تقرير دورة التبادل الشبابي في نسختها الثانية
مشروع العدالة البيئية
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
الرديف 20 -21 -22 جوان 2019
فرع القيروان
إعداد التقرير: حياة العطار
لئن كانت الحقوق البيئية جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وضرورة لسلامة الإنسان وتمتعه بحقوقه الأساسية مثل الحق في الحياة، فإن الوضع البيئي الحالي يعكس انتهاكا كبيرا لحقوق وحاجيات الجيل الحالي وخطرا يهدّد مستقبل وآمال الأجيال القادمة. وما هذا الخطر إلا نتاج منوال تنموي معتمد منذ الاستقلال واستمر إلى اليوم لا يعير اي اهتمام للتأثيرات البيئية معتبرا المحيط فضاءً لاستغلال الثروات بما في ذلك الثروات المائية دون التفكير في حق الإنسان في حياة كريمة وفي بيئة سليمة مكرّسا بذلك عقلية “الشغل أهم من البيئة، الحق في الشغل قبل الحق في الحياة”. ولكن، أليس في تدمير المحيط والطبيعة فقدان لمواطن الشغل على المدى المتوسط والبعيد إضافة إلى كلفته الاجتماعية الباهضة؟ ألا يؤدي استنزاف الثروات الطبيعية والمائية إلى العطش والجفاف وبالتالي إلى انعدام الحياة والفناء؟ من هنا يأتي دور المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مشروع العدالة البيئية بالعمل على ايلاء المسألة البيئية المكانة والأهمية التي تليق بها من خلال لقاء ومرافقة ومتابعة الحركات البيئية والتعريف بمطالبها والتعبئة على أوسع نطاق للدفاع عنها وعن منظومة كاملة وبالعمل على تكريس منوال تنموي عادل متوازن صديق للبيئة انطلاقا من معاينة وتشخيص المشاكل البيئية والاخلالات المحلية والجهوية والوطنية بالاعتماد لا فقط على الخبرات والكفاءات العلمية وإنما أيضا بالعمل على التوعية والتحسيس وتعزيز الأنشطة الميدانية والاعتماد على الطاقات الشبابية المهتمة بالشأن البيئي والقادرة على إحداث وخلق التغيير سيما وأن القدرة على تغيير البيئة للأفضل أو للأسوء لا يعتبر تطورا جديدا على الإطلاق وإنما التطور الحقيقي هو البحث عن ضمان حقوق الإنسان بطرق تحمي البيئة ولا تلحق الضرر بها كما لا تحرم الإنسان من حقوقه الأساسية من خلال كفالة حقّه في الماء الصالح للشراب الذي يعتبر أساس الحياة وضمان لكرامته وصحته ولاستمراريته. في هذا الإطار تتندرج دورة التبادل الشبابي في مشروع العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بين فروعه والمركز بتنظيم من فرع الحوض المنجمي بمدينة الرديف وتحت إشراف منسقه الجهوي “رابح بن عثمان” وبمشاركة: المنسقين الجهويين لفرعي القيروان والمنستير”محمد قعلول” و”منيارة مجبري” والمكلفة بملف التغييرات المناخية بمشروع العدالة البيئيّة “ايمان الحميِّر” وشباب ناشط في فرو ع المنتدى وفي مشروع العدالة البيئيّة من فرع القيروان “حياة العطار” ومحمد علي الماجري”، ومن فرع الحوض المنجمي “هشام العابد” و”الناوي الشريطي”.
