قبل السقوط الأخير! الجوع ليس مؤامرة تستهدف الأغلبية

0
5479
صورة: ياسين قايدي

قبل السقوط الأخير! الجوع ليس مؤامرة تستهدف الأغلبية

اسماء سحبون

تونس/المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

توجز الأمثال الشعبية حكم الحياة وتجاربها. ولنا في الذاكرة الشعبية أمثال كثيرة يمكنها ان تجيب عن كل تلك الأسئلة التي طُرِحت مع اندلاع احتجاجات ليلية بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة في عدد من الأحياء الشعبية في بعض المناطق.

“خَانهَا ذرَاعهَا قَالِتْ مَسْحُورَة” و”الِّي طَابْ زَرْعُو يَحْصِدْ” و”التْكُورَا تُقْتِلْ النَّجْم وتُقْتِلْ الِّي يُقْتِلْ النّٓجم” وايضا “الفَارِسْ عَلَى الرُّكْبَة الأُولَى” و”العَشَاء الفَاوِحْ تَعْرضِكْ رِيحْتُو فِي الثْنِيَّة” هذه دفعة من الأمثال التي يمكنها ان تفسر باختصار ما حصل سواء على مستوى هُوِية المحتجين او على مستوى اداء السلطات في إدارة هذه الازمة. فالمتابع للوضع الاجتماعي في البلاد وطيلة عشرية الانتقال الديمقراطي لا تفاجئه هذه الاحتجاجات بل إنه، بعد هدوء عاصفة الليل التي اقضّت مضاجع الجميع، يطرح السؤال حول موعدها الجديد: متى الحريق القادم؟ والإجابة هي: لا أحد اليوم قادر على تحديد الزمن الاحتجاجي متى يندلع؟ وكيف؟ وبأية طريقة؟ وكيف ستكون التداعيات؟ ولكننا نعرف جيدا الطريق لاستباق هذا الحريق ومنع اندلاعه.

رافقت موجة الاحتجاجات شهادات وفيديوهات وتعاليق كثيرة وبيانات حزبية تستغرب تواجد أطفال وقُصّر في احتجاجات ليلية خرجت عن المعتاد من خلال كمّ العنف الذي شابها وايضا ما رافقها من اعتداء على املاك عمومية وخاصة.

وفِي ظلّ غياب اي تبرير لخروج قاصر ليلا لخرق حظر التجول والاعتداء على الاملاك والدخول في اشتباكات مع الامن، بالنسبة للكثيرين، كان من السهل تبني الرواية الرسمية والحزبية القائلة بأنها عمليات تخريبية للصوص ومرتزقة ومتآمرين يريدون ارباك الوضع. واتجهت الرواية الجماعية نحو تبني خطاب معادي لتلك الاحتجاجات رفضا لحالة العنف التي شابتها. وكذلك وصم المحتجين واعتبارهم لصوص ومرتزقة مأجورين.

وفي الأثناء لم نسمع صوت مندوب حماية الطفولة الطفولة مهيار حمادي ليفسّر للرأي العام ماذا يفعل هؤلاء القُصَّر والمراهقين في الشوارع ليلا. رغم ان هذه الوحدة الحكومية المختصة في شان الطفولة لديها كل إمكانيات الاجابة وهي التي تمتلك شبكة من مندوبي حماية الطفولة في كل الجهات ويعرفون بالضبط واقع هؤلاء الاطفال والمراهقين ولماذا خرجوا للاحتجاج في الشوارع ليلا ولماذا اشتبكوا مع اعوان الأمن ولماذا ينحاز هؤلاء للعنف والتمرد. كما لديهم ارقام وإحصاءات كفيلة بإطفاء ضمأ المتعطشين لمعرفة الحقيقة كاملة كما هي.

جيل مطبوع الازمات

الحقيقة هي أنّ هذا الجيل، قُصَّر وأطفال وايضا الشباب الذين كانوا فاعلين في موجة الاحتجاجات الليلية، هم جيل الحرية المطبوع بالأزمات والذين لا تربطهم اليوم مع مؤسسات الدولة أية علاقة ثقة ولديهم تمثلاتهم للدولة فٓهُم: مهمشون ومضطهدون وعرضة للتمييز وعرضة للحرمان وليس لهم اي اعتبار ولا يحظون بالاحترام وصوتهم غير مسموع في بلادهم ويتعرضون الى مظلمة ويتعرضون ايضا الى عدم مساواة وهم ضحايا للعنف. هذه نتيجة أكدتها دراسات ميدانية منها نذكر على الاقل دراستين صدرت مع نهاية العام 2020 الاولى دراسة تحليلية احصائية حول البعد الاجتماعي في فهم ظاهرة التطرّف العنيف صادرة عن محامون بلا حدود والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثانية صادرة عن منظمة تنبيه الدولية حول شباب في الهامش: تمثلات المخاطر والسياسة والدين في تطاوين الشمالية والقصرين الشمالية ودوار.

