معتمديات قفصه المنجمية: الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية عائقا أمام ضمان الحق في العيش الكريم!

0
4614

معتمديات قفصه المنجمية:

الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية عائقا أمام ضمان الحق في العيش الكريم

رحاب مبروكي

“لا يمكن إحلال السلام من دون تحقيق التنمية ولا تحقيق التنمية من دون إحلال السلام ولا إحلال السلام ولا تحقيق التنمية من دون حقوق الإنسان”[1]، هكذا كان شعار القمة العالمية للعام 2005 التي تطرقت لحقوق الإنسان كجزء لا يتجزأ من الكرامة البشرية، وهي التي غابت بشكل ملفت للنظر في بعض جهات الجمهورية التونسية، ومن بينها ولاية قفصه بمعتمدياتها المنجمية. فالبطالة وسوء إدارة المخططات التشغيلية وما رافقها من احتقان اجتماعي وتواصل الاحتجاجات والاعتصام ليست الوحيدة ما يهدد أمن هذه المجتمعات المحلية، حيث تشهد  معتمديات الرديف وأم العرائس كغيرها من المدن المنجمية نقصا كبيرا في الموارد المتاحة التي تسهل حسن التمتع بالحقوق الأساسية، مثل الصحة  والنقل وهي من الحقوق التي وقع تهميشها لعقود متتالية نتيجة السياسات الاقصائية المتبعة في حق هذه المناطق، وفشل المخططات الحكومية في تحقيق التوازن المطلوب والعادل على مستوى الاهتمام بالبنى التحتية بالمؤسسات الإستشفائية والقطاعات الحيوية بشكل أوسع.

ويكشف هذا التقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تأثير اهتراء البنية التحتية لمختلف القطاعات على الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها سكان هاته المناطق وتصدع أبرز الحقوق الحياتية في جزء من الجمهورية عبر انعدام مقومات العيش الكريم.

تصدع لأبرز الحقوق الحياتية: الحق في الصحة نموذجا

“العاملون بالمستشفى المحلي بالرديف (ولاية قفصه الجنوب الغربي لتونس) لم يقدموا لي أي معطى سوى أن الأدوات الطبية والأدوية التي أحتاجها لإتمام عملية العلاج غير متواجدة هنا، وأنه يجب عليا التوجه الى المستشفى الجهوي بقفصه أو إحدى المستشفيات الجامعية للعلاج”. بصوت مبحوح وملامح تعكس حالة من الغبن والقهر لم تأبى أن تنتهي، تحدثت لنا العمة مبروكة لتسرد لنا تفاصيل معاناتها اليومية في التنقل بين معتمدية الرديف ومركز الولاية بقفصه من أجل تلقي العلاج والإقامة بالمستشفى بعد اكتشافها مؤخرا إصابتها بمرض السرطان. وتسترسل حديثها قائلة: “خلال شهر سبتمبر 2020 أحسست ببعض الأوجاع وبعد إجراء التحاليل اللازمة تم اكتشاف إصابتي بمرض السرطان مما استوجب عليا التوجه الى المستشفى الجهوي بقفصه بسبب غياب قسم الأمراض السرطانية وكذلك قسم الأشعة بمستشفى الرديف وعدم توفر الإطار الطبي المشرف على ذلك”. وتضيف “لم يكن سهلا عليا التنقل عبر النقل العمومي لتعطل الحافلة في الكثير من الأحيان وعدم قدرتي على تحمل السفر بسبب حالتي الصحية لذلك أضطر الى أن أستأجر سيارة على حسابي الخاص”.

 حالة العمة مبروكة، المرأة المنجمية، ذات الستين ربيعا، ليست الوحيدة هنا، بل العشرات غيرها ممن يعانون مختلف الأمراض ولا يجدون الوسائل التي تتيح لهم تلقي العلاج المجاني، لذلك يضطرون الى مكابدة أعباء السفر والتنقل للمدن والولايات الأخرى من أجل التمتع بحقهم  في الصحة، الذي نصص عليه الدستور التونسي في فصله 38 “الصحة حق لكل إنسان، تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية.”[2] وهذا ما يستحيل في أغلب الأحيان بسبب هشاشة الخدمات المقدمة في قطاع الصحة والنقل وسوء البنية التحتية، مما يعكس تهميش  أبرز الحقوق الحياتية وأكثرها أهمية ألا وهو الحق في العيش الكريم الذي ينضوي بدوره على مجموعة من الحقوق. وقد جاءت جائحة كوفيد 19 لتثبت هذه الحقيقة جليا حيث كانت بمثابة جرس إنذار بلّغ عن الهشاشة الاقتصادية التي ولّدها الإهمال والتفكير قصير الأجل من طرف الحكومات المتعاقبة، فبرزت الفجوة الواسعة بين التكريس التشريعي لأهم الحقوق الأساسية وبين التطبيق الفعلي لما جاء في القوانين، وهي التي عمّقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيش على وقعها هذه المناطق. ويتواصل ذلك رغم تزايد اهتمام الدول العام تلو الآخر بضمان الحق في العيش الكريم عبر ترسيخه في العديد من النصوص القانونية لأغلب بلدان العالم ووضع صكوك عالمية واتفاقيات وبرتوكولات فضلا عن القانون الدولي الضامن لهاته الحقوق.

