استراتيجية الوقاية من التطرف العنيف في تونس: كلمة السيد الهذيلي عبد الرحمان

0
6625

إئتلاف الأمن و الحريات

المؤتمرالوطني الأول

استراتيجية الوقاية من التطرف العنيف في تونس

كلمة السيد الهذيلي عبد الرحمان رئيس المنتدي التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية عن تحالف ائتلاف الامن والحريات

السادة والسيادات ممثلو الهيئات الوطنية و منظمات المجتمع المدني . الحضور الكريم  مرحبا بكم جميعا

يرتبط كل حديث عن تونس وتجربة انتقالها الديمقراطي بالتطرق الي مفارقة جلية وساطعة للجميع فالمسار الانتقالي السلمي التونسي صار وحيدا من بين كلّ بلدان الموجة الأولي للثورات العربية الذي يتقدم رغم العثرات والصعوبات بعد الانتكاسة المصرية وعودة التسلطية العسكرية وحالة الفوضى المعممة والحرب الاهلية في باقي دول المنطقة.  ومع ذلك تبقي تونس من أكثر الدول العربية الممولة للجماعات المسلحة و العنيفة وهذا ما تقر به الجهات الرسمية التونسية و الدولية اذ أحصت الأمم المتحدة سنة 2015 أكثر من 5500 مقاتل تونسي في مختلف بؤر التوتر في ليبيا وسوريا والعراق واليمن و مالي.

فتونس التي تفتخر بمكتسبات دولة الاستقلال ممثلة في نشر التعليم وتحرير المرأة ودمقرطة الحق في الصحة وبتراثها الإصلاحي وتاريخها الاجتماعي تعيش في تناقض وقطيعة شبه كاملة مع جزء من أبنائها وشبابها ممن اختاروا الفكر الجهادي والعنف كعنوان مواجهة وصراع مع الدولة والمجتمع.

وقد تجلّي ذلك من بداية الألفية خاصة بعد عملية الاعتداء على الكنيس اليهودي بجربة سنة 2002    ثم عملية سليمان 2007 فضلا عن موجات التحول الي بؤر التوتر في أفغانستان والعراق وقد استفاد النظام السابق من شعار الحرب على الإرهاب الذي رفعته الولايات المتحدة الامريكية ثم باقي الدّول الأوربية بعد 11 سبتمبر وقدم نفسه كضامن للاستقرار ومحارب للجماعات الدينية المتطرفة طلبا للدعم وغض النظر عن انتهاكه للحريات ولحقوق الانسان. وتأجيل الاستحقاق الديمقراطي

من الطبيعي ان تكون ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي منعرجا حاسما في تغيير كل المعطيات فانهيار النظام السابق رغم كل التأييد الذي لقيه من عدة حكومات غربية بيّن هشاشة هذا النظام ومشروعية التطلع الشعبي للحرية والعدالة والاجتماعية والكرامة. وهو تطلعّ لا يزال قويا ونحن نقترب من احياء الذكري التاسعة للثورة.

 الواقع التونسي الجديد مجتمعيا وسياسيا وثقافيا يؤكد جدية خطر التطرف العنيف اليوم على مسار الانتقال الديمقراطي وعلى مؤسسات الدولة والسلم الاجتماعي والقيم المدنية والديمقراطية عامة وذلك من خلال موجات متتالية من العنف. والعمليات المسلحة والإرهابية. لقد استفاق التونسيون على حضور قوي للجماعات المتطرفة و على قدراتها التنظيمية و التعبوية و تابعوا بقلق وخوف شديدين منذ عملية الروحية عنف هذه الجماعات و ما كشفته المصالح الأمنية من مخازن للسلاح ومن معسكرات تدريب وشبكات تسفير منذ الأشهر الاولى لسقوط النظام و عمل مؤسسات المرحلة الانتقالية.