وكانت نتائج الدراسة الاولى (شملت عينة تكونت من 805 مستجوب من احياء الكبارية وسيدي حسين والمروج والمنازه) صادمة لجيل منهك بالأزمات:

 71,3% يعتبرون أنّ المجتمع التونسي غير قائم على أسس صحيحة.

 83,1% يعتبرون أنّه مجتمع لا مساواة.

 83,6% يعتبرون أنّه مجتمع غير منصف

 76,4%  يعتبرون أنّ الطبقات الميسورة لا تكترث للطبقات المحرومة.

 69,7% يعتقدون أنّ الدّولة لا تلبّي الحاجيات الأساسية.

41,9% أنّها لا تلبّي الحاجيات الصحيّة.

 65,7% أنّها لا تلبّي الحاجيات التّربوية

 79,2% أنّها لا تلبّي الحاجيات الاقتصادية.

 76,2%  أنّها لا تكترث للمشاكل الحقيقية للنّاس.

 70,2% يعتقدون أنّ الدّولة لا تضمر الخير.

 70,1% يعتقدون أنّ الدّولة تمارس العنف.

 80,4% يعتقدون أنّ الدّولة لا تساعد الفقراء

 81,6% يعتقدون أنّها تفضّل الأغنياء

 82,4% من المستجوبين اعتقادا راسخا في عدم المساواة أمام القانون

اما الدراسة الثانية فقد بوبت المخاطر التي ترهب الشباب لتأتي البطالة في مرتبة أولى كأبرز عنصر تهديد يواجهه الشباب وذلك بنسبة 62.4 ٪‏ في تطاوين الشمالية وبنسبة 40 ٪‏ في كل من دوار هيشر والقصرين الشمالية وفِي مرتبة ثانية يأتي الادمان يليه الاٍرهاب ثم الهجرة غير النظامية ثم الاجرام. وهكذا تفوقت البطالة على مجمل هذه العناصرالخطرة التي تتهدد حياة اي فرد في المجتمع فالبطالة هي فاتحة كل المخاطر وفِي المقابل لا تستجيب السياسات العمومية لمطلب توفير فرص الشغل وابعاد المخاطر.
تتدرج هذه المخاطر لتصل الى الشأن الديني حيث يعتقد البعض في أهمية القتال في الجهاد (10 ٪‏) وفِي ضرورة ارساء الشريعة الاسلامية.

وترى الدراسة الثانية ان انخراط الشباب في الحراك الاجتماعي وتبنيه لأشكال جديدة من الفعل وانخراطه أكثر في الاحتجاجات والمظاهرات المطالبة بتحسين وضعه الاجتماعي يعني ان الشباب يتجه نحو مزيد الاهتمام والمشاركة في الشأن العام وفِي الحياة السياسية.

من بين هذه الأرقام جاءت تلك المجموعات الاحتجاجية التي جابت الشوارع ليلا بأسلوب متمرد فيه اعتداء على املاك الغير وفيه اشتباكات مع القوات الأمنية.

ولم يكن الامر مفاجئا لان التقارير الشهرية والسنوية التي يصدرها المرصد الاجتماعي التونسي حول الاحتجاجات والحركات الاجتماعية تؤكد بلا شك ان الغضب والاحتجاج -صار تقليديا سنويا في تونس تتعامل معه السلطات بسياسة اللاتفاعل والتجريم -ينزع نحو العنف. ففي اغلب مناطق الاحتجاج تخاطب الدولة المحتجين عبر المراكز الأمنية والدعوات للتحقيق بل ان رجل الأمن يكون في الغالب الوسيط بين الدولة والمحتج والحال ان هذه الوساطة ليست دوره.