تواصلت الدورة على امتداد ثلاثة أيام (20-21-22 جوان 2019) وكانت دورة الزيارات الميدانية بامتياز، إذ منذ اليوم الأول التحق فريق المنتدى القادم من تونس والقيروان والمنستير بفريق الرديف للمشاركة في التحرك الاحتجاجي الذي نظمه أهالي قفصة ونشطاء المجتمع المدني بالجهة أمام الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه للتنديد بالانقطاع المتكرر للماء والذي تعيش على وقعه أغلب معتمديات الولاية ومدن الحوض المنجمي منذ فترة رافعين في ذلك شعارات مطالبة بالحق في الماء الصالح للشراب ومستنكرة لحرمانهم من أهم مقوّم من مقومات الحياة على غرار “قفصة تعاني العطش” و”الماء ضرورة” و”أوقفوا معاناة أهالي قفصة” و”لا للحرمان من الماء” وقد انتظم هذا التحرك بدعوة من المجتمع المدني بالجهة ومن اللجنة الجهوية للدفاع عن حق قفصة في بيئة سليمة، هذه اللجنة انبثقت عن المنتدى الجهوي الأول للعدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالرديف جمعت مختلف الفاعلين والمهتمين والمتدخلين في الشأن البيئي من نشطاء المجتمع المدني وجمعيات بيئية ليقع إطلاق حملة “عطشتونا” للتعبير عن غضب واستياء أهالي قفصة من الانقطاعات المتكررة للماء ومن العطش الذي طال مناطق عديدة على غرار برج العكارمة وحي الافران وحي القوافل وأحياء كثيرة بالرديف والمتلوي والمظيلة وقفصة المدينة.
بعد انتهاء الوقفة الاحتجاجية انتقلنا إلى مدينة المظيلة تحديدا إلى منطقة برج العكارمة وهي من أكثر المناطق التي يعاني فيها الأهالي من العطش والانقطاع المتكّرر للماء، هناك التقينا بأحد متساكني المنطقة وعضو التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية وأحد أعضاء اللجنة الجهوية للدفاع عن حق قفصة في بيئة سليمة، السيد بوبكر عكرمي، استقبلنا في بيته وحدثنا عن المعاناة اليومية التي يعيشها ويتقاسمها مع أهالي منطقته بسبب أزمة الماء التي تبلغ ذروتها في فصل الصيف فتصبح الانقطاعات يومية ولساعات طويلة، بل وجود الماء كامل اليوم مجرد حلم لا غير، يتم فتحه لساعتين فقط في اليوم ولا نظنها كافية لتخزين حاجياتهم من شرب واستحمام وطبخ وغسل وسقاية لبعض النباتات التي مازالت تقاوم في منطقة قضى فيها التلوث والعطش على كل أخضر. وأضاف محدثنا أن أزمة الماء في جهة قفصة وتحديدا في منطقة الحوض المنجمي تعود بالأساس إلى نشاط شركة فسفاط قفصة التي وضعت يدها على الثروة المائية بالجهة وتتحكم فيها مقابل فراغ سلطوي وإداري وغياب كلي لدور الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه في المنطقة. كما أشار بوبكر في حديثه إلى أن الحياة بمدينة المظيلة وبقية مدن الحوض المنجمي باتت صعبة بسبب العطش من جهة والتلوث والروائح الكريهة والانبعاثات الغازية والغبار من جهة أخرى بسبب نشاط الفسفاط والمجمع الكيميائي والأضرار الفادحة التي لحقت القطاع الفلاحي وخاصة الواحات والأشجار المثمرة التي نخرتها الأمراض إضافة إلى تلوث المائدة المائية وتراجع جودة مياه الشرب الشيء الذي زاد من معاناة أهالي المنطقة.
وتأكيدا لقوله اصطحبنا بوبكر إلى إحدى القرى ليست بالبعيدة عن مقر سكناه هجرها أهلها ولم يبقى فيها سوى آثار بيوت سقطت جراء نشاط منجم فسفاط، منطقة قضى فيها المنجم على كل مظاهر الحياة فباتت موحشة وكأنها تخبرنا بمستقبل مناطق أخرى إن لم يتم إنقاذها.
تركنا بوبكر في قريته بعد أن تأكدنا من خلال حوارنا معه أن هذه المناطق وغيرها التي ظلمها منوال التنمية الحالي وزاد في تهميشها وانتهك حقوقها وأهدر ثرواتها فان بها شباب واعٍ واعد فاعل وقادر على التغيير، مصمم على افتكاك حقوقه بمزيد من النضال والوعي والمسؤولية.
وفي طريقنا إلى مدينة الرديف مرورا بالمتلوي وأم العرايس، مدن الحوض المنجمي، مدن الثروات الباطنية التي تدرّ ملايين المليارات ولا ينوبها إلا الغبار والتلوث والأمراض وفواضل الفسفاط التي تراكمت هنا وهناك فكونت جبالا تلاصقت فغيرت المشهد الطبيعي للجهة وخلقت مشهدا آخر لا يوحي بأي مظهر من مظاهر الحياة.