وبلغت أعمال العنف درجات قصوى مع، تكثفت الهجمات ضد قوات الأمن والجيش في جميع أنحاء البلاد ثم   سنة 2013 باغتيال    شكري بلعيد ومحمد البراهمي. لقد تحّول العنف الى خطر مهدد للمجتمع وللاستقرار السياسي والاقتصادي على نطاق واسع

ويكفي أن نذكر هنا بحادث هجوم   26 جوان 2015   في مدينة سوسة بعد أن أطلق شاب متطرف النار على كوكبة من المصطافين والمقيمين في الفندق القريب من السياح مخلفا 38 قتيلا وعشرات الجرحى، من بينهم ثلاثون يحملون الجنسية البريطانية. وبعد ذلك، قتل انتحاري في نوفمبر 2015 نوفمبر 12 من أعوان الامن الرئاسي. كانوا في حافلة وسط العاصمة. كما مثلت عملية متحف باردو مجزرة شنيعة هزت كل الضمير العالمي ثم كانت عملية بن قردان سنة 2016 كمحاولة للسيطرة على هذه المدينة الحدودية

ضحايا التطرف العنيف وضحايا العمليات الإرهابية المسلحة يعدون بالمئات في صفوف الأمنيين والعسكريين والسياح والمدنيين التونسيين اذ بلغ العدد الجملي للضحايا منذ سنة 2000 , 284 نعدهم جميعا شهداء تونس وعلينا واجب حفظ ذاكرتهم.

لذلك فان كلّ التونسيين اليوم مدركون لحجم هذا الخطر وهم في حاجة الي استراتيجية واضحة ومتكاملة لمقاومته في العمق وتبقي اولى مراحل هذه المقاومة هي فهم الأسباب والدوافع الحقيقة التي تعذي هذا التطرف و تساعد علي انتشاره وكل فهم غير موضوعي لهذه الظاهرة وكل تجاهل لجذورها سيؤدي بالضرورة إلي معالجات خاطئة بل ربما مؤجّجة  لمزيد من التطرف والى تعميق القطيعة بين النخب والشباب

فالتحدي المطروح راهنا على كل الفاعلين الحكوميين والغير حكوميين المحليين والدّوليين في تونس بعد 2011 يتلخص في السؤال التالي: كيف نقاوم التطرف العنيف ونتقدم في بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية في نفس الوقت؟  أو بأكثر وضوح كيف تكون الدولة قوية في مواجهتها للإرهاب وعادلة بين مواطنيها؟ وكيف المجتمع موّحدا ضد هذا الخطر ومتسامحا و تعدديا في نفس الوقت؟

السادة الحضور

لقد شكلت هذه المسألة التي نطرحها اليوم  بالنسبة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية و لكل المنظمات والجمعيات المشكلة لهذا الائتلاف ( الرابطة , محامون بلا حدود , بوصلة , جمعيتي , المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب , إخصائيون نفسانيون العالم -تونس مبدعون وصوليدار )  ,  موضوع اهتمام فعلي  منذ سنوات وقد تبينا في دراسة سابقة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول الظاهرة الإرهابية من خلال الملفات القضائية تطور  استراتيجية الجماعات المتطرفة  و المجموعات الارهابية في تونس وتحّولها من مرحلة الدّعوة والدعاية والعمل والاجتماعي، ثم  مرحلة جسّ النبض والحرب النفسية   ، مرحلة الاغتيالات السياسية والضربات الموّجهة  ،  ثم مرحلة الكمائن  والأحزمة الناسفة وأخيرا مرحلة العمليات الانغماسية التي بدأت تلوحُ في الأفق كنقلة نوعية في عمل المجموعات العنيفة

كما ثبت من خلال الملفات القضائية أن الحركات الجهادية التونسية تنهل من معين فكري واحد يشكل أساسها الايديولوجي والعقائدي قاعدة خطابها الدّعائي. ونحن اليوم و من خلال هذا الائتلاف نريد أن نقطع خطوات جديدة في تناول الظاهرة و التوقي منها بشكل جماعي ومشترك لان كل خبراتنا ومعارفنا و قدراتنا لا بدّ أن تتكاتف وتتعاضد في نفس هذا الاتجاه لان الظاهرة التي نحن إزاءها لا تخضع لمتغير واحد ولا تختزل في عامل واحد ولا سبيل للحماية منها من طريق واحد.

