واقع النفايات في الرديف: سكان يستنشقون موتهم يوميا

0
5712
صورة لحرق النفايات بالمصب البلدي بالرديف يوم 11 نوفمبر 2020

واقع النفايات في الرديف: سكان يستنشقون موتهم يوميا

رحاب مبروكي فرع الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

 

على بعد بضع كيلومترات عن قلب المدينة وغير بعيد عن المساكن التابعة لحي “02 مارس” يتواجد المصب البلدي بالرديف الذي يعود تاريخ إحداثه إلى أكثر من 03 عقود والذي أصبح اليوم مقبرة لدفن النفايات بمختلف أنواعها. وأنت تجوب طريق “رومل” الواقعة على مشارف البلدة تتراءى لك أكداس النفايات المتناثرة على امتداد ما يقارب 10 هكتارات لتشكّل مشهدا يبرز للناظرين وكأنه شبح يربض على تخوم هذه البلدة لينهش حق الأهالي في واقع بيئي سليم. أكياس من القمامة المتراكمة ترسل خيوطا من الدخان المتصاعد جراء حرقها فتلوّث سماء المدينة وتلبس الجو ثوبا من القتامة، عشرات من الشاحنات تتواتر يوميا إلى هذا المكان لتفرغ ما يقارب 30 طن من المخلفات المنزلية به تاركة خلفها فضلات منزلية وبعض كمامات مستعملة تنتشر على جوانب الطرقات لتعكس رائحة “الموت” التي يستنشقها السكان يوميا، وعلى هذا الحال تعيش الرديف على وطأة سوء إدارة النفايات من طرف الهياكل المكلفة قانونيا بمهمة التعاطي الصحي معها، مما اضطر بعض مواطني الأحياء المجاورة للمصب إلى التهديد بغلقه والاحتجاج على مواصلة طمر النفايات به. ويبقى السؤال المطروح هو كيف وصل حال المصب إلى هذه الوضعية؟؟ و أين دور الأطراف الموكولة لها مهمة مراقبته ؟

وفي محاولة للإجابة على مختلف هذه الإشكاليات أنجز هذا التحقيق لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للوقوف على الآثار البيئية والصحية لمواصلة نشاط المصب دون احترام المعايير المعمول بها دوليا ووطنيا ومدى تعاطي السلطة المحلية مع هذا الإشكال.

صورة لحرق النفايات بالمصب البلدي بالرديف يوم 11 نوفمبر 2020

تشريعات غير مطبقة

“النفايات هي مواد لم تعد ذات فائدة بعد أن تم استعمالها لمرة واحدة أو عدة مرات، أو هي مواد نتجت من عملية معينة سواء كانت بيولوجية أو صناعية (مثل نفايات المصانع)”[1]. ويعرفها القانون التونسي في الأمر عدد 2339 المؤرخ في  10أكتوبر 2000 والمتعلق بضبط قائمة النفايات الخطرة على أنها “كل النفايات المذكورة بالملحق عدد 02 من نفس الأمر كالمواد المعدية والمواد القابلة للإنفجار ومدمرات الأحياء والمواد الصحية النباتية ولها إحدى خصائص الخطر المنصوص عليها بالملحق عدد 03 من نفس الأمر مثل الأضرار في الوسط الطبيعي أو اندلاع الحرائق”[2] ويؤدي تراكمها بطريقة عشوائية إلى إحداث أضرار بيئية وصحية جسيمة. ولتلافي هذه الأضرار عملت الجمهورية التونسية منذ عقود على وضع ترسانة قانونية تعنى بالتصرف الآمن في النفايات اعترافا منها بأهمية ترسيخ الحقوق البيئية والصحية للأفراد. فجاء في الفصل 45 من الدستور التونسي الجديد ما يلي “تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي.”  أما القانون عدد 41 لسنة 1996 المتعلق بالنفايات ومراقبتها والتصرف فيها وإزالتها فقد نص في فصله 19 على أن “تعد الوزارة المكلفة بالبيئة بالتنسيق مع الوزارات و الجماعات المحلية المعنية مخططات تضبط الشروط التي يتم بمقتضاها جمع وإزالة الفضلات المنزلية”[3]. وبالإضافة إلى التشريع الداخلي صادقت كذلك تونس على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية الهادفة إلى ضمان الحقوق الصحية والبيئية للمواطنين والمقننة لمجال التصرف في النفايات. وذلك على غرار معاهدة “بازل” بشأن التحكم في النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود[4] ومعاهدة باماكو الممضاة بين الدول الإفريقية بشأن حضر إستيراد النفايات الخطرة إلى إفريقيا ومراقبة وإدارة تحركها عبر الحدود الإفريقية[5] وكذلك اتفاقية برشلونة لحماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر المتوسط[6]. وعلى هذا الأساس فقد حظيت الحقوق البيئية والصحية في علاقة بالنفايات بأهمية بالغة على المستوى التشريعي لكن الهوة القائمة بين التشريع والواقع تبدو واضحة بصورة جلية في التعاطي مع المصب البلدي بالرديف الذي يفتقر إلى أبسط المعايير الصحية المعمول بها مما يفرض على الدولة اليوم الوفاء بالتزاماتها المحلية والدّولية للحد من إنتهاك الحقوق البيئية والصحية للمواطنين.

