار انتفاضة شباب تطاوين من أجل الحق في العمل و التنمية والثروة البترولية ” الرخ لا ” ( أي لا تراجع ) يتقدم هنا ليحتل واجهة الفاترينة الزجاجية لعرض الحلويات الشعبية ( المقروض القيرواني ) داخل المقهى المطعم الذي دخلنا اليه للاستراحة .وأيضا فاترينة أخرى تعرض أسماكا طازجة . وبعدها كان بامكاني أن الاحظ الشعار يتكرر كيفما اتفق وبخطوط يد تلقائية بين حين وآخر على جنبات الطريق الذي يخترق الجنوب التونسي عبر قابس (جابس بالعامية التونسية) ومدنين .

في حفل افتتاح ملتقى سينما الجنوب بالمركب الثقافي لتطاوين (1) غير البعيد عن وسط المدينة تناثر جمهور محدود في قاعة رحبة جيدة التجهيز أمام عرض لفرقة غنائية قدمت فقرات نصفها باللغة الأمازيغية،و من بينها أغنية شهيرة من الجزائر على الحدود الغربية للولاية. وعندما استفهمت تلقيت إجابة بأن شباب تطاوين معظمه إما في اعتصام الكامور أو مشغول بالاعتصام ، وأن هكذا مناسبات ثقافية فنية في الولاية لا تمر بدون حضور كبير .لكنه الظرف السياسي العام هنا والآن.وعندما استفسرت ثانية علمت أن الأمازيغية مكون ثقافي وفلكلوري هنا .لكنها لا تصطدم مع شعور طاغ بالانتماء للعروبة والاسلام ،أو تتسبب في أي تمايز هواياتي أو دعوات ومطالبات بالحكم الذاتي .وهذا على عكس حال أمازيغ الجزائر وبخاصة منطقة القبائل. وقد تعزز هذا الانطباع عن المكون الأمازيغي بتطاوين على مدى الأيام الأربعة التي أمضيتها مع العباد بالولاية .

 ولكن قبل أن أذهب الى المركب الثقافي جلست الى شابين من تطاوين بمقهى على مقربة (2) . كان أحدهما يعمل بالمستشفي على نحو مؤقت والآخر قار (ثابت) . وكانا يتفهمان اعتصام الكامور ،لكنهما يخشيان التشدد في  مطالب لن يتم تلبيتها . ثمة في كلام الشابين مرارة لمستها عند الكثيرين هنا تجاة ندرة فرص العمل في ولاية طاردة لسكانها فيما تتمتع بكل هذه الثروات الطبيعية : بترول وغاز طبيعي وجبس و رخام ،علاوة على مائدة مياه جوفية وافرة . وعموما مرارة أهل الجنوب والمناطق الداخلية الأقل حظا في التنمية منذ سنوات الاستعمار الفرنسي . مرارة يمتزج فيها الشعور بالإهمال وبأن البلاد منهوبة لحساب الآخرين وبخاصة الأجنبي الأوروبي . وهو ذات الشعور الذي تبدى لي ع عند الشباب المعتصم بالكامور عندما ذهبت اليهم لاحقا .وربما بمرارة أكبر وأعمق .

 منذ كنت في تونس العاصمة لاحقتني شكوك اصدقاء وزملاء حول الاستغلال السياسي والحزبي، بل والاجنبي لاعتصام الكامور، ولما يجرى في تطاوين .واستمرت الملاحقة بعد دقائق من وصولي إليها، فتلقيت على هاتفي اتصالا من صديق يساري بسيدي بوزيد ( الوسط الغربي لتونس ) ينبه قبل ان يسأل : حقا هذا الشباب مدفوع من جماعة المرزوقي والنهضة ؟!.كما يذكر بأن الأربعة نواب الممثلين لولاية تطاوين في البرلمان هم ثلاثة من كتلة النهضة ( والرابع من نداء تونس ) .ولذا فقد بدأت الاستفهام عند الشابين . وقد بدا أنهما خاليان من أي انتماء سياسي أو حزبي  . و تبين لي في مناسبة لاحقة أن أحدهما مؤيد للربيع العربي يأمل في التغيير والديموقراطية والآخر ناقم عليه مستاء من فوضى و غلاء وانعدام أمن يتخلف عن الاطاحة بالحكام المستبدين أو محاولة الاطاحة بهم  . لكنهما أبلغاني  كليهما بأن معتصمي الكامور خارج الولاء أو السيطرة من أي حزب أو جهة . كما نبهاني الى اعتقادهما بأن الولاية التي حصدت النهضة فالمرزوقي معظم أصواتها في انتخابات برلمان ورئاسة نهاية عام 2014 لم تعد تعول كثيرا عليهما . بل وأن تدخل الإثنين في مجريات الانتفاضة الجديدة الجارية بالولاية منذ نهاية شهر مارس الماضي لا شواهد عليه . واللافت أن الشاب الساخط على تداعيات الربيع العربي ابلغني ـ على نحو خاص ـ بحديث يدور في تطاوين بأن نواب النهضة يتعجلون حل الأزمة هنا لما تمثله من احراج لهم ،لكن شقا مؤثرا في نداء تونس ( حليف النهضة في الحكومة و البرلمان ) يعرقل التوصل الى حلول . قال :” ببساطة النداء يؤجل الحل كي يساوم النهضة ليلين تحفظها على  تمرير في البرلمان قانون المصالحة الاقتصادية والمالية مع مفسدي نظام بن على “. وبالطبع لايمكن التأكد من صحة أو دقة هذه “الصفقة  المبتغاة أو المتصورة”. لكن هكذا كلام يعكس حدود ثقة قطاع من شباب تطاوين في الحزبين الأكبر بتونس . وأيضا تصوراتهم عن مدى “نظافة ” اللعبة السياسية الجارية في دوائر السلطة .

في مقر الولاية

 نشرة الخامسة في إذاعة تطاوين المسموعة جيدا هنا وربما في عموم الجنوب تصدرها خبر اعلان اضراب عام بالولاية في يوم الغد (الجمعة 4 مايو 2017). الخبر منسوب الى الناطق باسم اعتصام الكامور “طارق الحداد”(3). لكن لم يحدث أي اضراب. وسألت الزميل ” منير هلال” رئيس البرامج بإذاعة تطاوين ، فقال :” الإذاعة نقلت الخبر عن المصدر كما تنقل عن مصادر أخرى . لكن يحدث ان يتم التراجع في قرار أو آخر . وفيما بعد قمنا بالتصحيح وفق مايجرى على الأرض.” وأوضح :” نحن مرفق عام ومايميزنا هنا وفي هذا الموقف أننا (إذاعة قرب)..لذا لا نتعامل مع الاعتصام من المكتب والاستوديو .ذهبنا اليهم في الخيام .ونحرص على مسافة واحدة مع كل الأطراف .ننقل ما يقوله المعتصمون والسلطة وحتى الناس غير الراضين عن الاعتصام ..  ومنذ الثورة أصبح لدينا الحرية والمهنية”.