هذه المؤشرات التي دأب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نشرها منذ ست سنوات سمحت بخلق قاعدة بيانات تفصيلية حول الخارطة الاحتجاجية والاشكال الاحتجاجية والفاعلين في مجمل هذه التحركات الاحتجاجية ومطالبهم واقتراحاتهم وايضا استشراف مسار هذه التحركات ومنحنى الحراك الاجتماعي والقوادح الممكنة وطبعا لا يمكن لسلطة واعية ان تتجاهل مثل هذه المؤشرات التي يمكنها ان تضيء الطريق بخصوص التعاطي مع ملف اجتماعي بهذا الحجم. وقد سبق للمنتدى ان نبه منذ افريل 2020 الى التحول الخطير في طبيعة الحراك الاجتماعي اذ بدأ ينزع نحو العنف.
وبالعودة الى حصاد الخماسية الاخيرة من الاحتجاجات (2016-2020) نجد ان المعدل السنوي للاحتجاجات في حدود 9 آلاف احتجاج اي بمعدل 25 تحرك احتجاجي يومي وهي احتجاجات ترفع في اغلبها مطالب تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحق في العلاج وفِي الماء الصالح للشراب وفي الحق في النقل المدرسي والحق في الشغل والتنمية وكل الحقوق الاساسية لمجتمع عادل دون ان تكون هناك في المقابل اي تفاعلات من قبل السلطة سواء على المستوى المحلي او على المستوى الجهوي والمركزي.
هذا جزء من هويّة هؤلاء المحتجين ليلا أما الجزء الآخر فهي ملامح يعرفها الجميع فتناول قضية الشباب والقصّر يجب ان “يتجاوز التحديد التقليدي لهذه الفئة الذي يكتفي بالصفات الديمغرافية بل يجب الاهتمام بدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ينشأ فيها الشاب واشكال التعبير التي يتبنونها والتي تتصل بإشباع حاجات اجتماعية قد يتطلب اشباعها اعادة صياغة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي” وفقا للباحثة في علم الاجتماع فاتن مبارك في كتابها “التعبيرات الشبابية والديمقراطية الثقافية”.

الجوع ليس مؤامرة

اغلب الفاعلين في الاحتجاجات الليلية لنهاية الأسبوع كانوا أبناء الحزام الشعبي المعدم اقتصاديا واجتماعيا والذين لا تربطهم أية علاقة بمؤسسات الدولة والكثير منهم منقطع عن الدراسة وتعلم وزارة التربية ومندوبي حماية الطفولة والكثير من الأجهزة الحكومية المختصة ان عشرية الانتقال الديمقراطي ألقت بمليون تلميذ خارج دائرة التعلّم والتدريب وان هؤلاء، ضحايا الفراغ، يفعلون كما يفعل السجناء والمعطلون عن العمل: يربّون الأمل! كما يقول محمود درويش في قصيدة حالة حصار وسنضيف اليها: يربّون الأمل في الشوارع ! لأنه لا فضاء يتسع لاحلامهم وآمالهم عدى الشوارع في ظل غياب فرص التدريب والتكوين والتعلُّم وفِي ظل غياب الفضاءات التي تستوعبهم في تلك الأحياء والحال ان الكثير من دور الشباب في الأحياء الشعبية مغلقة وبعضها تحول الى خراب.

حالة الحصار المعنوي غذاها حجر صحي شامل طيلة أربعة أيام أقرته الحكومة رُغْما عن استنكار أعضاء اللجنة العلمية لمكافحة كوفيد اذ لا سند علمي لاقرار حجر صحي باربعة ايام والحال ان التصدٌي لجائحة يستوجب حجر صحي شامل لمدة اسبوعين على الاقل من اجل كسر حلقات العدوى.
دون شك وصلت الرسالة فالمختصين والسياسيين انتقدوا علنا قرار حكومي لا سند علمي له بقدر ما كان قرارا سياسيا لتجاوز الذكرى العاشرة للثورة والتي كانت مشحونة باحتقان اجتماعي غير مسبوق جراء تدهور الوضع المعيشي وتفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية وايضا الصحية. ومن ضمن المؤشرات التي تؤكد العودة الى المربع الاول للثورة جراء تدهور الوضع المعيشي مؤشر سبق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نشره الا وهو زيادة أعداد المهاجرين غير النظاميين (حرّاڤة) في اتجاه السواحل الايطالية اذ سجلت نهاية العام 2020 ارقام تضاهي ارقام العام 2011: وصل الى إيطاليا 13 ألف مهاجر غير نظامي في 2020 مقابل 28 ألف مهاجر غير نظامي في 2011. ومن ضمن الواصلين قُصّر بعضهم بمرافق وآخرين دون مرافقين.