ولزائر تلك المناطق أن يلاحظ أن الإنسان ليس المتضرّر الوحيد من التلوث بل حتى الأرض تعاني والنبات يعاني والحيوان يعاني. ولعلّ هذه الجِمَالَ تحدثنا في صمت عن حجم معاناتها من جراء التلوث من خلال طبقات الغبار السوداء التي تكونت فوق ظهورها ونوعية المياه التي تشرب منها.
هنا استنتجنا أن أزمة العطش في منطقة الحوض المنجمي تعود بالأساس إلى نشاط هذه المغاسل وأن شركة فسفاط قفصة قد وضعت يدها على الثروة المائية بالمنطقة فامتلكتها واستنزفتها ولوثتها وأصبح وصول قطرة الماء للمواطن رهين تدخلها. وفي حديثنا مع أحد العمال بالمغسلة أفادنا هذا الأخير بأنهم يوقفون يوميا عملية الغسل لساعتين أو أكثر لضخ الماء وتزويد المواطنين في مساكنهم. هذا إن دلّ على شيء فهو يدل على قوّة ونفوذ شركة فسفاط قفصة وامتلاكها للموارد المائية بالمنطقة الذي يقابله ضعف الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه سواء من ناحية الآبار التابعة لها أو من ناحية شبكاتها المهترئة وتجهيزاتها الضعيفة أو حتى من ناحية قراراتها وسلطتها جهويا ومحليا وحتى مركزيا.
ذكرت منذ بداية التقرير أن دورة التبادل الشبابي لهذه السنة هي دورة الزيارات الميدانية بامتياز وقد كان اختيارا موفقا لما حظينا به من فائدة معرفية واكتشافات من خلال الاطلاع عن قرب على مشاكل جهة قفصة عموما ومدن الحوض المنجمي خصوصا، فمن خلال زيارة مقاطع استخراج الفسفاط والاطلاع على مراحل غسله وتبعات هاتين العمليتين وبالحديث مع بعض المواطنين والاستماع لشهاداتهم تكوّنت لنا صورة واضحة المعالم عن حجم المعاناة التي يتقاسمها الإنسان مع الأرض والنبات والحيوان في تلك الربوع.
وللوقوف على حجم الأضرار التي ألحقتها التأثيرات الكيميائية والغبار والتلوث الناتج عن عملية استخراج ونقل الفسفاط على القطاع الفلاحي بمدن الحوض المنجمي التقينا بأحد المواطنين، هو فلاح أصيل منطقة “تبديت” التابعة لمدينة الرديف، يملك قطعة مجاورة لأحد فروع الشركة “الكبانية” فحدثنا عن معاناته ومعاناة فلاحي المنطقة وأهاليها من جراء الغبار الناجم عن عملية حفر واستخراج الفسفاط وتضرّر محاصيلهم الزراعية وحجم الخسارات التي يتكبدونها سنويا من موسم إلى آخر إضافة إلى تضرّر عديد الأنواع من الأشجار وانقطاع إنتاجهم لأنواع كثيرة من الثمار مشيرا إلى غياب دور الدولة في مراقبة نشاط “الكبانية” ومدى تطبيقها للقوانين التي تحمي البيئة والقوانين التي تفرض على الشركة جبر الضرر في حال حصوله إلى جانب غياب الهياكل والمؤسسات والمنظمات التي من شأنها أن تحمي الفلاح وتدافع عنه كاتحاد الفلاحين وغيره. إذ رغم حجم الكارثة التي ألحقتها الشركة بالمنطقة فان الرقابة معدومة، على حد تعبيره، بل حتى عندما اجتمع الفلاحون والتجئوا للقضاء طمعا في هذه المؤسسة لإنصافهم بقيت قضاياهم في رفوف المحاكم ولم ينالوا غير بعض التعويضات والوعود نظرا لضعف إمكانياتهم أمام قوة “الكبانية” لتستمر الشركة في نشاطها غير آبهة بصيحات هؤلاء المواطنين.