 انتظرت لنحو 48ساعة كي اتمكن من الذهاب الى اعتصام الكامور . ويبدو أن المشكلة لم تكن وفقط تتعلق بصعوبة التنقل، وعدم توافر مواصلات عامة. ناهيك بالأصل عن سيارة تقبل السير لنحو 22كيلومترا غير ممهدة وعرضة للانغراس في رمال الصحراء الناعمة من اجمالي 104 كيلومترات بين مدينة تطاوين والكامور . فقد تبين لي بعدما وصلت تطاوين مدى ماوصلت اليه حالة عدم الثقة تجاه الإعلام والصحفيين الغرباء من خارج الولاية . وقبل أن أذهب لاحظت في وسائل الإعلام التونسية الكبرى بالعاصمة وبخاصة تلفزيونات واذاعات رجال الأعمال مزيجا من التجاهل والتهميش للحدث مع تشويه المعتصمين وأهل تطاوين بصفة عامة هنا وهناك .  وفي بعض الحالات هناك تحريض عليهم أيضا . كما كان بامكاني وقبل أن أغادر العاصمة أن اتابع على ” فيس بوك ” جدلا بين أصدقائي التونسيين ـ ومن بينهم صحفيون ـ حول مزاعم عن ” أجندات وتمويلات أجنبية “. ولفت نظري أن زميلتي الصحفية المحترفة “مبروكة خذير” كتبت على صفحتها لائمة زميلات وزملاء لم يذهبوا قط الى تطاوين والكامور وانخرطوا بثقة في اطلاق هذه الاتهامات . لكن بعدما ذهبت واستمعت اتضح أن عدم الثقة تفاقمت مع زيارة صحفية نشرت في جريدة محلية بالفرنسية بالعاصمة بايحاء أن معتصمي الكامور “متطرفين دينيا “بل و”دواعش”. واللافت أن صحفيا من خارج البلد كحالي كان بامكانه سريعا ودون عناء أن يفرق بين التطرف وبين ثقافة محافظة وملابس تفرضها طبيعة البيئة .بل وحال أناس متدينين. وهو أمر معتاد  في الجنوب.

 ولقد أبلغني “هلال” أن مشكلة العديد من وسائل الإعلام في العاصمة أنها تتعامل مع تطاوين والكامور عن بعد وبمواقف مسبقة بعضها لايخلو من ضغائن ثقافية موغلة في التاريخ،وإن استثني من هذا الإذاعة الوطنية التابعة للدولة لأنها ـ كما قال ـ تنقل عن إذاعة تطاوين . ولقد أكد لي غير مرة أن ” الناس غاضبة من الإعلام الخاص”. وعندما أخذت جولة في الظهيرة على باعة الصحف بوسط مدينة تطاوين ـ بما في ذلك مكتبات ـ لاحظت أمرا لم أشهده في أي مكان ذهبت اليه من قبل قط . لا في تونس ومصر ولا في خارجهما . فالصحف اليومية المعروضة بالواجهة تعود الى ما قبل أربعة او خمسة أيام و ربما أسبوع بأكمله. كما تبينت أن صحف اليوم التي تأتي بانتظام لكن متأخرة نسبيا بين التاسعة والعاشرة صباحا  موجودة بالفعل .لكنها مهملة ومهمشة والى الأسفل والخلف . وكأن الناس هنا تبادل اهمالا باهمال وتهميشا بتهميش .

ولما كانت زميلة قدمت معنا من العاصمة تونس قد أبلغتني بندوة صحفية ( مؤتمر صحفي ) سيعقده الوالي الجديد بمقر الولاية عند الحادية عشر ظهرا ،ولأن كل الاتصالات الهاتفية  التي اجريتها افادت استحالة الذهاب الى الكامور الى حينه فقد اسرعت للحاق بالندوة . ولقد اتضح لي بداية أن مقر الولاية ناء عن وسط المدينة وكتلتها العمرانية الكبرى . نحو سبعة أو ثمانية كيلومترات وعند مدخل المدينة للقادمين من جهة مدنين . ولقد سألت نفسي حينها كيف يتحمل العجائز والفقراء والعاطلين مشقة وتكلفة الذهاب والعودة في جو حار قائظ ،وحيث تظل وسيلة المواصلات الأساسية هي ” التاكسي “، وإن كان هناك تاكسي جماعي. فالطقس بالفعل قاسي حتى لو مازلنا بعد في بداية ماي ( مايو ) . وإن كنت محظوظا .بل ومحظوظ  جدا لأنني لم أشهد رياح ” العجاج ” المحملة برمال الصحراء.

 تنتهى العمارة الداخلية لمبنى الولاية الذي يظهر من الخارج عصريا الى قبة تسيطر من أعلى على السقف بزخارف عربية اسلامية جميلة. وترتكز القبة على فضاء دائري تتفرع منه ممرات بمكاتب معظمها مغلق حين بداية زيارتي . لم يكن هناك إذن مؤتمر صحفي ولا صحفيون .. ولا يحزنون. والوالي الجديد نفسه ذهب الى جولة يتفقد خلالها منطقة صناعية قيل انها بدورها جديدة. وهي ـ كما قيل بمقر الولاية ـ  تأتي  تنفيذا لواحد من 64 قرارا اتخذها يوسف الشاهد رئيس الحكومة ومجلسه الوزاري الذي زار تطاوين في 27 إبريل . لكنه اضطر أن يغادرها قبل الأوان بعدما اصطدم بـ “ديقاج” ( إرحل ) اخترقت جدران اجتماعه بوفد المعتصمين المفاوض . فجرى اختصار زمن الزيارة الحكومية من يومين الى بضع ساعات ليس إلا .أما القرارات الأربعة والستون فلم تفلح في انهاء اعتصام الكامور .

 وعندما تطلب انتظار عودة الوالي البقاء لمعظم الوقت بمكتب المعتمد الأول ( بمثابة نائب الوالي ) تحدثت مليا الى المسئول الجديد في هذا الموقع (محمد الشريف) .ولم يكن قد مضى على تسلمه المسئولية هنا ومعه الوالي الجديد ومدير الحرس الوطني الجديد أيضا ثلاثة أيام كما أبلغني . وخلال هذه السويعات كان يستقبل شبابا من معتصمي الكامور بدا أنهم يعملون كحملة رسائل بين الاعتصام والولاية. لكنه أبلغني أن التفاوض لم يبدأ بعد مع “الرؤوس الكبيرة”. وأضاف أن هناك مشكلة تكمن في وجود أكثر من جهة تتقدم للتفاوض باسم الاعتصام . وقال أن متوسط المعتصمين بالكامور يتراوح وفق المعلومات لديهم بين 300 و 500 معتصما .وقال أن للاعتصام تنسيقية من ستة اشخاص كقيادة عليا ،وأخرى موسعة تضم 82 شابا . وعندما سألت لماذا لاتذهبون إليهم هناك مباشرة ؟، أجاب وهو يستند الى المكتب وفي بدلة كاملة داكنة اللون  :” ليس بعد .. علينا ان نضمن النجاح أولا ” .وأضاف :” هناك شق داخل الاعتصام يدعو للتهدئة ..وآخر يدعو للتصعيد وصولا الى العصيان المدني “. واستفهمت ما الذي جاءت به القيادة الجديدة في الولاية هنا يختلف عن سابقتها لحل الأزمة ، أجاب :” ليس لدينا تكليفا بشئ محدد من الحكومة .. لكن المفهوم أننا جئنا للحوار ولن نستخدم العنف .وهناك بوادر انفراج بعد مفاوضات أولية غير مباشرة . نحن حريصون على حل سريع عاجل وحتى لاتصبح في البلاد أكثر من كامور واحدة “.واستوضحت فأجاب .” حق الشباب هنا في التشغيل واضح ولاخلاف عليه .وكذا الحق في الاحتجاج السلمي .وهو حقا حتى الآن سلميا . والعمل في شركات البترول مستمر لم يتوقف .والطرقات مفتوحة من مراكز انتاج البترول والغاز الى خارجها “.

