الحقوق والحريات في دستور الرئيس : الإعلانات والضمانات الضعيفة

0
11647

الحقوق والحريات في دستور الرئيس : الإعلانات والضمانات الضعيفة

محمد أمين الجلاصي

تتعلق هذه القراءة الأولية لمشروع الدستور الجديد للجمهورية التّونسية اثر صدورالأمر الرئاسي عدد 607 لسنة 2022 مؤرخ في 8 جويلية 2022 يتعلّق بإصلاح أخطاء تسربت إلى مشروع الدستور المنشور بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 578 لسنة 2022 المؤرخ في 30 جوان 2022 المتعلّق بنشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التّونسية موضوع الاستفتاء المقرر ليوم الإثنين 25 جويلية 2022. وقد قمنا في هذا الإطار بالتعليق على باب الحقوق والحريات على ضوء ما ورد في التوطئة وباب الأحكام العامة. إذ وقع التعرض للحقوق والحريات بما هي وحدة متكاملة لتقييم الإطار الذي وردت فيه بمشروع الدستور وكيفية إنفاذها من قبل السلطة القضائية.

  1. عدم استناد التوطئة على المرجعية الكونية لحقوق الإنسان

إن قراءة الدستور والتمعن في أحكامه لا تستقيم إلا إذا قمنا بتحليله بصفته وحدة معنويّة وهو ما نص عليه دستور 27 جانفي 2014 الذي أكد على أن توطئة الدستور جزء لا يتجزّأ منه وعلى أن تُفسَّر أحكام الدستور ويؤوّل بعضها البعض كوحدة منسجمة.

بقراءة التوطئة نلاحظ غياب التنصيص على كونية حقوق الإنسان وعلى مدنية الدولة وعلى علوية القانون وخاصة مبادئ تسيير الإدارة العمومية كالحياد والمساواة … والتي نصت عليها توطئة دستور 2014 وهي ضمانات تحمي الحريات الفردية من ناحية وتحدد الإطار الذي تعمل فيه مؤسسات الدولة.

إذ تغلب على التوطئة المرجعية المحافظة من ناحية والأسلوب الحماسي والملحمي المشحون بالغضب والسلبية من خلال العبارات الواردة بالتوطئة: ثائرا على الظلم والاســــتــبداد وعلى التجويع … والتنكيل … الاستيلاء   وبالآلام …  ويتصدى…

في المقابل، نلاحظ استعمال عبارة الدين الإسلامي: “نؤكّد مجددا انتماءنا للأمة العربية وحرصنا على التمسك بالأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي“وإهمال عبارة حقوق الإنسان وهذا ما قد يؤدي إلى تأثر المنظومة القانونية في المستقبل بالمرجعية الدينية نصا ومؤسسات. فهل ستصبح الشريعة مصدرا رسميا للقاعدة القانونية؟

ولذلك، نعتبر أن توطئة دستور 2014 أقرب وأضمن لوضع إطار لممارسة حقوق الإنسان ولئن اعتمدت عبارة “تعاليم الإسلام” إلا أنها أكدت على ما وصفته ب”القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية” وبذلك لم تحصر الدستور في المرجعية الدينية.

وفي هذا الإطار تطرح عديد التساؤلات: من سيؤول عبارة “الأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي” القضاة أم رجال الدين؟ هل سننتظر في المستقبل فتاوى تحدد لنا مضمون ممارسة الحريات الفردية وطريقة ممارستها؟ وهل سنطبق هذه الأبعاد على من لا ينتمون إلى الدين الإسلامي؟

إن غياب المرجعية الكونية لحقوق الإنسان لم يمنع واضع الدستور من استعمال عبارات فضفاضة وغير مفهومة مع غياب كلي لمفهوم عدم التمييز والمساواة بين الأفراد. فبالإضافة للمرجعية المحافظة، نلاحظ وجود المعجم الشعبوي بكثافة من ذلك نذكر هذه الصّياغة “الغريبة”: “ويحرص بنفسه على إنفاذها ويتصدى لكل من يتجاوزها أو يحاول الاعتداء عليها.” فهل أن إنفاذ القانون وحماية الحقوق والحريات من مهمة الأفراد/المجتمع؟  أ ليست عبارات مشحونة بالغضب والدعوة إلى العنف والتحريض عليه؟