كما أضاف محدثنا أن آفة التلوث أصبحت هاجس المواطن خاصة مع تزايد حالات الإصابة بالسرطانات وتسجيل عديد الوفايات جراء هذا المرض الخبيث الناجم عن تلوث وتسمم الهواء والماء والغذاء كالخضر والغلال زد على ذلك ضعف إمكانيات المستشفيات المحلية وتردي الوضع الصحي بالجهة ونقص الموارد البشرية في المستشفيات والمستوصفات (مستوصف تبديت مغلق وبه ممرض وحيد).
وفي ختام لقائنا به أكد محدثنا أن أهالي هذه المنطقة وبقية مناطق الحوض المنجمي واعون جدا بخطورة الوضع ومتخوّفون جدا من تبعاته في حال تواصل صمت الدولة وغياب السلطات المعنية وعجزها عن التدخل لإيقاف هذه الكارثة وأن على الدولة التركيز على المشاكل الحقيقية لهذه الجهات المحرومة إضافة اللى ضرورة الاقتراب أكثر من مشاكل متساكنيها وإيجاد حلول عاجلة من ذلك تفعيل جهاز رقابي من شأنه أن يضمن المتابعة والمحاسبة في كل ما يتعلق بالأضرار بالبيئة والمحيط للحد من نسب التلوث وعواقبه.
ان أكثر ما شد انتباهي في حوارنا مع هؤلاء المواطنون سواء بخصوص مشكل التلوث أو مشكل العطش هي درجة الوعي البيئي والحس المواطني لديهم إذ رغم شدة المعاناة وحجم الخسائر ورغم التهميش المنتهج والممنهج ضد هذه المناطق منذ الاستقلال إلى غاية اليوم فانك تجد نفسك أمام أناس واعون جيدا بما لهم وما عليهم ويقدمون لنا دروسا في النضال والعزيمة والوطنية بل حتى تحركاتهم واحتجاجاتهم تعكس وعيا بأهمية القضايا البيئية رغم أولوية الهاجس الاقتصادي والاجتماعي وإيمانهم بضرورة الضغط على السلطات المعنية من أجل فرض الحق في بيئة سليمة والضغط أكثر من اجل إيجاد حلول وبدائل لتحقيق معادلة توازن بين الحق في الشغل والحق في الحياة. هذا ليس بالغريب عن أهالي الرديف ومدن الحوض المنجمي أيقونة النضال ومهد الحراك الاجتماعي في تونس.
معادلة بدت صعبة على الحكومة التي تجد نفسها بين المحافظة على الاستثمار والإنتاج وتحقيق الثروة والمحافظة على مواطن الشغل وبين القضاء على التلوث، بينما يعتبرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ممكنة نظرا لأن توفير مواطن الشغل لا يتضارب مع حماية المحيط بل بالعكس، تدمير المحيط يؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى فقدان مواطن الشغل إضافة إلى كلفته الاجتماعية الباهضة مستندا في ذلك على ما جاء به الدستور التونسي في فصله الـــ45 عندما نص على أن “تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي”.
هذا عموما ما جاء في الزيارات الميدانية وما خلصنا إليه من استنتاجات ومعلومات أما بخصوص الاجتماعات واللقاءات التي مثلت جزءا لا يقل أهمية في برنامج الدورة فقد بدأت في اليوم الثاني (21 جوان) بلقاء جمعنا بالسيد طارق الحلايمي، رئيس فرع المنتدى بالحوض المنجمي، كان اللقاء عبارة عن ورشة مصغّرة حضرها المنسق الوطني لمشروع العدالة البيئية والمنسقين الجهويين وكل المشاركين في الدورة من مركز المنتدى وفروعه، تم خلال الجزء الأول تبادل المعلومات والمعطيات بخصوص إشكاليات الماء والعطش والإشكاليات البيئية في القيروان وقفصه ونقاط التشابه والاختلاف بين الجهتين وتقييم عمل فروع المنتدى في مشروع العدالة البيئية من حيث النجاحات والإخفاقات وأهم المعيقات التي تعترضنا في توحيد الحركات الاجتماعية البيئية والدفع نحو تحقيق مطالبها وحل اشكالياتها ومدى تفاعل الإدارات والهياكل المعنية مع مطالب المواطنين على المستوى الجهوي والمركزي. كما كانت لنا فرصة للاستماع إلى السيد طارق الحلايمي الذي حدثنا عن أهم أحداث انتفاضة الحوض المنجمي التي مثلت أروع ملاحم نضال الشعب التونسي من أجل العدالة والمساواة وضد التهميش والتفقير والفساد ولكن رغم مرور أكثر من عقد من الزمن لا تزال المنطقة تردّد نفس الشعارات وترفع نفس المطالب.. سنوات عدة مرت والوضع على حاله أن لم نقل زاد سوءا.