ولأن أنباءا كانت قد وردت لتطاوين المدينة باحتجاز شاحنات تابعة لإحدى شركات المقاولات ( المناولة ) العاملة مع شركة بترول  ، فقد أوضح المعتمد الأول :” منذ 10 أيام هناك شاحنات بالفعل محتجزة في منطقة (الرقبة) ..وهي لاعلاقة لها بالكامور .. والمشكلة هي أن المقاول الذي تتبعه الشاحنات أصبح متهما من الأهالى هنا لأن شركته تحايلت وقامت بتغيير لوحات السيارات الى ليبية بدلا من تونسية كي تعبر بها الى داخل مناطق البترول ..كما أن الشركة ومقاولها بالأصل محل سخط الأهالى لاتهامهم باستغلال العمال وبالتحيز في التشغيل ضد تطاوين “.

 واقع الحال أن المعتمد الأول الجديد كان متعاونا بقدر ما يستطيع ،فأمدني بكتاب يحمل عنوان “ولاية تطاوين بالأرقام 2013” صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية عثر عليه في مكتبه،وذلك بعدما طلب مرار دون جدوى من موظفي الولاية نشريات مطبوعة  . لكن لم تكن نسبة البطالة في الولاية وأعداد الشاب العاطل حاضرة في ذهنه على الفور.تماما كما هو حال الوالي الجديد محمد على البرهومي ( بالأصل قاض شاب). وقد بدأ بدوره الحديث بالتأكيد أنه جاء للحوار .وكررها ثلاث مرات . كما شدد على احترام مبادئ الثورة في الحق بالتشغيل والكرامة .وكذا احترام الدستور الجديد بشأن التمييز الايجابي للجهات الأقل حظا في التنمية . ولما كانت تسريبات عن اعتزام المعتصمين التصعيد و التحرك لمحاصرة منشآت الادارة والسيادة بالولاية سألته على نحو مباشر عن كيف سيتصرف إذا حدث؟ ، فأجاب بحذر :” لانستبق الأحداث .. الاعتصام سلمي حضاري .هم يحترمون القانون ويحبون بلادهم . وأكيد أنهم ليسوا دعاة تخريب . هم ألزموا أنفسهم بسلمية الاعتصام. بل وزرعوا شجيرات هناك في الصحراء”.

وسألته عما تتناقله بعض وسائل الإعلام عن تدخلات حزبية وأجنبيه ، فأجاب :” لا أنفي ولاأجزم .. ومن قال عليه عبء الاثبات والتقدم بالدليل .. ولايجب توجيه اتهامات دون اثبات واضح وصريح .ولكن اذا ثبت هذا أو ذاك فلن اتردد في أن اعلنه على الملأ في كافة وسائل الإعلام “. وعندما غادرت مكتب الوالي الجديد خرجت بانطباع بأن هناك ثمة مازال ارتباك وضبابية تحلق في فضاء مقر الولاية مع أن الوالي  أكد لي تفاؤله بانفراج قريب وحل لن يتأخر . بل قال بأمل أنه يتعهد بتحويل موقع اعتصام الكامور الى مهرجان سنوي يشرف عليه الشباب المعتصم بأنفسهم . ولقد أبلغني خلال الحوار أن المنطقة الصناعية التى زارها للتو ( تدعى الشهيد الشملالي وهي شرق المدينة ) مهيئة لانشاء ثلاثة معامل ( مصانع ) جبس للخواص مع مراعاة الشروط البيئية ،وأحدهم لمستثمر ألماني  . لكنني عندما ألححت في السؤال هل لدي الدولة نفسها مشروعات انتاجية لتشغيل الشباب هنا، بدا لي أنه لا يرى أستثمارا انتاجيا خارج رجال الأعمال والقطاع الخاص .قال ببساطة ووضوح :” الدولة تستثمر في البنية التحتية وتخلق مناطق جاذبة للاستثمار .لكنها لاتستثمر بشكل مباشر”. وواقع الحال أنني استمعت في مدينة تطاوين ومع الحركة على طرق خارجها بانحاء الولاية الى أكثر من مصدر يؤكد أن تحسنا كبيرا طرأ على الطرق بها بعد الثورة . ناهيك عما لاحظت بنفسي من ارتفاع مستوى النظافة في الشوارع والفضاء العام بمدينة تطاوين، مقارنة بمناطق عدة بالعاصمة تونس .

نسبة البطالة الأعلى

 بلاشك فإن نسبة البطالة في ولاية تطاوين هي الأعلى بين كل ولايات تونس الأربع والعشرين . ووفق معطيات التعداد العام للسكان والسكنى لعام 2014 الصادر عن المعهد الوطني للاحصاء بالعاصمة فإن البطالة في سن العمل بالولاية تبلغ نسبة 25,8 في المائة ، فيما
المتوسط بعموم تونس ( الوطني) هو 14,8 في المائة .و على هذا النحو ليست بطالة تطاوين هي الأعلى بالمطلق، بل وبإحدى عشرة نقطة فوق المتوسط.كما يتبين مما يؤكده “بشير الشيباني ” المدير الجهوي للتنمية في تطاوين ( تتبع وزارة التنمية والاستثمار و التعاون الدولي ) أنه لامؤشرات على انخفاض نسبة البطالة في السنوات التالية على التعداد . بل والأخطر أن نسبة البطالة بين أصحاب الشهادات العليا في الولاية تدور حول نسبة 36 في المائة . وعلما بأن معطيات كتب ومنشورات معهد الاحصاء تفيد بتدني نسبة الحاصلين على شهادات عليا بتطاوين الى أقل من عشرة في المائة من المتعلمين بها ، فيما المتوسط الوطني 12,1 في المائة . والأهم هنا أنني عندما استفسرت عن وجود كلية أو معهد لعلوم البترول نفي الشيباني . قال :”هنا فقط معهدان : واحد لدراسات تكنولوجيا الإعلامية.. والآخر للفنون الجميلة “. ومع هذا فإن تطاوين وفق المعطيات الرسمية تسجل نسبة أمية 18,2 في المائة .وهي أفضل بقليل
مقارنة بالمتوسط الوطني البالغ 19,2 في المائة . لكن المشكلة  ـ وفق الشيباني وهو من أبناء الولاية ـ تظل في التسرب المرتفع والخطير من التعليم قبل اتمام بل وبلوغ المرحلة الثانوية .ولقد لاحظت هذا عندما تعرفت الى العديد من معتصمي الكامور وتحدثت معهم لاحقا.ومع هذا فان نسبة استخدام الانترنت بما يحمله من فرص الاتصال بالعالم والمقارنة لا بأس بها . تسجل وفق معطيات التعداد الأخير 38,5 في المائة متفوقة قليلا عن المتوسط الوطني ( 36,8 في المائة ).

 في ولاية شاسعة
المساحة تشغل ربع خريطة تونس بأكملها وبعدد سكان نحو 150 ألف نسمة فقط ( بمتوسط أربعة اشخاص في الكليو متر المربع الواحد ) يلفت النظر ارتفاع نسبة امتلاك الأسر لسيارة ، كي يصل وفق تعداد 2014 الى نحو 36 في المائة .وهكذا هو متفوق على المتوسط الوطني  (27 في المائة ) . لكن أي أثر لهذا التفوق  في ظل مايبدو أيضا من ضعف خدمات المواصلات العامة مقارنة بمدن تونسية اخرى ؟. والمنطق نفسه يمكن الأخذ به عندما نلاحظ في العديد من المنازل والمنشآت الحالة البائسة لأجهزة تبريد الهواء (الإيركونديشن) في ظل طقس شديد الحرارة بالصيف وفي مواجهة امتلاك 34,6 في المائة من أسر تطاوين مكيف هواء في  احصاء ديوان تنمية الجنوب التابع لوزارة التنمية والاستثمار  بكتاب “ولاية تطاوين في أرقام 2015″ . وحقا كما أبلغني ” الشيباني “:” لا مشكلات كبرى في الكهرباء والماء الصالح للشرب فهي تدور حول تغطية 99 في المائة،وإن كانت نسبة الصرف الصحي متدنية وتدور حول  65 بالمائة في المنازل وهي نسبيا متدنية عن عديد الولايات  .كما أن الخدمات الصحية والتعليمية كمعطيات كمية متوافرة والحمد لله . لكن المشكلة تكمن في النوعية .. أي مستوى الخدمات المقدمة للناس هنا “.

