مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق: الحرية للسلع والتقييد للأشخاص
بقلم: مسعود الرمضاني
رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
سيحدد اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق العلاقات بين تونس والاتحاد الاوروبي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المستقبل. وقد سبقت المشروع الذي لازال تحت الدرس والنقاش خطوات لابد من الانتباه اليها : اتفاقية الشراكة سنة 1995، التي كانت تونس اول بلد في جنوب المتوسط يسارع لإمضائها، ثم جاء مخطط العمل من اجل الشراكة المميزة، الذي تبنى بنوده السيد حمادي الجبالي، رئيس حكومة الترويكا سنة 2012، ووقعه السيد المهدي جمعة، رئيس الحكومة الانتقالية في افريل 2014.
كان من المفروض ان يغتنم الجميع مناخ الحرية الذي ساد بعد 14 جانفي 2011 ليقع نقاش عميق حول الشراكة مع الاتحاد الاوروبي ولتقييم النتائج، خاصة بعد دخول منطقة التبادل الحر حيز التنفيذ سنة 2008 وتفكيك المعاليم القمرقية على البضائع الموردة من الاتحاد الاوروبي والتي كلفت خزينة الدولة مليارات الدولارات. كما يرى الخبراء ان الاتفاقية افقدت تونس أكثر من 50 بالمائة من نسيجها الصناعي وعمقت التفاوت الجهوي، احد اهم اسباب انتفاضة 2011، وذلك بسبب اقتصار الاستثمارات الاجنبية على مناطق بعينها،
وامام غياب اي تقييم حقيقي لاتفاقية الشراكة لسنة 1995 وتداعياتها وفي وضع حرج تمر به البلاد اقتصاديا واجتماعيا نتيجة لارتفاع المديونية والعجز التجاري وانخفاض قيمة الدينار وتصاعد التحركات والمطالب ألاجتماعية، يحاول الاتحاد الاوروبي تمرير اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق الذي سيشمل بقية القطاعات، بما فيها الفلاحة والخدمات، وحسب سفير الاتحاد الاوروبي في تونس فانه يجب على بلادنا، التي انهكتها كل هذه الاوضاع، ان تسارع بإمضاء الاتفاقية التي “طال النقاش حولها“
وستقع خلال شهر افريل الجاري مفاوضات مهمة بين ممثلي الاتحاد وممثلين عن الحكومة التونسية على مستويين: الاول يخص اعادة قبول المهاجرين وتسهيل اجراءات التأشيرة، التي لا تخص الا عددا قليلا من التونسيين، والثاني مناقشة شروط التبادل التجاري، الذي سيفضي الى امضاء اتفاقية التبادل الشامل والمعمق.
اذن نحن امام فصل مقصود بين تبادل حر للسلع والمنتوجات ورؤوس الاموال وتحديد دقيق لتنقل الاشخاص من الجانب التونسي، وذلك مع صعوبة التأشيرات، خاصة بالنسبة للمواطنين العاديين.
مع اتفاق الشراكة الشامل والمعمق، يقترح الاتحاد الاوروبي على تونس مزيدا من الانفتاح الاقتصادي، انفتاح سيشمل كل القطاعات، بما فيها الفلاحة، مما سيضع الامن الغذائي امام محك صعب، ويكرس مزيد التبعية للمنتوجات الزراعية الاوروبية، التي هي اساس الغذاء في تونس، ويهدد التشغيل في هذا القطاع الحيوي.
والسؤال الذي يٌطرح دائما ويؤرق المجتمع المدني، دون ان يجد له الجواب الشافي لدى الطرفين، هو حول مدى قدرة الاقتصاد التونسي على المنافسة. فالاتحاد الاوروبي يعد بتنمية الاقتصاد التونسي عبر تسهيل الوصول الى السوق الاوروبية، ويؤكد انه سيكون محركا اساسيا للنمو وتشجيعا للاندماج الاقتصادي والاجتماعي، لكن اذا قيمنا التجارب الماضية وخاصة اتفاقية الشراكة لسنة 1995 التي أخضعت الصناعة التونسية للمنافسة الاوروبية ، نلاحظ بما لا يترك مجالا للشك أنها ، وبعد عشرين سنة من اتفاقية التبادل الحر، تعاني من صعوبات جمة، وان 55 بالمائة من النسيج الوطني الصناعي اندثرت بين 1996 و2010 وذلك بسبب عدم القدرة على المنافسة، ،وهذا حسب دراسة قام بها المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي سنة 2013.