بعد انتهاء الورشة تم عرض فيلم وثائقي قصير من انجاز الشاب “علي قداش” أحد أبناء الرديف، فيلم يصور أزمة العطش في الرديف وانعكاساتها على صحة المواطن وعلى عاداته الاستهلاكية، ففي سبيل توفير قطرة الماء ينتهج المواطن بالرديف طرق ووسائل غير صحية ومسبّبة لعديد الأمراض كهشاشة العظام وأمراض الجهاز الهضمي وتشوهات الأسنان وربما أيضا السرطانات.
ترك لنا هذا الفيلم في أذهاننا عديد التساؤلات حول مدى حضور الدولة والمؤسسات المعنية وهياكل الرقابة الصحية في مثل هذه المناطق. وهل أن الأزمة بجميع أبعادها هي فقط نتاج تلوث وسوء تصرف في الموارد المائيّة وضعف إمكانيات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه أم أن للمواطن أيضا دور في زيادة تعمق الأزمة من خلال سلوكاته وقلة وعيه بمخاطر هذه المياه، أو ربما يأسه وإحباطه وقلة حيلته هي التي دفعته إلى اللجوء إلى اقتناء مياه تروي عطشه ولا يهم ان كانت ستضر بصحته.
هذا أيضا دفعنا إلى تساؤل آخر وهو إن كان المواطن في الرديف ومدن الحوض المنجمي وقفصة عموما والقيروان بأريافها ومعتمدياتها ومدن الشمال الغربي والجنوب وجل مناطق الجمهورية يعاني العطش بنسب متقاربة رغم اختلاف منظومات التزود وخصوصيات كل منطقة ورغم ثراء عديد المناطق بالموارد المائية والسدود فهل لهذه الدرجة أصبح الحق في الماء صعب المنال رغم دستوريته ورغم أهميته كحق أساسي ومكوّن من مكونات الحياة؟
كل هذه النقاط وغيرها تدارسناها في الورشة المفتوحة التي انتظمت في اليوم الثالث والأخير من دورة التبادل الشبابي بمقر فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بحضور كل أفراد مشروع العدالة البيئية من منسقين ومتطوعين، رئيس فرع المنتدى بالحوض المنجمي، أعضاء جمعية نوماد 08، المنسق الوطني لمرصد المياه “علاء المرزوقي”، السيدة أسماء العابد عون مراقبة حفظ الصحة بالرديف ومجموعة من ممثلي الجمعيات البيئية بالمنطقة.
بعد ذلك قدمت منيارة مجبري منسقة مشروع العدالة البيئية بالقيروان أرقاما وإحصائيات حول الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالحق في الماء التي رصدها فرع المنتدى في الفترة الأخيرة والتي تتناقض مع ثراء الموارد المائية بالجهة. كما تحدثت عن وجود منظومة مائية معتمدة في القيروان بالتوازي مع الصوناد وهي منظومة الجمعيات المائية التي مثلت إشكالا كبيرا من حيث قدرتها على تغطية حاجيات المواطن في الأرياف والمعتمديات وتراكم مشاكلها الهيكلية والمالية وفساد إدارة عديد منها مما أدى إلى عجزها على مواصلة دورها في توفير الماء لمنظوريها وبالتالي توقف نشاطها وهو ما دفع بالعديد من المواطنين في الأرياف إلى الاحتجاج والتعبير عن رفضهم لهذه المنظومة والمطالبة بحلول جذرية لمشكل العطش مثل اقتراح “صوناد ريفي”.
وهنا أشارت منيارة مجبري إلى الدور الذي لعبه الفرع في إطار مشروع العدالة البيئيّة منذ انطلاقه في مساندة وتأطير الحركات الاحتجاجية في مناسبات عديدة وفي تبليغ أصوات المواطنين سواء من خلال التوثيق والإعلام والنشر أو من خلال التنسيق والاتصال بالهياكل المعنية والإدارات الجهويّة والمركزية لإيجاد حلول وبدائل وتقديم مقترحات من أجل ضمان حق المواطن في الماء.