وإجمالا يلاحظ ” الشيباني ” أن تطاوين تحتل المرتبة 18 في مؤشرات التنمية بين ولايات تونس الأربع والعشرين . ووفق ما يؤكده فإن المشكلة الكبرى تكمن في الاقتصاد والبطالة التي وصفها بالمتعددة الأبعاد . ويوضح قائلا :” مازال الاقتصاد يعتمد على الرعي وتربية الماشية ( تقدر مساحة المراعي هنا بنحو 7500 هكتارا مربعا ) . وهناك زراعات سقوية هي بالأساس زيتون وقليل من البطاطا والخوخ، لكن المخزون الجوفي الكبير للمياه بالولاية غير مستغل في استصلاح وزراعة آلاف الهيكتارات المهيئة لانتاج مزيد المحاصيل .أما الخضروات فتأتي للأسواق من خارج الولاية .والمفارقة أنه مع كل ثروات البترول والغاز و الرخام و الجبس ( حيث يعتقد هنا في امتلاك الولاية ثاني أكبر مخزون على  مستوى العالم و بنوعية الجيدة  ) فإن الصناعة بالغة الضعف . والدولة على مدى ستين سنة منذ الاستقلال لم تقدم على انشاء مصنع واحد في أي قطاع كان . هي لم تقدم على اي مشروع انتاجي صناعي أو زراعي . فقط لدينا بضع مصانع لرجال أعمال تعمل على  استغلال الجبس “. ويضيف:”المشكلة الكبرى بالطبع هي البطالة .وهي أكثر ارتفاعا بين النساء.وهن قد خرجن بحثا للعمل . ولأننا في مجتمع محافظ  نسبيا فهن يردن العمل داخل الولاية وفي مناطقهن . واغتراب المرأة  من أجل العمل يظل من الأمور غير المقبولة ثقافيا هنا “.

وسألت عن عدد العاملين في جهاز الدولة بمختلف مرافقه في الولاية فأجابني ” الشيباني ” :” نحو ثلاثة آلاف موظف”. كما لفت نظري الى مفارقة أخرى .هي أن تطاوين تتقدم الى المرتبة التاسعة بين الولايات في متوسط استهلاك الفرد  ( بمتوسط نحو 3500 دينار تونسي سنويا.. أي نحو 1500 دولار )مع انها رقم 18 في ترتيب التنمية البشرية والأولي في البطالة  كما أشرنا سابقا . وكان بامكانه ان يحل هذا اللغز بقوله :” الأسر تعيش بمساعدة تحويلات أبنائها المهاجرين الى أوروبا وبخاصة فرنسا .ومدخرات الشباب العائد في عطلات الصيف تترجم نفسها في النهضة العمرانية بمدن الولاية ..فالاستثمار الريعي واضح في سوق العقارات . وبدرجة أقل في شراء الذهب .ولذا فإن الشباب الحالم بتغيير واقعه البائس يذهب الى( الحرقة / الهجرة غير الشرعية ) عبر ميناء جرجيس غير عابئ بمخاطر البحر و العيش والعمل بلا أوراق في أوروبا . وكانت هناك بعض فرص عمل في ليبيا . لكن سنوات الاقتتال والفوضى الأخيرة هناك أغلقت هذا الباب .ومعه معبر (الذهيبة ) بين الولاية وليبيا في العديد من أيام العام  .ولقد كان منفذا مهما للتجارة بل والتهريب.أما مع الجزائر الى الغرب فليس لدينا أي معبر . واجمالا فالاقتصاد الموازي يقدر ـ إن كان يمكن تقديره ـ بنصف الاقتصاد هنا” . ومن جانبي كان بامكاني أن ألاحظ وأقارن بطول المسافات التي قطعتها عبر ولاية تطاوين ومع  زيارة سابقة لولاية مدنين المجاورة تواضع سوق
تجارة العملة ( الصرف) ومعها بيع البنزين والمازوط  ( المازوت ) المهرب من ليبيا على جنبات الطرق .هي حقا أقل بكثير مما شاهدت في الولاية المجاورة وفي طريقي الى بن قردان (4).

في مقر الولاية أيضا ، أتيح لي أن استمع الى “سالم الحمدي ” أحد شباب اعتصام الكامور .يبلغ من العمر 27 عاما متزوج ورزقه الله
بمحمد قبل ثلاثة أشهر  .وقد أكرمني فأمدني بصورة لإبنه الوليد مبتسما وقد زينه أهله بورقة بيضاء مكتوب عليها :”الرخ  لا “. “سالم” تعلم حتى السادسة ابتدائي .قال :” لم أكمل بسبب الظروف الاقتصادية للأسرة “. فالأم تأخذ منحة شهرية من الدولة لتعينها على شظف العيش مقدارها (150 دينارا .. أي نحو 60 دولار ).واجمالي عدد افراد العائلة خمسة. كلهم تماما كسالم بلا عمل . شقيقان (32 و21 سنة ) فضلا عن شقيقتين إثنتين .والجميع. قال :” المنحة الشهرية كانت قبل الثورة 100 دينار ..لكن كيف لخمسة أن يعيشوا الآن على 150 مع كل هذا الغلاء”. وأبلغني أنه “حرق” الى إيطاليا عام 2011  ومنها الى فرنسا .تغيب نحو ثلاث سنوات ونصف .وفي النهاية اضطر أن يعود . أضاف :” لا أوراق .. ولاعمل هناك “. كما أبلغني أنه حاول أن يجد سبيلا في  تطاوين . قال :” لمدة سنة تعاملت مع بائع خضر .وقفت أبيع في سوق المدينة هنا. لكن الاحتكار الذي يفرضه ثلاثة تجار كبار أنهى كل شئ.وعدت بلاعمل “. “سالم الحمدي” لم يشارك في أي اعتصام من قبل . هذا مع أن مدن  الولاية وعاصمتها شهدت العديد من الاعتصامات.. لكن في وعي ” الحمدي ” الذي ابلغني أنه بدوره شارك في احداث الثورة (2011 ) بالولاية ومعه الشباب هنا فإن تطاوين قدمت ثلاثة شهداء للاطاحة بنظام بن على . لكن ” سالم ” أضطر بعد الثورة بقليل” للحرقة ” . وهاهو يشارك في أول اعتصام بحياته على أمل أن يحصل على وظيفة بالدولة أو قرض مالي يعينه على اقامة مشروع صغير ، وأن يعمل أخوته في شركات البترول أو مرافق الدولة هنا .