لا أحد يولد متطرفاً مسكونا بالعنف وبمشاعر الكراهية – فالمتطرف العنيف تصنعه سياقات دولية ومحلية واجتماعية ونفسية مركبة ومتداخلة تلك هي المسلمة التي يفترض أن تجمعنا كحقوقين وكباحثين أو كفاعلين سياسيين. ونحن على ثقة كاملة أن تقاطع مجالات عملنا جميعا تكامل خبراتنا سيمكننا من مقاربة هذا الملف من زوايا متعددة

بداية علينا أن نقر بأن  كل المجموعة الدولية وكل المجتمعات  من  منطلق مخاطر الارهاب  معنية بمقاومة التطرف و الجماعات المسلحة لان الخطر يعم كل منطقة المتوسط و المنطقة العربية  بل هو خطر عالمي فتنظيم القاعدة او تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” يستقطب الشباب في كل دول العالم و ينفذ عمليات حيثما يشاء و لا أحد اليوم يستطيع ضمان حماية مسبقة من الضربات الإرهابية وهو يهدد فعلا العلاقات السلمية بين الشعوب ويزيد من  قوة ذريعة  نشر الخوف ومعاداة المهاجرين و المسلمين في الغرب من قبل أوساط اليمين المتطرف والعنصري في أوروبا ويزيد من كراهية الغرب في المجتمعات الإسلامية

 إن خطة الأمم المتحدة المعلنة منذ 2006 عن  التدابير الرامية إلى معالجة الظروف المؤدية إلى انتشار الإرهاب ومكافحته و الرامية إلى ضمان احترام حقوق الإنسان للجميع وسيادة القانون بوصفه الركيزة ‏الأساسية لضمان حياة ديمقراطية مستقرة في حاجة اليوم الى تدقيق لأن تعريف التطرف العنيف و بحث سبل مواجهته لم تعد ممكنة فقط بالطرق الأمنية و القانونية بل تحتاج الي مقاربة اشمل تأخذ بعين الاعتبار ماهو نفسي و اجتماعي و سياسي وثقافي تربوي ,  كما نحتاج  الى حوكمة عالمية تقوم على احترام القانون الدولي و على مساءلة و محاسبة كل الجهات الحكومية و الاقتصادية التي كانت ولا تزال تغذي الجماعات المسلحة حفاضا على مصالحها ونفوذها

وتنزيلا لهذه المقاربة الشمولية على الصعيد التونسي ومن خلال البرنامج الطموح الذي أعده تحالفنا هذا يهمنا أن نبين أننا صرنا وذلك من خلال نتائج دراسات الخبراء والباحثين ندرك ان عدم الثقة في الدولة وعنف الأجهزة الأمنية وفي استقلال القضاء وفشل السياسات التنموية واستمرار التهميش والهشاشة الاجتماعية والنفسية عوامل تساهم في غلق أفق الأمل والتغيير خاصة لدى فئة الشباب ومحفزة للتطرف العنيف

لقد كانت سياسات التّسلط وانتهاك حقوق الانسان والامعان في الاحتقار والتهميش دافعا فعليا لتحويل الجماعات الجهادية الى حاضنة للغاضبين والمهمشين والمحقرين والراغبين في الانتقام من المجتمع والدولة وعدم وفاء النخب الحاكمة بعد الثورة بتعهداتها حافظ على نفس أسباب التطرف   فالعوامل المقترنة بخلل عمل المؤسسات وضعف تمثيلية النخب السياسية لشباب الأحياء الشعبية والمحرومة وعجز الدولة عن لعب دورها التعديلي صارت مغذية للتطرف العنيف وللقطيعة بين الشباب والمؤسسات الحكومية. رغم شرعيتها الانتخابية وفي ضل تواصل الحيف بين الجهات من خلال مؤشرات التنمية أو مؤشرات الانقطاع المدرسي وكذلك من خلال اختلال التوازن بين الجهات والفئات في الأنشطة الثقافية والفنية تستمر فئة الشباب هشة أمام إغراءات الخطاب الجهادي.

