التلوث الصناعي في تازركة والهوارية صيحة فزع بيئية

0
8878

التلوث الصناعي في تازركة والهوارية

 صيحة فزع بيئية

 

برنامج التبادل الشبابي لمشروع العدالة البيئية في نسخته الثالثة: قربة من 15 الى 20 جوان 2020

مقال من انجاز:      

–        وفاء الطرفاوي، ( القيروان)

–        زكرياء خلايفي، ( الرديف)

–        خير الدين الخليفي، (القيروان)

تأطير: حياة العطار

 

لا تكاد تخلو حياة المواطن في تونس اليوم من المنغصات، ففي كل جهة وكل منطقة تسمع صرخات الفزع والتذمر وتشاهد نظرات الغضب والسخط والاستياء حتى في تلك الجهات التي نظنها محظوظة طبيعيا وجغرافيا وتنمويا ويخيّل الينا أن الله قد مَنّ عليها بطبيعة خلابة جعلت منها وجهة سياحية ورقعة استثمارية جالبة أكثر من بقية المناطق الداخلية ولكن بمجرد زيارتها ومعاينتها عن قرب تكتشف حجم الهوة بين الواقع وبين ما يُروج عنها. هناك في الهوارية وتازركة  من ولاية نابل تتجلى لك أنانية الانسان وطبعه المتوحش  وشعوره بملكيته الدائمة للموارد الطبيعية في اطار منوال تنموي يسمح له بالاستغلال المفرط وسوء التصرف المؤدي الى نضوب الموارد واختلال التوازن ناهيك عن التلوث ونتائجه الوخيمة على المناخ والأرض والكائنات الحية. انتهاكات صارخة على حقوق الانسان واعتداء واضح على حقوق الاجيال القادمة وضرب بالقوانين والمواثيق الدولية والوطنية عُرْض الحائط هو سلوك المؤسسات الصناعية في سعيها لتحقيق الربح دون مراعاة البيئة وتحت أنظار السلطات التي باتت متواطئة مع المخالفين ومتطبعة مع التلوث.

ولسائل أن يسأل عن وجود الدولة التي يفترض، حسب الفصل 45 من الدستور التونسي، انها تضمن الحق في بيئة سليمة ومتوازنة واﻟﻤﺴﺎﻫﻤﺔ ﻓﻲ سلامة اﻟﻤﻨﺎﺥ. وﻋﻠيها ﺗﻮﻓﻴﺮ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻜﻔﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﺀ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻠﻮﺙ اﻟﺒﻴﺌﻲ في حين لا نرى لها أي دور في عدة مناطق وجهات ولا نرى اي تفاعل مع التجاوزات الحاصلة.

على اثر  زيارتنا لشواطئ الهوارية وتازركة في اطار برنامج التبادل الشبابي الذي نظمه قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من يوم 15 الى 20 جوان عاينا مؤشرات لكارثة بيئية تهدد المنطقة نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي ومياه بعض مصانع الطماطم ومصانع النسيج ومسالخ الدجاج  التي تشق السباخ عبر الاودية سالكة طريقها الى البحر لتفسد جماليته وتقلق راحة زواره وتضر بثروته وبصحة المتساكنين جواره.

تازركة : اودية وسباخ تحولت الى خطر على البحر والبر

في زيارتنا لمدينة تازركة وبعد جولة مع الاهالي وعدد من نشطاء المجتمع المدني بالمنطقة عاينا الاضرار البيئية الناجمة عن تسرب مياه المصانع الغير معالجة والتي تصب مباشرة في الوادي المؤدي الى السبخة. وفي حديثنا مع السيد أنيس قاسم رئيس جمعية حماية البيئة بتازركة صرح هذا الاخير  بأن الجمعية، من منطلق اهتمامها بالشأن البيئي، وتفاعلا مع تشكيات المواطنين قامت بأخذ عينتين :الأولى من المياه المستعملة المدّعى معالجتها من طرف الوحدات الصناعية فكانت النتائج الصادرة كارثية إذ اثبت التحاليل احتواء العينة على المعادن الثقيلة والازوت والبكتيريا، أما العينة الثانية المأخوذة من مياه الصرف الصحي على أساس انها معالجة صنف درجة ثالثة كشفت التحاليل أنها لا ترتقي إلى المعالجة صنف درجة ثانية وفي ذلك تعدِ صارخ على الفصل 8 من القانون عدد 91 لسنة 1988 المتعلق باحداث وكالة وطنية لحماية المحيط والذي يفرض على المؤسسات التي تفرز ملوثات إحداث محطات تصفية ذاتية لمعالجة نفاياتها أو نقلها إلى محطات التطهير لمعالجتها قبل سكبها في شبكة الصرف الصحي.