مستشفى الرديف: غياب بعض الأقسام ونقص أطباء الاختصاص

أثناء الجائحة تم تسجيل نقص كبير في عدد الأعوان المكلفين بالسهر على المرضى بالمستشفى المحلي بالرديف، إضافة الى نقص مكثفات الأوكسجين وغيرها من المعدات الطبية. وهذا ما أشار إليه رئيس قسم الأشعة بمستشفى الرديف الهادي بودارة في لقاء جمعنا به الأربعاء 05 جانفي 2022 ، حيث أكد  نقص عديد الأقسام الحيوية بالمستشفى مثل قسم الأشعة وقسم الأطفال وقسم الجراحة وقسم التوليد وكذلك عدم توفر أطباء الإنعاش إضافة الى انعدام مخابر تحليل السكري والدم والقلب، كل هذا يقع في مدينة يقطنها ما يقارب  27 ألف ساكن وتبعد ما يقارب 50 كيلومترا عن مركز الولاية.  ورغم تشييد هذه الأقسام منذ سنوات إلا أن تزويدها بالمعدات الطبية اللازمة وتوفير أطباء اختصاص بها بقي رهين الانتظار والوعود الزائفة من الوزارة خاصة في الجراحة والتوليد والأطفال. وهذا ما أثر على جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، فأثناء الموجات الوبائية تم تسجيل نقص في أطباء الإنعاش، إضافة الى إشكالية الأوكسجين حيث تم تسجيل نقص في التزود بهذه المادة، ذلك أن مستحقات المستشفى تصل من 40 الى 45 قارورة أوكسيجين في اليوم وفي المقابل لا يتم التزود إلا ب 10 قارورات في اليوم الواحد، مما اضطرهم الى طلب نقل المرضى الذين ساءت صحتهم الى المستشفى الجهوي بقفصه الذي بدوره فاق طاقة استيعابه. أما بالنسبة لمرضى السرطان فيتم استقبال الحالات الاستعجالية وبسبب غياب العلاج بالأشعة يتم توجيههم الى ولاية صفاقس أو إلى المستشفى الجهوي بقفصه من أجل تلقي العلاج الكيميائي. ويتواصل هذا الأمر رغم رصد ميزانية تقدر ب 02 مليارات و200 مليون كهبة من البنك الكويتي من أجل إعادة تهيئة المستشفى.

 

نقص المعدات وغياب الإطار الطبي في بعض الأقسام بمستشفى الرديف

 ويشير رضوان الطبابي كاتب عام النقابة الأساسية للصحة بمستشفى الرديف بأن انعدام الخدمات المقدمة في التوليد والجراحة خلق سوء تقديم العلاج وأفقد الناس حقهم الإنساني والدستوري في الصحة كما فاقم من وتيرة العنف على الإطار الطبي وشبه الطبي من طرف المواطن الذي وجد نفسه ضحية خيارات سياسية مغلوطة وقائمة على المركزية.

تهميش قطاع النقل

القطاع الصحي ليس الوحيد الذي يشكو من النقص وعدم قدرة المواطنين على التمتع بحقوقهم المكفولة دستوريا، كذلك النقل، وهو من الخدمات التي تشهد تهميشا إمتد على مدى عقود، ورغم تنفيذ العديد من الوقفات الاحتجاجية ومطالب المواطنين لتحسين جودة الخدمات المقدمة في هذا المجال، إلا أن تواصل سياسة المماطلة وتجاهل المطالب الاجتماعية استمرت لتعكس التعثر الحكومي في إطلاق عمل مبتكر وعاجل ومخططات إستراتيجية في المجال التنموي تضع حدا لحالة التهميش التي مست جميع القطاعات.