 قبل أن أغادر مقر الولاية عصر يوم الخميس 4 ماي ( مايو ) أدركت ضبابية ما حول النظر من هذا الموقع الى اعتصام الكامور . لا أحد في هذا المكان ـ بما في ذلك الشيباني نفسه ـ يعرف كم بالضبط يبلغ عدد العاملين بشركات البترول الأجنبية ؟ وكم عدد من يعملون
بالشركات المعاونة ( المناولة أو المقاولات )؟. وكم بامكان هذه الشركات وتلك أن تستوعب من مزيد عمال ؟.وأيضا لا أحد عنده معطيات بالضبط عن أعداد ونسبة أهالى تطاوين العاملين في هذه الشركات وتلك ؟ . ولا أحد يقول أن لديه قوائم بالعاملين ؟.لكن هنا داخل المبني العصري الواجهة والتراثي القبة من الداخل من يؤمنون عن يقين بالتمييز السلبي ضد أهالي الولاية في فرص العمل بهذه الشركات ؟. إلا أن هذا اليقين لايعني بحال أن البيروقراطية هنا تعتقد بوجاهة أو امكانية تحقيق مطلبي الشباب: تشغيل فرد من كل أسرة بهذه الشركات و تخصيص نسبة 20 في المائة من عوائد الدولة من بترول وغاز تطاوين  .وعلما بأن المعطيات الاحصائية الرسمية تفيد بأن بتطاوين نحو 30 ألف أسرة . وكما أبلغني مصدر بالولاية ـ طلب عدم نشر أسمه ـ فأن الحكومة تقر للشباب هنا بالحق في التشغيل من حيث المبدأ، لكنها ترفض تخصيص أي نسبة من عوائد البترول بشكل مباشر لأنها ترى فيه “تقويضا لوحدة الدولة” .فقط تطرح انشاء صندوق لتنمية الولاية،وإن اختلف سقف المبلغ بين تسريب وآخر . وواقع الحال أن استمرار الاعتصام يوما بعد آخر كان يرفع من سقف التسريبات .

ومن داخل مقر الولاية الى مقاهي وسط العاصمة واسواقها والى أن وصلت الى الكامور بعدها بنحو 36 ساعة لم يكن هناك نبأ مؤكد حول نتيجة التفاوض بين المعتصمين والإدارة . مرة أسمع عن عرض من الحكومة وعبر الولاية بألف فرصة عمل بشركات البترول ومثلها في ادارة البستنة والفلاحة التابعة للدولة هنا . ومرة بألف وخمسائة في البستنة والفلاحة .لكن الشئ الذي كان مؤكدا أن الكامور مستمرة في الاعتصام والضغط وترفض . وبين هذا وذاك ،هناك من يؤيد ويدعو للمزيد من الصمود . وهناك من يؤيد ويخشى انهيار”ملحمة الكامور “وخسارة كل شئ ،وينصح بالقبول .

الكامور ليلا

أخيرا ..وصلت الى الكامور ليلا. الجمعة 5 مايو 2017.حملتني شاحنة نقل بضائع مع نحو 15 شابا في صندوقها بعد رحلة 104 كيلومترات انطلاقا من مدينة تطاوين . الرحلة استغرقت نحو ثلاث ساعات بين توقف وسير للإثنين والعشرين كيلو مترا الأخيرة في طريق غير ممهد ورمال ناعمة ،ما تسبب في انغراس الشاحنة مرتين وهبوط الشباب لانتشالها ودفعها . غرفة قيادة الشاحنة ـ حيث كنت بين السائق وصديق له من أهل حومته ( حيه) ـ  تنبعث فيها ومنها أغنيات عاطفية شعبية من مسجل الحافلة . إلا أن السائق ( محمد أوشاوشي ) يخفضه بين حين وآخر كي يتواصل مع رفاق الصندوق، بعدما يفتح حاجزا زجاجيا بين غرفة القيادة وبينهم . أو عندما يتوقف على الطريق في خلاء الصحراء ليتبادل الحديث مع شباب لا أعرف من أين جاءوا ؟..وكيف انتظروا في ظلام الليل هذا انتظارا لمن يقلهم الى اعتصام الكامور ؟.  الطريق حتى في أفضل حالاته على مقربة من تطاوين المدينة يخلو من أي إضاءة. لكن هذا الشباب اندفع يترقب ويلح على كل سيارة ذاهبة الى الاعتصام .وقد بدا قادما سيرا على الأقدام لكيلومترات من قرى وبلدات في عمق الصحراء حاملا بعض متاع و طعام . قري وبلدات أقل شهرة من تلك المقاصد السياحية هنا بولاية تطاوين كـ ” شنني ” و ” الدويرات
” الأمازيغتين . وما أن يلمح الشباب ضوء سيارة قادمة في اتجاه الكامور إلا ويتعالى صياحه :” الرخ لا “.. “الرخ لا”.في كل مرة تتوقف الشاحنة احتراما للمنتظرين ربما منذ ساعات طلبا للذهاب الى الكامور . ويدخل السائق “حمة” مع صديقه بغرفة القيادة في حوار طويل لاقناع راغبي الركوب بأنه لامكان ولا مساحة تتحمل نفسا آخر داخل صندوق الشاحنة.ويصرون ويصر . لكنهم في النهاية يتفهمون ويفسحون الطريق.ثم تعود الأغاني العاطفية الشعبية سيرتها الأولى .تلعلع في فضاء غرفة القيادة . ويلح سكان الصندوق في فتح الفاصل الزجاجي تلمسا للهواء .وربما للغناء .

 توقفت الشاحنة أمام خيمة (يناديها الشباب  بجيتون) من بين نحو 82 خيمة تشكل دائرة المعتصمين حول فضاء تتوسطه سيارة مياه ومولد كهرباء أبلغني الشباب بأن رجال اعمال من تطاوين تبرعوا بهما  .هذه الخيمة مسئولها هو السائق نفسه (حمة / محمد أوشاوشي ). و تضم ابناء حومة واحدة . كما حال بقية الخيام ( الجواتيه).وإن كانت حومة واحدة قد يتوزع شبابها على أكثر من خيمة . ومن مجموع مسئولي الخيام تتكون التنسيقية الموسعة للاعتصام .هكذا من 82 شابا . وبدورهم اختاروا هيئة قيادية مصغرة .ضمت في البداية 11 عضوا .ثم جرى خفض العدد الى ستة .وكما قيل لي في الكامور :” كان هذا لتسهيل التفاوض”.

 وعلى الفور قام الشباب بحمل الأغذية والمياه من الشاحنة الى داخل الخيمة  المضاءة جيدا بمصباح كهرباء عبر أسلاك تمتد إلى المولد. كان الطعام جاهزا ساخنا وكأنه بتوقيت الوصول ،وعلى يد شاب طباخ ماهر من أبناء الحومة قدمه “حمة” لي بوصفه خبيرا في الأكل التونسي عمل لسنوات في فرنسا . طاهي الخيمة قليل الكلام لكنه دائم الابتسام. وكأنه يكتفى بسعادة ممارسة طقوس الطهي ويود ان يكرس كل حواسه لترصد أثر النعمة على وجوه الذواقة. أكلنا معا المقرونة ( المكرونة ) بالصلصة بعدما تحلق أهل الجيتون في دائرتين حول انائين فخاريين كبيرين . ثم جاء الشاي الأخضر بالسكر ( التاى ). لكل شاب هنا حكايته  ومعاناته مع سنوات البطالة والعمل الهش .هم في الأغلب في العشرينيات والثلاثينيات من العمر . لكن لا يخلو تاريخ العديد بينهم من “حرقة ” وسنوات هجرة الى فرنسا أو ايطاليا بلا أوراق . وأيضا العودة مضطرا الى تطاوين . “حمة” نفسه (23 سنة ) درس الى الصف التاسع ،وخرج الى الحياة يبحث عن عمل ليساعد عائلته على العيش . وهو بالاضافة الى أنه سائق ممتاز كما خبرته في الطريق الوعر الى الكامور مر بثلاث دورات تكوين ( تدريب ) على أعمال وصيانة اللحام والتكييف و التسخين ، كما أبلغني . لكنه لم يجد عملا مستقرا إلا لعام واحد في شركة بتروليه هنا كسائق غير قار ( مثبت ). وعلى خلاف “سالم الحمدي ” فلدي “حمة” خبرة ما بالاحتجاجات الاجتماعية. قال:”اعتصمنا مرات أمام مقر الولاية منذ عام 2012 طلبا للتشغيل والتنمية .لكن دائما ما يعد الحكام ثم يماطلون ولا ينفذون .هم يكذبون . طردنا الولاة مرتين .وطردنا حمادي الجبالي والهاشمي الحامدي (5) “. ولقد كان بامكان “حمة ” أن يتذكر أسماء شهداء تطاوين الثلاثة أيام الثورة : الشباب نذير مؤمن و محمد بن صالح ومحمد دغيم . وأضاف :” لا قصاص .. ولا أهلهم حصلوا على أي حقوق “. وكنت من جانبي أعلم أيضا أن الدولة التونسية لم تعتمد بعد قائمة الشهداء رغم مرور اكثر من ست سنوات على الثورة.ناهيك عن مآل محاكمات القتلة الذي لايقل تعاسة عن مصر .وبالتالي تكريس ثقافة الإفلات من العقاب(6).