سبخة تازركة مثلما هو متعارف عليه تعتبر المتنفس الوحيد للبحر خاصةً في فصل الشتاء وتحتوي على أنواع متعددة من الأسماك كما أنها تساهم في تعديل نسبة الملوحة بالأراضي الفلاحية المجاورة للبحر. وتصنّف كمحمية طبيعية عالمية وفق اتفاقية “رامسار ” نظرا لاستقبالها لأعداد كبيرة من الطيور على غرار النحام الوردي والبلشون  والنورس  بالإضافة إلى وجود أنواع نادرة من النباتات المتوسطية بها، لكن هذا لم يمنع تواصل الانتهاكات بها، فقد مثل ارتفاع منسوب المياه الملوثة والناجمة عن الانشطة الاقتصادية والعمرانية المحيطة بالسبخة تهديدا على الشاطئ والأراضي المجاورة وتسبب في تلوث قرابة 6 كيلومترات من مساحة الشواطئ.  وبذلك لا نستبعد أن يصبح البحر بهاته المنطقة غير صالح للسباحة بتاتا في السنوات القادمة.

 

اللقاء الذي جمعنا بالسيد انيس قاسم
المياه المستعملة المتأتية من المنطقة الصناعية تصب مباشرة في السبخة

 

في ظل هذا الوضع نفذ مجموعة من سكان مدينة تازركة بدعم من نشطاء في الشأن البيئي وقفة احتجاجية على خلفية ما اعتبروه كارثة بيئية في حق المنطقة واهاليها طالب خلالها المحتجون السلط المحلية المتمثلة في البلدية والسلط الجهوية باتخاذ إجراءات ردعية في حق المؤسسات الصناعية المخالفة لقواعد حفظ الصحة وحماية المحيط وبمنع المؤسسات التي لا تمتلك نظام للتصفية وتنقية الشوائب والمواد السامة الموجودة في المياه المستعملة المسكوبة في السبخة. ولكن كالعادة كانت قرارات السلط منقوصة تعوزها الجدية والصرامة وتطبيق القانون ومحاسبة المخالفين وجاءت في شكل قرارات على الورق فقط لامتصاص غضب المواطن وايهامه بقرب حل المشكل.

الهوارية : طبيعة خلابة لكن ماخفي كان أعظم  

وجهتنا الثانية كانت الهوارية، أحد اجمل الشواطئ في تونس عبثت بجمالها المؤسسات الصناعية المنتصبة بها ونغصت على متساكنيها الذين عبروا عن تذمرهم من الوضع البيئي وتشكياتهم مما يسببه وادي الصيادي بمنطقة صاحب الجبل من روائح كريهة وحشرات خاصة في فصل الصيف سيما وان الوادي المخصص اساسا لمياه الامطار تحول لنقطة اجتماع انبوبين أحدهما للصرف الصحي (ONAS) والآخر لمعمل كوموكاب علما وأن الانبوب التابع للمصنع كان يحتوي على كسر اثناء زيارتنا للمنطقة.  ولكم أن تتخيلوا حجم معاناة السكان خاصة المجاورين للوادي  والذين تعرضوا للقمع والملاحقات الامنية والتتبعات القانونية على خلفية احتجاجهم ومطالبتهم بحقهم في بيئة سليمة وحقهم في الصحة. حقوق مدسترة لا غبار عليها تواجهها السلطة وأصحاب المؤسسات اما بالتجاهل أو بالتجريم ليبقى المواطن حائرا غاضبا مستاء يرى في نفسه عاجزا عن مواجهة تسلط اصحاب المؤسسات وتواطؤ الدولة من خلال غياب الرقابة والردع.

