الدستور والمحددات الفعلية للسياسة الاقتصادية

0
1766

الدستور والمحددات الفعلية للسياسة الاقتصادية

أحمد ضوَيه

 

“الدستور الحقيقي هو ما خطه الشباب على الجدران”. التمست عديد القوى اليسارية والاجتماعية مضمونا وانحيازا طبقيا من خلال هذا القول وإلماما وإدراكا بمتطلبات المرحلة التاريخية. استطاع قيس التنقل بين جمهورين من خلال كلماته القليلة:  جمهور يساري اجتماعي تقدمي، وجمهور محافظ من عامة الشعب وهو ما ترجمته النسب العالية لنوايا التصويت قبل 25 جويلية وبعده.

إلا أنّ لحضة الاختبار الحقيقي أي عند استلام قيس سعيد السلطة كل السلطة بعد 25 جويلية، أوضحت طبيعة هذا الرجل من خلال العلائق التي يربطها مع غيره ومع الواقع. تعرفنا إلى قيس سعيد رجل السياسة الذي يمارس خطاب المغالطة والبراغماتية منهجا للوصول إلى مبتغاه. فقد أسقط قيس كل أقنعته  في عام من الحكم المنفرد. ولم تمنع الديباجة الركيكة الشاهقة في التاريخ التي آفتتح بها قيس سعيد مشروع دستوره من إخفاء  الفلسفة  الفردانية لشخص تناسى حينها المضمون الاقتصادي والاجتماعي لدستور الجدران وتغافل عن تجريم التطبيع، ونص بجلباب الملك أن رئيس الجمهورية يتمتع بالحصانة طيلة رئاسته ولا تجوز مساءلته عن الأعمال التي قام بها في إطار أداء مهامه. لم يتذكر حينها أن في خلافة عمر التي طالما ادعى التّماهي معها، قام أحدهم يقول له: “والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف، فرد عمر: الحمد الله الذي أوجد في هذه الأمة من يقوم آعوجاج عمر”.

القصد من وراء ذلك أن لا ضمانة في شخص، بل الضّمانة  في  القانون والمؤسسات الّتي تعكس طبيعة الصراع في تلك اللحضة التاريخية. لم تدرك النخبة الحاكمة ماقبل 25 جويلية أن مسار التاريخ لن يعود إلى الوراء وهو ما لم يدركه قيس بدوره.

 

إنّ الدساتير هي انعكاس لموازين قوى طبقية واجتماعية لكل مجتمع فقد نَصَّ الدستور الصادر 2014 على مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن تقسيمها أو تقديمها لاعتبارات منهجية. بين حقوق تتجه للفرد بصفة مستقلة عن وضعه المهني وحقوق ذات صلة بالمصالح المهنية للفرد. وهو تقسيم لا يلغي الترابط والتكامل بين جميع الحقوق.

الحقوق بقطع النظر عن الوضع المهني:

هي حقوق متعددة من حيث مضمونها والأشخاص المستفيدون منها، وفي مقدمة هذه الحقوق ما يتصل بكرامة الإنسان كالحق في الصحة الوارد في الفصل 38 مع الملاحظة أنه يتجه أحيانا لكل إنسان وأحيانا أخرى يتحدث عن حقوق المواطن. كما أورد في ذات الفصل 38 الحق في التغطية الاجتماعية للأفراد من المخاطر التي لها علاقة بظروف عيشهم طبق ما حددته المعايير الدولية وفي مقدمتها الاتفاقية رقم 102 (الاتفاقية الدولية للعمل)، (تجدر الإشارة إلى أن النظام التونسي للضمان الاجتماعي يغطي من الناحية النظرية تقريبا كامل المخاطر بآستثناء البطالة).

كما أكد دستور 2014 إن الحق في البيئة يندرج ضمن الحقوق التي لها علاقة وثيقة بمبدإ الكرامة البشرية كما نصّ الفصل 45. إضافة إلى ذلك، يقرّ الدستور بالحقوق المتعلقة بالمقوّمات الذهنية للإنسان حيث ذكر في فصله 39 على الحق في التعليم وإلزاميته لسن 16 مع الإشارة لعدم تفعيله بحكم الأرقام الضخمة للمنقطعين عن الدراسة كل سنة، كما أكد في ذات الفصل على مجانية التعليم العمومي في كامل مراحله. وأشار في الفصل 41 منه إلى الحق في الملكية. وضمن دستور 2014 بعض الحقوق التي تتجه إلى فئات معينة من الأشخاص بحكم وضعيتهم الاجتماعية وفي هذا الإطار تتنزل حقوق المرأة في الفصل 46 وحقوق الطفل في الفصل 47 وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الفصل 48. علاوة على الحقوق الاجتماعيّة كالحق في العمل الوارد في الفصل 40 والحق في تكوين النقابات والحق في الإضراب.