الحافلات التي تؤمن سفرات المواطنين بين المعتمديات المنجمية

 

عائدة، 34 عاما وأم لطفلين، تقطن بمدينة أم العرائس وتشتغل بمعتمدية الرديف المجاورة، تنقلها اليومي بين المدينتين جعلها تقبع لساعات في انتظار وسيلة نقل تمكنها من العودة الى بيتها بعد يوم شاق من العمل كعاملة نظافة بإحدى الفروع البنكية. تقول:”أبدأ عملي على الساعة السابعة صباحا، وبسبب عدم وجود حافلات بين مدينتي أم العرائس والرديف أجدني أضطر الى انتظار الحافلة القادمة من مركز الولاية قفصه، لكن تعطلها بسبب قدمها وعدم خضوعها للصيانة يجعلني أتغيب أحيانا مما قد يؤثر على وظيفتي””.  وتطالب عائدة كغيرها من المواطنين بتوفير وسيلة نقل عمومي تتيح التنقل بين المعتمديتين وتوفر عليهم متاعب الانتظار أو استئجار السيارات الخاصة التي تشتغل بطريقة غير مشروعة ودون ترخيص قانوني بزيادة في التعريفة مستغلين ظروف انعدام وسائل النقل لتأمين نقل المسافرين.

وتوفر شركة النقل القوافل بقفصه حافلة وحيدة تؤمن سفرتين في اليوم، تنطلق من مركز الولاية على الساعة السادسة والنصف صباحا لتصل الى مدينة الرديف عند الساعة الثامنة والنصف مرورا معتمديتي المتلوي وأم العرائس ثم تعود عند الواحدة بعد الزوال، أما بقية الأوقات فيضطر فيها الكثيرين الى الانتظار لساعات داخل محطات تغيب فيها كل أشكال التهيئة والصيانة إضافة الى غياب رئيس المحطة فيها  وإغلاق جميع المكاتب الخاصة بالإرشادات مما يضطرهم الى دفع ثمن استئجار سيارات خاصة تؤمن تنقلهم للعمل أو لقضاء حاجياتهم.

 

محطة النقل القوافل فرع أم العرائس

وتتصدر المناطق الداخلية ومن بينها معتمديات قفصه المراتب الأولى على مستوى الاحتجاج على وضع النقل العمومي المتردي، حيث نظم مواطنون من معتمدية الرديف بتأطير من منظمات المجتمع المدني وأهمها المنتدى التونسي فرع الحوض المنجمي وقفات احتجاجية تنديدا بنقص الحافلات العمومية وما تشكوه من سوء صيانة مما يسبب تعطلها في الكثير من الأحيان. ويتواصل ذلك في ظل تغاضي

الأطراف المسؤولة عن مهامها القانونية في القيام بصيانة وتجديد أسطول الحافلات وتوفير ظروف ملائمة للانتظار داخل المحطات العمومية.

 

وقفة احتجاجية للتنديد بتردي خدمات النقل

 

 

الخيارات السياسية حجر عثرة أمام تحقيق التقدم المطلوب!

نحن بحاجة اليوم الى إبرام عقد اجتماعي جديد بين الحكومات والشعوب على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، فالمفاهيم التقليدية للحقوق التي شكلتها السياسات السائدة اليوم وساهم في رسمها الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه المناطق اهتمت بشكل أساسي بتكريس الحقوق نظريا فقط، وبشكل ينفي قابليتها وإتاحتها للسكان، ذلك أن تجسيدها على أرض الواقع ظل منقوصا الى حد ما جعل سبل إتاحتها للمواطن شبه منعدمة. كما أن التفاوت الصحي الذي شهدناه خلال فترة الجائحة وتأثيره على بقية القطاعات سببه الخيارات السياسية، فقد كشف كوفيد 19 هذه التصدعات وأدى الى تفاقمها عبر العجز الكبير على استيعاب عدد المرضى بالمستشفيات وعدم القدرة على توفير الوسائل الوقائية بالمؤسسات التربوية، حتى أضحت هذه القطاعات الحياتية وجها من أوجه الظلم المسلط على أهالي المناطق الداخلية المسقطة من مخططات التنمية وبرامج الاستثمار العمومي بسبب السياسات القائمة على المصالح السياسية الضيقة  والنمو الاقتصادي محدود التعريف والتي  تركت حقوق الإنسان الأساسية  تعاني نقصًا في الموارد، مما ولد انعدام المساواة في الحصول على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية.

يفرض الالتزام باحترام الحقوق لدى الدول ضرورة توفير كافة الوسائل الضامنة لحسن وصول جميع المواطنين الى حقوقهم المكفولة قانونيا، هذا الالتزام الذي انتفى من خانة الأولويات في العمل الحكومي بالبلاد التونسية، مما يحتما على صانعي السياسة اليوم مراجعة السياسات التنموية في اغلب جهات الجمهورية والتي تعكس مدى الاهتمام بالتكريس الفعلي لأبرز الحقوق الإنسانية للمواطنين واتخاذ التدابير اللازمة التي تكفل المساواة في فرص الحصول على خدمات ذات جودة تتطابق مع ما جاء في التشريع.

[1] https://news.un.org/ar/story/2021/01/1068642

[2] https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2014.pdf?lang=ar