ومن ضمن الواصلين ايضا (في 21 سبتمبر 2020) شاب يُدعى إبراهيم العيساوي هل تذكرتموه ؟؟!
حين جاءت الثورة، قبل عشر سنوات، كان ابراهيم العيساوي يبلغ من العمر 12 سنة. تعاقبت السنون وتعاقبت معها أسئلة الطفل إبراهيم ليجد نفسه نهاية العام 2020 أشهر الإرهابيين في فرنسا وهو الذي دقّ اعناق ثلاث ضحايا قرب كنيسة في نيس واصلا اليها عبر رحلة هجرة غير نظامية انطلقت من تونس.
الملامح التي تعلو محيا إبراهيم تشبه في الكثير منها ملامح جيل باكمله مطبوع بالأزمات في كل تفاصيله. جيل تُفتح طرق المخاطر في وجهه دون ان تكترث السلطات لأوضاعهم ودون ان تنجح مؤسسات الدولة في ربط الصِّلة بهم وكسب ثقته وجعلهم ضمن دائرة الاهتمام وتحت مجهر البرامج والاستراتيجيات.
لا نحتاج الى بحوث مطولة كي نفهم كيف هو وضع هؤلاء “المارقين” ليلا ضد “الحاكم” يرشقون عربات الأمن بالحجارة ويشعلون العجلات المطاطية ويخرّبون ممتلكات عامة يرونها غريبة عنهم وعن أحيائهم وهي التي تمثّل دولة غيّبتهم وهم أحياء يُرزقون. فالحكومة ومؤسساتها المختصة لديها كل تفاصيل واقع هؤلاء المحتجين ليلا.

ولسائل ان يسأل لماذا هذا الانفجار “الفجئي” والحال ان الحصار المعنوي لجموع هؤلاء القُصَّر والمراهقين يمتد الى ما قبل جانفي ولماذا لم يكن هذا الغضب خلال فترة الحجر الصحّي الاولى والتي امتدت من 20 مارس الى 4 ماي من العام الماضي الإجابة سهلة وبسيطة وهي ان هذه المجموعات الغاضبة فهمت ان أزمة كوفيد بدات تُدار بشكل سياسي أكثر مما هو علمي ومع تراجع درجة الخوف من العدوى كانت ردة فعل الشارع في الأحياء المهمشة ضد “حصار” الاربعة ايام.

فليأكلو الكعك إذن!

الطريف فيما حصل هي حالة التخبط الحكومي والحزبي في ادارة هذه الازمة والتي أكدت بلا شك ان الوضع ماض الى السقوط الأخير ما لم تتم عقلنة الأداء الحكومي وتصحيح المسار السياسي. فرئيس الحكومة، هشام المشيشي، الذي يتولى حقيبة الداخلية بالنيابة أكد أنه معاد للحراك الاجتماعي وانه لا يرى من طريقة في التعاطي مع الهزات الاجتماعية سوى بالتصدّي الأمني والمحاكمات اذ سبق وان مارس العنف ضد حراك احتجاجي في المكناسي (سيدي بوزيد) وضد حراك احتجاجي في تطاوين ولا غرابة في تسليطه العصا الأمنية في الاحداث الاخيرة مع عدم محاسبة المتجاوزين للقانون اثناء التصدي للاحتجاجات. ولا غرابة في اداء رئيس الحكومة وهو الذي تعمّد وصم المهاجرين غير النظاميين (ضحايا التأزم الاقتصادي والاجتماعي) خلال زيارته الاخيرة الى فرنسا.

الاحزاب ذاتها يبدو تشخيصها وتقديراتها للازمة وللاوضاع خارج الزمن فالبيانات الصادرة حول الاحتجاجات الليلية الاخيرة تؤكد بأننا سنكون امام لحظة تاريخية طريفة تُعِيد للأذهان ما نُسِبَ لملكة فرنسا ماري أنطوانيت حين أخبروها بان الفلاحين الفرنسيين لا يجدوا ما يأكلونه فردّت بالقول “فليأكلوا الكعك إذن!” وهو بالضبط ما أشار اليه رئيس مجلس شورى حركة النهضة، باعتباره الحزب الأغلبي في البرلمان، حين اعتبر في تصريح إعلامي بان ازمة الجوع مفتعلة.

في المحصلة اتضح التباين بين واقع الناس والتقديرات الخاطئة للقائمين على الحكم وممثلي الشعب في البرلمان فالاحتجاجات الليلية الاخيرة كانت هزّة اجتماعية ستُتْبع بارتدادات لا احد يعلم متى وكيف ستكون ولكن استباق هذه الارتدادات ممكن من خلال التشخيص الواقعي والصادق للاوضاع والاعتراف بان الجوع ليس مؤامرة تستهدف احزاب الأغلبية في البرلمان بل هي حصاد عشرية سوداوية من حيث تدهور الوضع المعيشي وزيادة اعداد المفقرين والمهمشين فديمقراطية الواجهة لا يمكنها باي شكل من الاشكال ان تبني المجتمع العادل الذي مات من اجله الشهداء قبل عشر سنوات والديمقراطية السياسية التي لا ظل اقتصادي واجتماعي لها لا يمكنها سوى ان تكون قاطرة نحو هذه التراجيديا.