حرية التنقل في اتجاه واحد
نظريا، يحكم العلاقة بين بلدين مبدأ التعامل بالمثل، ويسعى الطرفان الى ان تكون مفاوضاتهما على قدم المساواة، لكن هذا لا ينطبق خاصة على الهجرة، فحين يمنح المواطن الاوروبي، آليا، تأشيرة مدتها ثلاثة اشهر، ما انفك المواطن التونسي الذي يقصد فضاء شانغن يعاني من صعوبات جمة، وقد لا يحصل على التأشيرة ان لم تكن لها ضمانات الاقامة هناك وضمانات العمل في تونس .
وهذا طبعا لا ينطبق على هجرة الادمغة، حيث تسجل تونس نزيفا متواصلا، خاصة باتجاه اوروبا : اذ حسب دراسة قامت بها منظمة التعاون والتنمية فان تونس سجلت مغادرة 94 الف كفاءة منذ 2011، بين اطباء واساتذة جامعيين واداريين ورجال اعمال…84 بالمائة منهم استقروا بالبلدان الأوروبية، وهذا ناتج طبعا عن التسهيلات التي تقدمها اوروبا للكفاءات مقابل انسداد الافق وغياب البيئة الحاضنة للعمل والتسهيلات الضرورية للبحث والتحفيز المادي في بلادنا…
وفي لقاء بين منظمات المجتمع المدني وسفير الاتحاد الاوروبي منذ حوالي اسبوعين، اشار السيد “باتريس برغميني” الى ضرورة الاسراع بإنهاء المفاوضات حول التبادل الحر الشامل والمعمق وامضاء تونس على الاتفاقية لان “من مصلحة الجميع” ان تصل المفاوضات الى نتيجة ايجابية.
وسبقت هذه الضغوطات المبطنة من اجل انهاء التفاوض بعض المؤشرات التي تشي بتصلب مواقف الاتحاد تجاه تونس، ومنها ادراج بلادنا ضمن قائمة الدول الاكثر عرضة لتبييض الاموال وتمويل الارهاب في فيفري الماضي، الذي يرى فيه بعض النواب اليساريين في البرلمان الاوروبي محاولة للضغط من اجل “التسريع بالمفاوضات بشأن التبادل الحر الشامل والمعمق“.
كما يرون ان ادعاء مساندة تونس في تحولها الديمقراطي يتناقض مع رفض الاتحاد الاوروبي مؤخرا منح بلادنا نسبة اضافية غير خاضعة للضريبة لتصدير زيت الزيتون، الذي عرف انتاجا غير مسبوق خلال موسم 2017 – 2018.
وان كنا نرفض العزلة والانغلاق ونؤمن بضرورة انفتاح بلادنا على الاتحاد الاوروبي وغيره على مستويات عدة : تجارية، ثقافية واجتماعية، فإننا ندرك حجم الصعوبات التي يواجهها المفاوض التونسي، المٌطالب بالمحافظة على المصالح الوطنية في وضع اقتصادي صعب وعلاقات غير متوازنة وتبعية اقتصادية ما انفكت تتفاقم، لكن عليه ان يدرك ان المفاوضات لا تهم الحكومة التونسية فقط بل كل الفاعلين، احزابا ومجتمعا مدنيا ونقابات شغالين وأعراف، وعليه ان يدرك، في نفس الوقت، حاجة الاتحاد الاوروبي لشراكة معمقة مع تونس وحاجته كذلك الى الاستقرار والنمو في جنوب المتوسط.
في المقابل يحاول الاتحاد الاوروبي، الذي هو ليس جمعية خيرية يحركها العطف على تونس، التمسك بأولويتين : بسط نفوذه التجاري برفع كل القيود امام سلعه في بلدان جنوب المتوسط ومقاومة تدفق المهاجرين، وليكون التفاوض مناسبا ومتوازنا، لابد من الموازنة بين مصالح الطرفين الاوروبي والتونسي، من ذلك منح نفس الظروف لتنقل الاشخاص من الجانبين وتسهيل عمليات التأشيرة قبل الغائها.