مقارنة بين مشروع  الصادق بلعيد ودستور قيس سعيّد

تتالت منذ صدور مشروع الصادق بلعيد التعليقات والقراءات المقارنة بين المشروعين خاصة وأن المسألة الاقتصادية والاجتماعية قدمت على أنها مركز اهتمام جديد في التفكير الدستوري التونسي بعد الثورة. فقد أشار الصادق بلعيد في توطئة الدستور إلى إقامة الديمقراطية التشاركية والاجتماعية، ليفتتح الباب الأول من مشروع دستوره تحت عنوان “أسس السياسة التنموية. ويؤكّد في الفصل الأول على ضمان الدولة التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين مواطنيها. يمكن القول إن جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المضمنة في دستور 2014 أعيد تضمينها في دستور الصادق بلعيد مع إضافة مهمة في تقديري تتمثل في الفصل الثامن حيث ذهب إلى إحداث قانون هيئة وطنية تسمى المجلس الوطني للسياسة الاقتصادية والمالية والنقدية والمنافسة. وقد كان هذا تقريبا أحد مطالب الاتحاد العام التونسي للشغل في 2014 بمطالبته بمؤسسة للحوار الاجتماعي عن طريق بعث مجلس وطني للحوار الاجتماعي الاقتصادي.

أما دستور سعيّد فقد  سار تقريبا على نفس نهج الدساتير السابقة بتضمينه لمجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تقريبا ولا يختلف عن دستور بلعيد إلا في ترتيب الفصول.

يمكن القول إن أغلب الدساتير من دستور 2014 إلى مشروعي كل من الصادق بلعيد وقيس سعيد قد تضمنت إشارات الي  أغلب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع تفاوت نسبي في مدى إلزاميتها بهذه الحقوق في عبارات التنصيص إلا أن الأهم من التنصيص، مع التأكيد على أهمية دسترة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، هو مدى الالتزام الإيجابي في تفعيل تلك الالتزامات.

لا يكمن الاختلاف الجوهري بين هذه الدساتير في مضمونها الاجتماعي والاقتصادي بل في شكل الحكم عامة وفي نظامها السياسي من جهة،  (دستور 2014 ذي النظام السياسي الهجين بين البرلماني والرئاسي والنظام الرئاسي المعدل في مشروع الصادق بلعيد إلى النظام “الرئاسوي” في مشروع دستور قيس سعيد)  وفي مسار صياغة الدستور والسياق السياسي الذي نتج عنه دستور 2014 وبقية مشاريع الدساتير من جهة أخرى.

إنّه لمن المهمّ كلّ الأهمّية فهم شكل الحكم لمعرفة مدى جدية الأنظمة في تفعيل مجموعة الحقوق سواء منها السياسية والمدنية أوخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وكما ذكرنا سلفا يقع تفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من قبل الأنظمة والحكومات من خلال برامجها وسياساتها وخيارتها الاقتصادية والاجتماعية. فالسياسيات الحكومية هي التي تعطي مضمونا ماديا وواقعيا للخيارات الاقتصادية والاجتماعية ضمن العقد الاجتماعي المشترك الذي يضمنه نظريا الدستور .

دستور 2014 كان دستور توافقيا إلى حد التناقض. فخلق بذلك عديد الأزمات داخل منظومة الحكم وعطّل العملية الديمقراطية برمتها خاصة في ظل وجود نخبة حاكمة مسكت بكل خيوط العملية الديمقراطية ووظفتها لصالحها. لكن رغم ذلك لم يتح النظام السياسي  الفرصة للقوى  الحاكمة حينها  لتمرير الخيارات النيو-ليبرالية من خلال مواجهات خاضتها ضدّها داخل البرلمان وخارجه  القوى الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة أساسا في المنظمة الاجتماعية الاتحاد العام التونسي للشغل ومجموع القوى والأحزاب الوطنية اليسارية والاجتماعية و الحركات الاحتجاجية الاجتماعية التي لم تهدأ. وهو ما يفسّر اشتراط المؤسسات الدولية الحاملة للفكر النيوليبرالي المهمين عالميا اليوم، ونعني بذلك صندوق النقد والبنك الدولي، موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على الإصلاحات.