كما تعترف الدولة نفسها في تقريرها للجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب أن أشكال سوء المعاملة والعنف لا تزال تسلّط على الموقوفين داخل مقرات الأجهزة الأمنية مخلفة جروح نفسية وضغوطات عميقة قابلة للانفجار في أي وقت

 واليوم لا يمكن في تونس لديمقراطية إجرائية وشكلية يتحكم في نتائجها المال الفاسد والاعلام الموّجه أن تكفي لوضع أسس مجتمع ديمقراطي محصّن ضد العنف والتطرف والنزاعات المسلحة وحتى شبح الحرب الاهلية خاصة وأن تونس تقع على حدود مفتوحة لحركة الجماعات المسلحة

من الواضح اذن أن الراديكالية العنيفة لا تولد من فراغ فكلما تعطلت الدمقراطية الفعلية واستمرت ثقافة الإفلات من العقاب والفساد وغياب المساءلة والمحاسبة سيظل للخطاب المتطرف صدي لدي الشباب ولدي عموم المهمشين والمستبطنين للإهانة والاحتقار

ان المشروع الديمقراطي التونسي كمشروع مناقض في أسسه وغاياته لمشروع الجماعات المتطرفة هو في الجوهر مشروع يضع أسس دولة القانون وشفافية تسيير المؤسسات مركزيا ومحليا وحماية الحريات الفردية والعامة وضمان صون حقوق الانسان، وهو كذلك مشروع تنموي اجتماعي واقتصادي وثقافي فعودة الثقة في التغير السلمي وفي الوسائل الديمقراطية يقترن لزاما بتحقيق العدالة الاجتماعية وبالحد من الفوارق المجحفة وبتوفير الشغل وضمان الكرامة للجميع. وبتعميم ودمقرطة الحق في الثقافة

ونحن نستطيع أن نجازف بالقول وذلك استنادا الى نتائج رصدنا للحركات الاحتجاجية والشبابية وقربنا منها ودراستنا لها عن كثب أن قطاعات واسعة من الشباب تتطلع الي مشاركة سياسية سلمية في الحياة العامة وهي جاهدة في حماية نفسها من الخطاب المتطرف وهو ما يضاعف من مسؤولياتنا جميعا ومن مسؤولية هذا الائتلاف المدني الذي يجمعنا.

إنّ الخطوة القادمة لائتلافنا والمهمة التي أوكلنها لأنفسنا كمنظمات وطنية ودولية متحدة ضمن نفس الإطار التنظيمي   بعد المؤتمر الوطني الأول هو ضمان ديمومة عملنا   للوقاية من التطرف العنيف في سياق الانتقال الديمقراطي وهو ما يعني مشاركة مختلف الفاعلين للوقاية من التطرف العنيف،

. فقد ولى زمن المقاربة الأمنية والتي لا  تقود بمفردها إلى نتائج إيجابية، بل على جميع الأطراف و كلّ المعنيين الانخراط في مكافحة الإرهاب وفق مقاربة تشاركية تهم جميع الفئات،  والشباب والمرأة ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني، إضافة إلى المؤسسات الدينية والتربوية  والسياسية  علينا اذن ان نعمل من أجل أن يكون المؤتمر محطة للتشخيص السليم و الموضوعي و النقاش الحر حتي يخرج بتوصيات جدية موّجهة للجميع  ونحن بتنظيمنا لهذا اللقاء اليوم نشرع في قطع الخطوات الأولى نحو الهدف .

وليست الموجة الثانية من الانتفاضات العربية الا دليلا على عمق الطلب الديمقراطي ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وهي موجة تتزامن مع عدة انتفاضات عالمية ضد سياسات التقشف وضرب الحماية الاجتماعية التي تفرضها العولمة النيوليبرالية على شعوب العالم وخاصة شعوب الجنوب فمطلب السلم ومطلب الحرية والعدالة الاجتماعية صارت بوضوح مطالب مترابطة ومتلازمة