أضرار إنسانية وبيئية

 يتواصل نشاط المصب البلدي بالرديف بشكل مخالف لجميع الإجراءات الصحية والسليمة المعمول بها دون اتخاذ السلطات المحلية خطوات جادة لإنهاء حرق النفايات في الهواء الطلق ودون التفكير في اعتماد إستراتيجية صحية في التعاطي مع نفايات المدينة، وهذا ما يمكن أن يخلف أضرار إنسانية وبيئية حذرت منها أطراف عدة في مختلف دول العالم. ففي 2017 أجرت منظمة هيومن رايتس وواتش تحقيقا  حول المشاكل الصحية الناجمة عن حرق النفايات في الهواء الطلق نتيجة غياب إستراتيجية فعالة لإدارة النفايات. وتوصّل التحقيق إلى أن سكان المناطق التي ترمى فيها النفايات أو تطمر أو تحرق في الهواء الطلق يشكون من مشاكل صحية تتضمن “الانسداد الرئوي المزمن والسعال والتهابات الحلق وأمراض جلدية و الربو”. كما توصلت المنظمة في تحقيقها إلى “وجود صلة بين تلوث الهواء جراء حرق النفايات في الهواء الطلق وأمراض القلب وانتفاخ الرئة كما أن ذلك قد يعرض الناس إلى مركبات سرطانية”[7]. كما ذكرت مجلة غيتي الفرنسية بأن تراكم النفايات في منطقة معينة قد ينتج عنه أضرار بيئية لا تحصى من بينها “تشويه المناظر الطبيعية وانتشار الروائح الكريهة والتأثير على النظام الحيوي وذلك عبر جلب الحشرات الناقلة للأمراض والقوارض، كما تسهم مجامع النفايات العشوائية في انبعاث غازات سامة مثل غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون وهي من الغازات التي يؤدي ارتفاعها إلى الانحباس الحراري”[8]. وجملة هذه الأضرار تتنافى بشكل قاطع مع القانون عدد 54 لسنة 1989 المتعلق بانضمام تونس إلى اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون. أما منظمة الصحة العالمية فقد أكدت بدورها أنه “يمكن أن تتسبب مدافن النفايات في تلويث مياه الشرب إذا لم تبن بطريقة مناسبة”. وعلى هذا الأساس يتبين حجم الأضرار المهددة لصحة السكان الذين احتجوا على تواصل الوضع على هذه الشاكلة من السوء.

غضب شعبي وتهديد بإغلاق المصب

على خلفية احتجاج المواطنين على وضع المصب،تم يوم الاثنين 09 نوفمبر2020 عقد اجتماع بمقر بلدية الرديف حضره كل من رئيس البلدية ومستشارين بلديين وممثل عن الشرطة البيئية بالمدينة وممثل عن الحرس الوطني وممثل عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهيئة ممثلة عن الأهالي المتضررين من مواصلة نشاط المصب البلدي للفضلات. وتم خلال الجلسة تقديم مجموعة من المطالب عرضها ممثلو المناطق المتضررة على السلطة المحلية تمثلت أبرزها في نقل موقع المصب من مكانه الحالي و تعويضه بموقع مؤقت إلى حين انجاز مصب بلدي يستجيب للمواصفات الصحية والبيئية، وأيضا دعوة المجلس البلدي لاعتماد إستراتيجية واضحة في التعامل مع نفايات المدينة وإدارتها بالشكل الصحيح حتى لا تتبعها تكاليف بيئية وصحية باهضة يتحمل تبعاتها السكان. وقد انتهى الاجتماع بالاتفاق على نقاط عدة تم اعتبارها حلولا بديلة حسب ما أفادنا به رئيس لجنة النظافة ببلدية الرديف علي بن عمر، وذلك إلى حين البدء في تنفيذ استراتيجيات جديدة وجذرية من شأنها أن تحد من الأخطار المحدقة بصحة سكان المدينة وبيئتهم. وتمحورت أهم هذه النقاط في إصدار البلدية قرارا يقضي بتحجير عمل “البرباشة” وتوفير أعوان قارين لحراسة ومراقبة المصب وأيضا إحداث لجنة مشتركة بين شركة نقل المواد المنجمية وشركة فسفاط قفصة وممثلي الأحياء المتضررة في إطار تفعيل قانون المسؤولية المجتمعية للشركة لتوفير آليات لمتابعة وتنظيم المصب العشوائي. وهذا ما تم اعتباره حلولا مؤقتة تقلص من حجم الضرر الحاصل إلى حين تهيئة مكان يستجيب للشروط الصحية والبيئية مما ينهي معاناة السكان بشكل دائم.