الهوارية: وادي الصيادي، مياه ملوثة وجمال طبيعي مشوه

 

“تموت ويدفنوك ويشكيو بيك” عبارة قالها صابر أحد متساكني منطقة صاحب الجبل بحرقة وألم اختصر بها معاناته وجيرانه ومآل اي تحرك أو احتجاج قاموا أو قد يقومون به. وحسب ما افادنا به صابر فقد سجلت المنطقة عديد الحالات لإصابات بأمراض خطيرة خاصةً منها الامراض السرطانية الى جانب تفشي الامراض التنفسية و الجلدية جراء اشغال مصانع  الطماطم (كموكاب، سوكدال، بريما على سبيل المثال) بطاقة استيعاب تفوق طاقة المصنع خاصة في فترة ذروة الانتاج اي ما يعبر عنه بفترة “الميسرة” (بداية من شهر جوان إلى شهر سبتمبر).

صابر: مواطن من منطقة صاحب الجبل

يذكر أن جمعية مرضى السرطان قد قامت في السنة الفارطة بحملة صحية اكتشفت خلالها انتشار كبيرا لمرض السرطان في صفوف اهالي منطقة صاحب الجبل مما سبب حالة من الاحتقان لدى سكان المنطقة تجسد فيما بعد في شكل وقفات احتجاجية للمطالبة بالحق في الصحة والحق في بيئة سليمة ومتوازنة.

من ناحية اخرى تفتقر بعض المناطق لا سيما دار علوش الواقعة بين قليبية والهوارية لشبكات الصرف الصحي مما دفع ببعض المصانع إلى سكب مياهها غير المعالجة أو المعالجة غير المطابقة للمواصفات والتي تحتوي على نسبة عالية من الملوثات السامة الى جانب مياه الصرف الصحي في بعض الأودية التي تصب بدورها في البحر وذلك وفق ما افادنا به المستشار البلدي  ورئيس لجنة الصحة والنظافة ببلدية الهوارية السيد محمد الجبالي كما حدثنا السيد محمد عن نضال اهالي هذه المناطق بسبب غطرسة اصحاب المصانع والسلطة في التعامل مع احتجاجات المواطنين على اثر فتح مجرى واد دار علوش (واد القرعة) والكارثة البيئية التي سببت حالة من الاحتقان والغضب لدى اهالي سيدي مذكور نتيجة تضرر عشرات الهكتارات من الأراضي الفلاحية وإتلاف أغلب المحاصيل وتسرب مياه المصانع إلى البيوت مما دفع اهالي سيدي مذكور إلى غلق مجرى الوادي اعتراضا على القرار واحتجاجا على ممارسات السلط المعنية. حركة احتجاجية واجهتها السلطة آنذاك بتجريم عشر اشخاص عُرضوا  على المحكمة في اول جلسة يوم 23 جانفي 2017 ليقع بعد عدة جلسات، تحديدا في فيفري 2018، الحكم بعدم سماع الدعوى لفائدة المحتجين ويذكر أن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية كان من بين المنظمات المساندة للقضية قانونيا وميدانيا.

مارطون من التحركات والاحتجاجات ولكن الى حد اليوم لم يقع حل الاشكال بصفة نهائية فقط اقتصرت السلطة الجهوية والمركزية على حلول ترقيعية تقوم بالأساس على نقل الكارثة من منطقة الى اخرى وامتصاص غضب كل منطقة على حدة.

هذا يطرح عديد التساؤلات حول جدوى انشاء الوكالة الوطنية لحماية المحيط والوكالة الوطنية لحماية وتهيئة الشريط الساحلي ومدى تدخل المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية وولاية نابل وكل الاطراف المعنية في كل ما اوكل اليهم من مهام والاهم من هذا كله دور الجمعيات البيئية والمجتمع المدني ومدى نجاعة تدخلهم.