وفق ما علمت من مدينة تطاوين فإن الاعتصامات السابقة هناك كانت تستمر ليوم أو ليومين على الأكثر .لكن هذه المرة فإن المدينة تغلي بالاحتجاج ومازالت ،واعتبارا من الأسبوع الأخير في شهر مارس الماضي . ويمكن للزائر أن يتبين بقايا حواجز على الطرق باطارات السيارات وخيام في غير ساحة . لكن لماذا اختار الشباب أن ينقل مركز الأحداث الى الكامور ، ومع أنها تبدو كمنطقة بلا معالم في صحراء شاسعة . ولا حتى أثر بها لطرق ممهدة أو أية منشآت . أجابني “حمة ” :” اخترنا هذا المكان لأنه حساس بالنسبة للبترول .موقع استراتيجي للحركة الى مواقع الانتاج على بعد نحو مائة كيلو مترا .هنا بالامكان وقف الدخول اليها لكننا نسمح بالخروج.ولا نمنع أي شخص كان من المغادرة “. وأيضا ابلغني باعتقاده ـ كما عديدين هنا في اعتصام الكامور ـ بأن نقل البترول الى ميناء قابس متوقف منذ بدء الاعتصام .إلا انني عندما عدت الى العاصمة .وتوجهت  الى مقر “المؤسسة التونسية لأنشطة البترول” بشارع محمد الخامس .وسألت رئيسها ومديرها العام ” منصف ماطوسي “، فقال :” الاعتصام أوقف حركة النقل تماما على طريق الكامور .وهناك شلل بالنسبة لنقل المعدات الثقيلة واللوجستيك للشركات العاملة في الحقول ،وبخاصة الحقل البترولي الأكبر و الأقدم ( بورمه ) ،وإن تفوق عليه في الانتاج الآن حقل آخر بتطاوين يدعى ( آدم). كما أن هناك تأثيرا جزئيا على نقل البترول الخام من حقل ( بئر بن طرطر) ،وإن كان حقلا صغيرا ينتج 900 برميل يوميا .لكن الحقول الأخرى كلها تعمل ومستمرة في الانتاج ويجرى نقل البترول والغاز كالمعتاد عبر الأنابيب. والمشكلة مع الاعتصام تظل أساسا في نقل المعدات الثقيلة الى مواقع الانتاج . أما طرق نقل البترول والغاز فهي بالأصل مناطق عسكرية . وأيضا فان الحقول منذ فترة داخل مناطق عسكرية” .

الكامور مشاهد صباحية

في الصباح الباكر ،لاحظت أن سيارتي شرطة متجاورتين ترابطان في الأفق تطلان على دائرة خيام الاعتصام ,وكأنهما تراقبان أو تحرسان عن بعد. نقطتان متجاورتان في فضاء صحراء بلا معالم .وعلمت من الشباب أن العلاقة جيدة مع الشرطة والجيش . ولم تحدث أي مشكلات معهم. ولا تدخلات في الاعتصام .وربما وحدها سيارة الحماية المدنية ( بمثابة الإسعاف) هي التي تتجول داخل دائرة الاعتصام.تخرج وتعود اليها . وهذا بالطبع غير بضع سيارات وشاحنات تأتي لتحمل المزيد من الشباب المعتصمين أو تعيدهم لقسط من الراحة في ديارهم .ومعها أيضا الماء و الغذاء.و ربما المزيد من أخبار تطاوين . لأن شبكات الجوال لاتغطي المنطقة باستثناء شركة واحدة ، وبصعوبة . وهنا بالحق مجتمع ذكوري تماما.ولأسباب تتعلق بالطقس والطبيعة والثقافة يمكن تفهم هذا .وهو أمر لا يمكن اخذه بحال على أنه تطرف أو حتى تزمت .ولا يمكن أن تخطئ العين العديد من الأعلام الوطنية الحمراء ترفرف على خيام الاعتصام أو تلتصق بها . فضلا عن شجيرات نخيل زرعها المعتصمون أمام خيامهم .

 وبينما كان القليل جدا من المعتصمين قد استيقظ ، انهمك السابعي العرضاوي (32 سنة ) في صيانة مولد الكهرباء بوسط دائرة الخيام . هو حاصل على ” الباك” أي شهادة الثانوية العامة وعنده شهادة  أخرى في حفر البترول، وخدم سبع سنوات في شركة تنقيب فرنسية هنا تدعى “سي جي ميرتاس “.لكن الشركة التي منحته فرصة وشهادة التدريب بهذا التخصص الفني ظلت تشغله بعقود سنوية
مؤقته قبل ان تستغنى عنه . وربما رحلت عن المكان أصلا . وهكذا اصبح “السابعي ” يبحث عن عمل باليومية لصيانة أي شئ أو في الدهن ( الدهان والبياض). لكن في المحصلة فإن أغلب سنواته وأيامه في البطالة .وهو الذي أبلغني بعدما استشهد بخبرة عمله في الشركة الأجنبية الفرنسية بأن عدادت براميل البترول متوقفة أو معطلة .قال :”رأيت بنفسي العدادات معطلة وثروة تونس يجرى نهبها “. لكن “مطاوسي “ينفي  في مكتبه بمبنى المؤسسة التونسية لأنشطة البترول بالعاصمة .قال :” ـ ليس صحيحا . هذه الشركات تعمل بالمواصفات العالمية. وهناك رقابة تونسية سواء من خلال مؤسستنا أو الديوانة ( الجمارك) ومختلف  العاملين بالقطاع .  وانتاج البترول حين يذهب الى التصدير يجرى تجميعه في مركز يتبع شركة ( ترابستا) .وهي بالأصل شركة تونسية متخصصة في تخزين
البترول بميناء الصخيرة بولاية صفاقس .لكن بالطبع من يقوم بعملية التصدير هي الشركات المنتجة . أما الغاز الطبيعي فيباع بالكامل داخل تونس الى شركة الكهرباء والغاز التابعة للدولة ” .