أما علاء المرزوقي منسق المرصد التونسي للمياه فقد تحدث عن الدور الذي يقوم به المرصد في ظل غياب الجدية والإرادة سواء من قبل الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه أو وزارة الفلاحة أو كل الهياكل المعنية بمشكل الماء والمتدخلة فيه وفشل سياسات المنوال التنموي الحالي، ومن خلال رصد التحركات والاحتجاجات الاجتماعية والحركات المائية الناشئة فان المرصد يدعم هذه الحركات ويساند كل الناشطين فيها من أجل حق مكفول بموجب الدستور وكل المواثيق الدولية كما عمل على تكوين النشطاء والإحاطة بهم من خلال الدورات التكوينية التي نظمها في عديد الولايات لتوعيتهم وتأطيرهم سواء من الناحية الحقوقية أو القانونية وسبل التقاضي مؤكدا على أهمية الدور المنوط بمنظمات المجتمع المدني على غرار المرصد والمنتدى وكل المنظمات والجمعيات في الدفاع عن حقوق المواطن وحقوق الفئات المهمشة والمستضعفة وحقوق الأجيال القادمة وضرورة تشريك المجتمع المدني في بلورة رؤية لمستقبل الماء في تونس والبحث في سبل الحد من خطورة الوضع وتفاقم الأزمة.
أما المداخلة الأخيرة فكانت للسيدة “أسماء العابد”، عون حفظ الصحة بالرديف، التي حدثتنا عن دور هياكل المراقبة الصحية في تحديد نوعية وجودة المياه ومدى خطورتها على صحة مستهلكيها خاصة المياه التي يقع اقتناءها من قبل المواطن من نقاط بيع وتصفية لا تخضع لأدنى مقاييس الجودة بل انها تتسبب في أمراض عديدة وخطيرة ولكن رغم ذلك فان المواطن يقبل على استهلاكها مرغما بسبب عجز الصوناد على تغطية حاجياته والانقطاعات التي تتواصل أحيانا لأيام.
معادلة صعبة فُرضت على أهالي الرديف فإما العطش وإما الإصابة بالأمراض، وفي كلا الحالتين فان خطر المرض قائم وجائز لأن الماء في هذه الجهات ملوّث بسبب نشاط “الكبانية” والمجمع الكيميائي.
أما الجزء الثاني من الورشة فقد احتوى على نقاش حول نفس الإشكاليات وحول دورنا كمنظمة مجتمع مدني لنا من الوعي الحقوقي والالتزام ما يجعلنا ندافع بكل الإمكانيات المتاحة من أجل تحسين الوضع في بلادنا وتوعية كل الأطراف بما في ذلك الهياكل الرسمية والإدارات التي لازالت تشكو نقصا كبيرا في الوعي الحقوقي لدى الكثير من ممثليها إلى جانب ضعف بعض الإدارات خاصة في المناطق الداخلية من ناحية الإمكانيات اللوجستية والقدرة على اتخاذ القرارات التي وان توفرت الإرادة المحلية والجهوية فان القرار مركزي بالأساس. كذلك تطرقنا في النقاش إلى أهمية الدورات التكوينية والاستناد إلى الخبرات والكفاءات العلمية لإضافة مزيد من الحرفيّة على أبحاثنا وأعمالنا إضافة إلى أهمية الزيارات الميدانية مزيد فهم الإشكاليات والاقتراب أكثر من هموم ومشاغل المواطن.
وبهذا نكون أكملنا دورة التبادل الشبابي لهذه السنة في مدينة الرديف وفي ضيافة فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالحوض المنجمي، دورة لا يمكن أن نقول عنها سوى أنها كانت ناجحة بكل المقاييس ثريّة من حيث التنقلات والزيارات التي قمنا بها وأيضا من حيث المعلومات التي اكتسبناها من خلال احتكاكنا بالمواطنين والاستماع إلى مشاغلهم وهمومهم بل حتى اختيار تاريخ الدورة كان مناسبا وفيه دلالة رمزية لأن الحديث عن التلوث والعطش في فصل الصيف وفي درجات حرارة تفوق الـــ40 درجة ليس نفسه في بقية فصول السنة كما أن مجرد الحديث عن معاناة المواطن في ظرف ما يكون اصدق حين تعيشها وتتقاسمها معهم ولو لفترة قصيرة، هنا يكون الإحساس بالقضية أعمق والعزيمة على مزيد العمل والسعي إلى التغيير بما أتيح من إمكانيات أقوى لأن المشكل، وان اختلفت درجاته، فهو واحد والهاجس واحد والهدف واحد.