المواطن يصرخ والسلطة اما صماء  أو متواطئة

في حديثنا مع السيد محمد الجبالي اخبرنا هذا الأخير انه تفاعلا مع تحركات الاهالي قد تم الاتصال بالوكالة الوطنية لحماية المحيط والوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي لأخذ عينات من الآبار القريبة من الوادي لتفيد نتائج التقارير أن المائدة المائية قد تأثرت جراء تلوث المياه المسكوبة في الأودية مما أثر في جودة مياه الشرب المتعددة الاستعمالات، زيادة على ذلك اثبتت بعض البحوث الطبية أن مجموعة كبيرة من الامراض الجلدية والتنفسية والالتهابات ناتجة عن سموم المياه المستعملة اضافة الى استعمال المصانع لمادة “فيول” المتكونة اساسا من الفسفور المعروف بخطورته على صحة الانسان وتجدر الإشارة الى ان معمل “كوموكاب” يواصل تعنته في استعمال مادة “الفيول” عوضا عن الغاز لتكلفتها الزهيدة ويواصل مماطلة البلدية التي تقدمت اليه بمقترحات مختلفة لتقليص انبعاثاته.

رغم التدخلات العديدة للبلدية فان القرار يعود بالأساس الى وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي المتدخل المباشر في التلوث الذي اصاب السباخ والشواطئ ويذكر أنه خلال تصاعد وتيرة الاحتجاج خاصة في منطقة دار علوش قرّر أعضاء المجلس البلدي آنذاك تقديم استقالة جماعية على خلفية هذه الحادثة.

اما بخصوص مشكلة تازركة وبعد زيارة ميدانية اداها وزير الشؤون المحلية والبيئة رفقة السيدة كاتبة الدولة المكلفة بالبيئة بتاريخ 08 أفريل 2019  الى المنطقة الصناعية بالمزرعة التابعة لبلدية تازركة رفقة عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب والرئيس المدير العام للوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي وعدد من المديرين الجهويين والممثلين الجهويين لبعض المنظمات الوطنية والجمعيات الجهوية بالإضافة الى رئيس بلدية تازركة
وبعد معاينة الوضعية البيئية بالسبخة المجاورة للمنطقة الصناعية، تقرر عقد جلسة في اليوم الموالي بمقر ولاية نابل افضت الى امضاء اتفاق بين جميع الاطراف يتم بمقتضاه التزام اصحاب المصانع بتمويل اشغال احداث شبكة صرف خاصة بهم تستجيب للمواصفات الفنية اللازمة ليقع ربطها مع شبكة التطهير الخاصة بالمنطقة ككل والتي تجمع بلديات كل من تازركة والمعمورة والصمعة. هذا ما ورد في بلاغ صادر عن ولاية نابل ولكن الى حد اليوم وبعد سنة من امضاء الاتفاق لا جديد يذكر سوى المزيد من التلوث ومن الانتهاكات.

رغم تتالي التحركات الاجتماعية البيئية في الهوارية وتازركة ورغم مشروعية المطالب وأهمية الحق في بيئة سليمة وارتباطه الوثيق بالحق في الصحة والحق في التنمية المستدامة وحقوق الاجيال القادمة إلا أن نقص الوعي البيئي، سواء لدى المواطن العادي أو لدى اصحاب المؤسسات الصناعية، وغياب المراقبة والتطبيق الصارم للقوانين في ظل منوال تنموي متوحش قائم على تكديس الثروات على حساب صحة الانسان وسلامة المحيط  جعلت من هذه التحركات قاصرا يعوزها التأطير  والنجاعة والدعم من قبل الجمعيات البيئية بالجهة وتشلها سياسة القمع والترهيب المتبعة من قبل أصحاب المؤسسات ذوي النفوذ.

فان كان لهؤلاء نفوذ وسلطة تحميهم فمن يضمن للمواطن البسيط حقه في العيش الكريم وفي حياة خالية من السموم والأمراض ان لم تقدر القوانين والتشريعات على حمايته؟    

 

 

 

 

 

 

Haut du formulaire

Bas du formulaire