 أما الآن ورغم النوايا المعلنة ودسترة الحقوق، فإن موازين القوى اختلفت وآختلت لصالح الحاكم بأمره قيس سعيد. ومع تقديمه لمشروع دستور جديد تكون فيه السلطة مجمعة في يد حاكم مطلق، على عكس الخطاب المتبنَّى من قبل أتباعه  بأن النظام القاعدي هو تفعيل لقوى تونس الحية الشعبية المتمثلة في أبناء الجهات والأقاليم من خلال إعطاء السلطة لهم بإحداث مجلس الجهات والأقاليم، فإن هذه الفكرة قد بان ما فيها من مغالطة وتباين مع الواقع لما فيها من دعوة إلى تمركز السلطة أكثر فأكثر. إذ يقول الفصل 100 من دستور قيس سعيد “رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد إختياراتها الأساسية ويعلم بها مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وله ان يخاطبهما معا إما مباشرة او عن طريق بيان يوجه إليهما”.

وهكذا فإنّ قيس سعيد سيكثف السلطة في شخصه ويصبح المتحدث والناطق الأوحد بآسم الإرادة الشعبية. وكلّ معارضة لخياراته ستكون معارضة للإرادة الشعبية، فحين  تعارض خيارا من خيارات الرئيس فانت لا  تعارض فكرة أو توجها  سياسيا مثل ماهو متعارف عليه في كل الديمقراطيات، بل  انت تعارض إرادة الشعب المتجسدة في شخص قيس سعيد.

وهذا التشكل التسلطي والفردي لنظام الحكم له علاقة شديدة الارتباط بمسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فقد أصبحت سلطة الرئيس  مطلقة دون معارضين. وهو ما يمكّنه بكل سهولة، نظريا على الأقل، من تمرير الإصلاحات التي تريدها رؤية صندوق النقد وخياراته التي لا تولي عناية خاصة بمضمون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

فإذا ما أراد الإمضاء مع الصندوق، وهذا غير مستبعد إذا ما آطلعنا على مشروع الإصلاحات التي قدمتها حكومته التي تنفذ سياسته  والتي تتضمن جميع إملاءات الصندوق وفق نظرة نيوليبرالية خالصة تتعارض تماما وفلسفة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنه سيقدم ذلك باسم الضرورة التاريخية ومصلحة الشعب و الوطن. أي أن المسالة أصبحت تتعلق بإرادة الفرد ضمن موازين قوى لصالحه وهو ما أدركته هذه الصناديق ولأول مرة منذ 2010 قام صندوق النقد بلقاء رئيس الدولة بعد أن أصبحت المسالة تتعلق بإرادته  هو فقط.

من المهم التذكير إن المدرسة النيوليبرالية كان لها تجربة مع مثل هكذا نظام رئاسوي تسلطي أدارته باعتباره مخبرا لسياسات النيوليبرالية من خلال مفكر هذا المذهب الاقتصادي ميلتون فريدمان، ونعني بذلك  تجربة بينوشيه في الشيلي. و لعلّ الاطلاع على ما خلّفته من كلفة اجتماعية وسياسية باهظة، يقدم لنا عديد الإضاءات ودروسا ممكنة للمرحلة المقبلة.

علمنا التاريخ أن الحقوق تفتك ولا تعطى خاصة منها الحقوق المتعلقة بما هو اقتصادي وسياسي: حقوق المعنى الطبقي والخيارات الكبرى. لذلك ما آفتك بالنضال وبدماء الشهداء من مكاسب لا يمكن انتزاعها بسهولة و يبقى  تدعيم هذه الحقوق في حاجة الى المزيد والمزيد من النضال.

 

[1] جريدة الشعب نيوز. تاريخ الاطلاع 10/07/2022.

[2] اقتباس من عنوان مسرحية “في إنتظار جودو” لصامويل بيكيت.

[3] Nadia Urbainati. Me, the people, how populism transforms Democracy. Harvard University Press. P38.

[4] من صفحة فايسبوك “الحملة الوطنية لدعم جمنة”. رابط: https://www.facebook.com/watch/?v=1147366962011577

[5] من خطاب قيس سعيد في مجلس الوزاري بتاريخ 02 ديسمبر 2021.

[6]https://www.mosaiquefm.net/ar

[7] مشروع أمر قانون الطوارئ الاقتصادية: https://www.leaders.com.tn/article/33590-mesures-economiques-d-urgence-un-decret-loi-ficele?fbclid=IwAR0tJTEfamax6jOCXmviOqCJqfxWP9gb-InLm_pZDLxeK9saMTSKEx1DAD4

[8]المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبرنامج الحكومة “السري”. تاريخ الإطلاع: 14 جويلية 2022. الرابط: https://www.iwatch.tn/ar/article/905