 مطالب المعتصمين بالكامور كما استمتعت اليها من ” السابعي ” و ” حمة ” وآخرين  تتحدد في ثلاثة:

1 ـ تشغيل الشباب وبخاصة في شركات البترول الأجنبية العاملة بتطاوين في وظائف قارة ( ثابته كاملة حقوق بمافي ذلك الضمان / التأمين الاجتماعي والتقاعد ) . ونظرا لأن ثقافة اصدار البيانات والبلاغات ليست شائعة هنا في الكامور ، فإن بامكان الزائر للاعتصام أن يستمع الى أسقف متباينة . هناك من يؤكد على مطلب فرد من كل أسرة (نحو ثلاثين ألفا ) . وهناك من يتحدث عن 12 أو 14 ألفا . وأيضا من يكتفي بثلاثة آلاف . وبين هذا وذاك من يقول بأن التفاوض يتطلب رفع السقف . ويستشهد كيف بدأت الحكومة ” بصفر” استجابة، ثم توالت عروضها لانهاء الأزمة انطلاقا من تشغيل خمسين الى مئات ..وهكذا.

2 ـ تمويل التنمية المحلية بتطاوين . وهنا تتباين أيضا بين المعتصمين الاجابة على السؤال :كيف ؟. ثمة من يتمسك بمطلب 20 في المائة من عوائد الدولة من البترول والغاز بالولاية . وهناك آخرون يركزون على صندوق تنمية محلية تموله الدولة وبأسقف مختلفة من 30 مليون الى 70 الى 100 مليون دينار تونسي.

3 ـ نقل مقرات الشركات  البترولية الاجتماعية (الإدارية)  من العاصمة و المدن الأخرى الى داخل ولاية تطاوين . ولأننا ايضا إزاء مشكلة معلومات وشفافية. وفي ظل أن جهة رسمية ما لم تعلن قوائم العاملين بالشركات ومن أين جاءوا ، فإن لا أحد يصدق أحد بين مقرات الحكم والإدارة بالعاصمة تونس وبمدينة تطاوين الى الكامور.أما  الشباب في تطاوين والكامور فيجزم بأن القليل من فرص العمل تذهب الي اهالي الولاية وأن هناك تمييزا سلبيا ضدهم . ومن جانبها فإن مؤسسة الأنشطة البترولية على لسان رئيسها ومديرها العام تقول أن سكان تطاوين يشغلون 46 في المائة من اجمالي العاملين القارين (المثبتين) في ست شركات اجنبية ومختلطة رأس المال ومعها 89 شركة مناولة ( مقاولة ) تعمل في الخدمات المساعدة .
ويؤكد لي ” ماطوسي ” وشريط التسجيل بيننا بمكتبه :” الاجمالي 1778 وظيفة يشغل منها أهل تطاوين 840″.لكن عندما عدت الى مسئول مختص ومطلع بالولاية ـ رفض نشر أسمه وصفته ـ أندهش وقال مستغربا :”كيف ؟..و في شركة واحدة هي (سيتاب) إثنين فقط من أهل تطاوين من بين 130 في مقرها الاجتماعي بالعاصمة ، و 25 فقط من نحو مائتين في مركز الانتاج بالولاية “.

وعلاوة على المطالب الثلاثة لمعتصمي الكامور ، لا تخلو الحوارات من حديث في هذه الخيمة أو تلك عن عقود سرية مع الشركات الأجنبية تسمح بنهب ثروة البلاد . وليس الولاية وحدها . ثمة طلب مكبوت على شفافية التعاقدات بين الدولة وهذه الشركات،.وهو مكبوت بحكم أولويات التشغيل وانهاء التهميش والحرمان من التنمية المحلية .لكنه حاضر في الوعي وعلى الألسنة . وعندما واجهت ” ماطوسي” في مكتبه بالعاصمة بهذا الشأن ، أجاب :” بصفة عامة العقود مع الشركات الأجنبية تمنح الدولة التونسية نسبة محترمة من العائدات البترولية ، ومقارنة بحجم الانتاج وبتعاقدات دول أخرى . وعلاوة على الأنصبة المقررة في العقود هناك ضرائب وجمارك تحقق للدولة ما مجموعه 80 في المائة من عائدات البترول .
وبالنسبة للعقود فهي منشورة بالصحيفة الرسمية ويتم المصادقة عليها بقانون .وأعتقد انها منشورة ألكترونيا في بوابة الحكومة أو وزارة الطاقة” . لكنني شخصيا بحثت وفشلت في العثور على عقد واحد على الشبكة العنكبوتية .وربما كان العيب والقصور عندي أو في طريقة البحث أو في المواقع الالكترونية . ولعل الأمر كله يحتاج الى الأخذ بمقترح تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في عقود البترول واستثماراته وعائداته .وهو مطلب ظهر مع حملة ” وينو البترول ” عام 2015 . لكنه لم يجد من يأخذ به بعد كي يجرى بشفافية ومصداقية وثقة استجلاء كل التخمينات والاتهامات والمعلومات المتضاربة.

الكامور في شمس الظهيرة

 عندما تصعد الشمس باتجاه كبد السماء فوق الكامور . ينكمش الظل .ويلجأ الشباب الى داخل الخيام . وربما تطردهم قسوة حرارة لاتحتمل ومن دون نسمة هواء الى الرقود أسفل السيارات والحافلات التي جاءت من الليل أو باكرا وقبل ان يشتد لهيب الشمس . وقد فعلت أنا أيضا . وسيكون للزائر حتما أن يسأل نفسه :كيف يتحملون كل هذا ؟. هم لا يتحدون فقط سلطات اعتادوا لا مبالاتها وبذلها الوعود تلو الوعود بلا وفاء.وقد اعترف الشاهد نفسه بأزمة ثقة جراء وعود تكررت بلا تنفيذ . لكنهم أيضا يتحدون هنا قسوة طبيعة تزداد مع الدخول الى المزيد من نيران الصيف (7). بل وأيضا مخاطر لدغات العقارب و الثعابين (معا يطلق عليهما الهوشة) . والحقيقة أنني لم أصدق عندما استمعت في البداية من معتصمين . خصوصا انهم يتحدثون بلاخوف وبلا فزع . لكني تيقنت عندما قصدت خيمة معلق عليها لافتة من قماش باسم “الهلال الأحمر التونسي” . أبلغني “يحيى يحياوي” المسئول بها أن أربعة من الشباب لدغتهم العقارب وتم انقاذهم في الموقع هنا . كما أشار الى نقل اثنين آخرين الى مستشفي تطاوين بعدما فقدا الوعي بسبب السكري و ضغط الدم . لكنه قال :” الوضع الصحي هنا لابأس الى الآن .والاشتراطات الصحية متوافرة والحمد لله في الماء والطعام.ونحن نقوم بالخدمة على مدار 24 ساعة ” . وسألت ” اليحياوي ” عن تقديره لأعداد المعتصمين في تلك اللحظة ، فقال أنهم نحو الألف . وكنت قد استمعت عن تقديرات هنا تذهب الى أن اعتصام الكامور بدأ بثلاثة آلاف ، وتضاعف العدد في يوم زيارة يوسف الشاهد لتطاوين . لكن بالطبع فإن العدد ينقص ويزيد ..وهكذا.

 ربما المعتصمون هنا في الكامور لا يتفقون على تفاصيل مطالبهم الثلاثة الرئيسية وبشأن الأسقف التي يمكن القبول بها . وربما لم يفتحوا بشكل كامل وتام ـ في نظر البعض الأكثر راديكالية بالعاصمة ـ ملف الحق في الثروة وشفافية عقود البترول مع الأجانب ،وأين تذهب عوائده ؟. بل بدا من خلال زيارتي أن العديد من بينهم ليس لديه وعي أو لم يسمع بالأصل عن تجارب الاحتجاجات الاجتماعية بطول تونس وعرضها من الكاف مرورا بالقصرين والمكناسي وجمنة . لكنهم وبعد عديد الحوارات معهم في هذه الصحراء القاسية بدوا على قلب رجل واحد في الاجابة على السؤال : وماذا ستفعلون اذا حل عليكم رمضان من دون حل؟. قالوا : سنواصل حتى بعد رمضان .ليس أمامنا إلا أن نستمر ..” الرخ لا “.