ولمعرفة ما إذا كان هذا نفس الانطباع عند بقية المشاركين سألنا محمد علي ماجري أحد المتطوعين في فرع القيروان والحاضرين في الدورة عن تقييمه فكان هذا جوابه: ” كانت تجربة رائعة حيث تمكنا من بلوغ الأهداف المنشودة من خلال تناقل الخبرات والتجارب وتدارسنا مشاكل الجهة والمتمثلة في الانقطاع الدائم للماء من جهة والعائد بالأساس إلى عدم وجود عدالة في توزيع الموارد المائية حيث تسيطر شركة SPG على موارد الجهة وتقوم باستعمال كميات هائلة لغسل الفسفاط في حين يعاني السكان العطش إلى جانب مشكل التلوث الذي تتسبب فيه الشركة والأضرار الصحية والفلاحية والبيئية. وقد وقعت الاستفادة من خلال الحوار الذي دار داخل الورشات كما ساهمت الزيارات الميدانية في مزيد تعرفنا وفهمنا لكل هذه المشاكل..”
وأضاف محمد علي ماجري: “إجمالا كانت تجربة ناجحة مكنتنا من التعرف عن كثب على مختلف الإشكاليات ولكن يبقى عامل ضيق الوقت هو العنصر الوحيد السلبي حيث انه كان من المحبذ لو امتدت التجربة على مدة زمنية أطول لتكون الفائدة اكبر. في النهاية اريد ان اشكر شكر خاص كل من ساهم في هذا التبادل خصوصا القائمين علي فرع المنتدى بمنطقة الحوض المنجمي”.
ولأن ملف التلوث البيئي بمدن الحوض المنجمي من الملفات الحارقة التي لا يجب إهمالها وايلاؤها الأهمية اللازمة إلى جانب مشكل العطش الذي زاد من معاناة المواطن وبات شغله الشاغل ومطلبه الأول والأساسي لارتباطه الوثيق بالحق في الحياة فان المسؤولية مشتركة ويتقاسمها عديد الأطراف كوزارة البيئة من حيث المحافظة على المحيط والقضاء على التلوث إضافة إلى وزارة الفلاحة من حيث الحفاظ على الموارد الفلاحية والمائية والحرص على التوزيع العادل للثروة المائية إلى جانب وزارة الصحة من خلال المراقبة والمتابعة وتحسين الخدمات والمنشئات الصحية وكل الوزارات لأن الأدوار تتداخل وتتكامل. كما للمجتمع المدني أيضا دور كبيرا وفعال من حيث التوعية والتحسيس والمراقبة والاقتراح وتقديم الحلول والبدائل.
ختاما لا بد من الإشارة إلى أن رغم قتامة المشهد وسوء ما آلت إليه
إعداد التقرير: محمد علي الماجري
في إطار مشروع العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية كانت لي الفرصة للمشاركة في برنامج التبادل الشبابي بين فرع القيروان وفرع الحوض المنجمي بحضور شباب من تونس و فرع المنستير.
إجمالا كانت تجربة ناجحة مكنتنا من التعرف عن كثب على مختلف الإشكاليات المطروحة و سبل معالجتها في نطاق الإمكانيات المتاحة ولكن يبقى عامل ضيق الوقت هو العنصر الوحيد السلبي حيث انه كان من المحبذ لو امتدت التجربة على مدة زمنية اطول لتكون الفائدة اكثر بالإضافة الي القيام بورشات اكثر نتدارس من خلالها نواقص التحركات و الخطوات القادمة المزمع اتخاذها والقيام بعملية تشبيك بين مختلف العناصر المتداخلة في المسألة.
في النهاية اريد ان اشكر شكر خاص كل من ساهم في هذا التبادل خصوصا القائمين علي فرع المنتدى بمنطقة الحوض المنجمي.