محضر جلسة العمل بتاريخ 09 نوفمبر 2020

 

اقتراب انفراج الأزمة

نائبة رئيس البلدية زازية ديناري أكدت في لقاء جمعنا بها يوم 16 نوفمبر 2020 عن انطلاق مشروع بناء “مركز لتحويل النفايات” ببلدية الرديف في الأشهر القادمة تحت إشراف وزارة التجهيز والإسكان والذي سيتم انجازه في مكان المصب الحالي مع إخضاعه للمراقبة المستمرة وللمعايير الصحية والبيئية المنصوص عليها. وطالبت محدثتنا وزارة الإشراف بضرورة الإسراع في تفعيل المشاريع المبرمجة وإتاحة الإمكانيات المادية واللوجستية لتسهيل العمل ولوضع حد للضرر القائم منذ سنوات. وسيخضع المصب إلى المراقبة البلدية دون تدخل من الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التي أكد ممثلها الجهوي “جمال التاجوري” في اتصال هاتفي جمعنا قائلا “أن الوكالة لا تستطيع التدخل في الوقت الحالي بإعتبار أن المصب يتبع البلدية، وأضاف أن بلدية الرديف على غرار باقي مدن الحوض المنجمي تم إعداد دراسة بشأنها لإحداث مركز تجميع نفايات سينجز في موفى سنة 2021” .

  

بطاقة وصفية للمصب المراقب المزمع بناؤه ببلدية الرديف

لطالما كان قطاع المخلفات الحضرية ممثلاً لواحدة من أكثر الأزمات تعقيداً. رغم أن التحديات المتعلقة به تمس جوانب أساسية من حياتنا اليومية ألا وهي الصحة والمحيط. كما أن التعامل مع القمامة وإدارة منظومة تجميعها وفرزها والتخلص الآمن منها أو إعادة تدويرها، هي ملفات لم تكن في خانة الأولويات، إذ تأخر طرحها كثيرا في البلاد التونسية عامة وفي مدينة الرديف بالتحديد. ومع تزايد أطنان النفايات الملقاة يوميا على مشارف المدينة أصبح تأثيرها السلبي واضحا ومقلقا، كما أصبح الإسراع في تهيئة مصب مراقب ضرورة ملحة يقتضيها الوضع البيئي و الصحي عامة.  وجدير بالذكر أن التغاضي الحكومي عن هذا الإشكال قد يكون مكلفا للغاية سيما ما تشهده المدينة من انتشار ملفت للنظر لجائحة كورونا. ويعتبر المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية فرع الحوض المنجمي انه من غير المعقول أن تفتقد مدينة يبلغ عدد سكانها 28 ألف ساكن إلى مصب مراقب تتوفر فيه جميع المعايير ويدعو وزارة البيئة إلى التسريع بإحداث مركز التجميع الذي طال انتظاره وهو حل جذري للقطع نهائيا مع التلوث سيما وأن المنطقة ترزخ منذ عقود تحت وطأة أنشطة شركة فسفاط قفصة الملوثة والتي لم تفعّل إلى حد الآن أية آلية عملية من أجل التخلص الأمن من نفاياتها. ويهم المنتدى في هذا الإطار أن يدعو السلطة المحلية إلى إخراج ملف النفايات بالرديف من المربع النظري إلى التطبيق الفعلي على أرض الواقع حتى لا يتواصل تدهور الوضع البيئي بالمدينة.

[1] https://www.aljazeera.net/news/healthmedicine/2015/8/24

[2] http://www.legislation.tn/sites/default/files/fraction-journal-officiel/2000/2000A/086/TA200023393.pdf

[3] http://www.legislation.tn/sites/default/files/fraction-journal-officiel/2001/2001A/010/TA2001141.pdf

[4] https://legal.un.org/avl/pdf/ha/bcctmhwd/bcctmhwd_ph_a.pdf

[5] http://www.legislation.tn/sites/default/files/journal-officiel/1992/1992A/Ja00992.pdf

[6] https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/7096/Consolidated_BC95_Ara.pdf

[7] https://www.alaraby.co.uk

https://www.aljazeera.net/news/healthmedicine/2015/8/24/

[8] https://www.aljazeera.net/news/healthmedicine/2015/8/24