وكما قال “كمال الشول “(23 سنة ) وهو ينظر الى انعكاسات الشمس الحارقة لكن الساطعة على رمال صحراء الكامور :”الشباب في تطاوين ليس أمامه إلا أن يعمل ( خضار ) أي في بيع الخضروات ، أو (مرماجي) أي في أعمال البناء، أو عطار وحماص في تونس ( يقصد العاصمة ) ، أو أن يحرق الى فرنسا “.وصمت قليلا وقال :”إذا عدنا من هذا الاعتصام دون ان نحقق مطالبنا فسننتهى كما كان عليه الحال”. وأضاف :” نريد أن نبقي في البلاد  بكرامتنا”.

وعندما كنت آخذ طريقي في عودة أكثر صعوبة وإرهاقا قبل غروب شمس يوم السبت 6 مايو مع صحبة مختلفة وفي شاحنة نقل أخرى ،قال لي سائقها :” نحن وآباؤنا وأجدادنا دافعنا عن تونس.. حاربنا الفرنسيس من أجل الاستقلال  .. لماذا يريدون تفريغ هذه المنطقة من أهلها “. وكرر ـ دون سابق اتفاق أو معرفة ربما ـ ماقاله ” الشول ” مع انه أكبر سنا منه بنحو 15 سنة :

“نريد أن نبقي هنا بكرامتنا “.*

عند عودتي الى العاصمة تونس ظهيرة يوم الأحد 7 ماي ( مايو ) 2017 تابعت على عدة مواقع اخبارية و صفحات الفيس بوك من صداقات كسبتها الى صفحتي من تطاوين والكامور صور خروج تطاوين للتظاهر بوسط المدينة لتأكيد صلابة الحاضنة
الشعبية لاعتصام شبابها في الصحراء . كنت قد عدت بفكرة كافية عن مدى حساسية شباب اعتصام الكامور ورفضهم لاستقبال أي ساسة أو شخصيات عامة أو حتى لقيادة الاتحاد العام للشغل وحتى على مستوى الولاية . وهذا رغم ما هو معروف من مواقف الاتحاد المتضامنة مع الاحتجاجات الاجتماعية في مختلف انحاء تونس بصفة عامة ، وإن شابها بعض تحفظ . واتصلت هاتفيا بأمين عام اتحاد الشغل بتطاوين ” بشير الصعيدي ” كي استمع من الطرف الآخر للعلاقة ، فقال أن موقف الاتحاد بالولاية مساند لتحرك الشباب وأنه اصدر بيانات توثق  موقفه وتحذر من استمرار تفقير المنطقة وحرمانها من المصانع .وسألته هل حاول زيارة اعتصام الكامور، فأجاب :”لم أزره.. لأن الشباب أراد أن يكون تحركه تلقائيا ،وبدون
اشراك أي من المنظمات أو الأحزاب “.ونبه الى أن حكومة الحبيب الصيد السابقة كانت قد وقعت اتفاقين في  18 نوفمبر 2015 و 3أكتوبر 2016  مع الاتحاد لتشغيل شباب تطاوين لكنها لم تلتزم بهما .

في اليوم التالي للعودة الى العاصمة  ، تلقيت رسالة على بريدي الألكتروني بدعوة لحضور مؤتمر صحفي بمقر رئاسة الحكومة بالقصبة لوزيرة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة “هالة شيخ روحو “مساء الإثنين 8 ماي ( مايو ) 2017.  ذهبت لأن الأمر يتعلق بقضية ساخنة . وتحدثت الوزيرة أمام عدد محدود من الزميلات والزملاء باستفاضة عن معطيات جديدة في قطاع المحروقات بصفة عامة . وتطرقت سريعا الى ولاية تطاوين فقالت أنها تسهم بأربعين في المائة من البترول و نحو 20 في المائة من الغاز . كما أشارت الى انخفاض في انتاج تونس من متوسط 66 ألف برميل يوميا وصافي عائد للدولة قدره نحو ثلاثة مليارات دينار عام2012 الى نحو 45 ألف برميل يوميا و عائد يقدر بنحو 856 مليون دينار عام 2016.
وعدت مشيرة الى “حملات تشكيك ” بتشكيل لجنة لتقارن قوانين استغلال البترول بتونس بالدول الأخرى .ووعدت أيضا بتحيين ( تحديث ) موقع وزارتها لنشر الاتفاقات مع الشركات الأجنبية .وفي المحصلة مرت سريعا بتطاوين . لكن عندما سألتها صحفية تونسية تعمل لوكالة أنباء أجنبية عن كيف سيكون التصرف مع ماقالت أنه “أطراف سياسية وراء الاحتجاجات ؟..ولماذا لاتأخذ الدولة اجراءات في تطاوين لانهاء عرقلة انتاج البترول ؟” ، تحدثت الوزيرة عن “إرهابيين و مهربين و بعض الأطراف السياسية التي ركبت على الحدث “. وقالت :” لم نستخدم العنف الشرعي كما فعلت دول أخرى”.وأضافت :” توقيف الانتاج خط أحمر وتخريب للاقتصاد الوطني”

لكن درجة الحرارة في قاعة المؤتمرات الصحفية داخل قصر القصبة كانت أبرد كثيرا من صحراء الكامور ،حتى لو التجأت للرقود تحت سيارة أو شاحنة . باردة على نحو يغري بالبقاء فوق المقاعد الى الأبد.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انعقد في دورته الرابعة بين 3 و 6 ماي (مايو ) 2017 . وفاز في ختامه بمسابقة الفيلم التسجلي القصير (4 في 4) لحسن الحظ فيلم عن اعتصام الكامور بعنوان “قتاد” جرى تصويره في صحراء الكامور خلال أيام الملتقى .وهو لمجموعة من الشباب التونسي من بينهم زياد الحداد و ومجدي السبوري . وكنت من المدعوين للملتقي .

(2) حجبت اسميهما لأن الحوار معهما كان عفو الخاطر ولم استأذنهما في نسبة ما قالاه اليهما بنص منشور.

(3) طوال فترة اقامتي بتطاوين وزيارتي بالكامور حاولت عبثا لقاءه .

(4)جرت الزيارة في مارس 2016.

(5) حمادي الجبالي كان رئيسا للحكومة عن حزب النهضة الإسلامي في عهد الترويكا عام 2012 . أما الهاشمي الحامدي فهو رئيس تيار العريضة الشعبية فالمحبة ومازال . وترشح لانتخابات الرئاسة التونسية نهاية عام 2014.

(6) أجريت تحقيقا صحفيا “للأهرام” عن مآل قضايا شهداء الثورة بتونس للنشر بمناسبة الذكرى السادسة لها .لكنه لم ير النور قط . وبدلا من هذا فوجئت مع مصادر التحقيق من ذوى الشهداء بنشر حوار مجامل مع أحد رموز الثقافة بتونس المحسوبة على الرئيس المخلوع بن على .

(7)  يعتصمون في ظروف جوية قاسية .بل وبالغة القسوة عندما تهب ” العجاج) برمالها  ، مقطع فيديو على اليو تيوب يسجل لحظات من يوم الأحد 7 مايو 2017

https://www.facebook.com/younes.thabti/videos/vb.100000294468073/1523836774302790/?type=2&theater