ويتواصل استعمال العبارات الغريبة وغير المفهومة في التوطئة من ذلك عبارة “نظام دستوري” و”مجتمع القانون”: “نظام دستوري جديد يقوم لا فقط على دولة القانون بل على مجتمع القانون“. فهل أن القواعد القانونية يحددها المجتمع؟ هل ستأسس على أخلاق المجتمع؟ أم على عاداته؟ ماذا لو كانت هذه العادات لا تضمن المساواة بين المرأة والرجل؟ ماذا لو مست هذه العادات من الحقوق والحريات؟  ألم يكن من الأسلم استعمال عبارة “مجتمع ديمقراطي” أي المجتمع الذي يحترم القانون والاختلاف وينبذ العنف والكراهية والتمييز. اذ أن القواعد القانونية تتأتى من مؤسسات الدولة الدستورية وفق ضوابط قانونية وليس من المجتمع لأن المجتمع مختلف في مكوناته وأفكاره ومذاهبه.  وللتذكير فإن المجتمع الديمقراطي هو الذي يرتكز بالأساس حسب فقه قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على العناصر التالية: التعددية والتسامح والانفتاح[1]. ونخلص من خلال ما تقدّم إلى أن الغموض وسوء استعمال المفاهيم في توطئة مشروع الدستور من شأنها التأثير على ممارسة الحقوق والحريات المضمونة.

  1. ممارسة الحقوق والحريات رهين تفسير الأحكام العامة للدستور

في بداية الأمر، لا بد من التذكير أن أغلب الحقوق والحريات الواردة بالباب الثاني من دستور 2014 قد وقع إعادة نسخها في دستور 30 جوان 2022[2] بالإضافة إلى أنها لا تختلف كثيرا عن المرجعية المعتمدة في باب المبادئ العامة من الدستور نفسه.

فبين القول: الدولة راعية للدين (دستور 2014) والقول: الدولة التي تحقق مقاصد الإسلام (مشروع دستور 2022)، لم يتجاوز واضع الدستور المعيار الديني في تحديده لدور الدولة في حماية حقوق الأفراد وحرّياتهم. وما يزيد الأمر تعقيدا هو حصر المواطنة في الانتماء للدين الإسلامي. فعوض استعمال عبارتي المواطنين والمواطنات، ينص الفصل 5من مشروع الدستور على أن: “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطي،على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية“.

إنّ مفهوم “الأمة” يحيل على المسلمين أي الأفراد الذين تربطهم روابط عقائدية ويتشاركون في تأدية أركان الدين الإسلامي كأداء الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان… لذلك فهو مفهوم يرتبط بالانتماء إلى الدين الإسلامي من ناحية وبالمؤمنين من ناحية أخرى وبالتالي يمكن القول إن استعماله في باب الأحكام العامة قد يقصي التونسيين والتونسيات الذين لا يؤدون العبادات أو الذين لا ينتمون إلى الدين الإسلامي. لذلك فالسؤال المطروح: هل التمتع بالمواطنة وممارسة الحقوق والحريات مرتبط بالانتماء إلى الأمة الإسلامية؟

وبعبارة أخرى، يبدو أن الحقوق والحريات المذكورة في الباب الذي يلي الأحكام العامة هبة أو منة من الحاكم وليست بحقوق طبيعية تحمي كرامة الإنسان المتأصلة فيه فالعلاقة بين المواطنين والدولة لا ترتبط البتة بالانتماء الديني أو العرقي بل بضمان وانفاذ الحقوق الكونية المترابطة وغير القابلة للتجزئة.

ومن ناحية أخرى، إن تطبيق مبدأ عدم التمييز الوارد بالفصل 23 من مشروع دستور 2022 يصطدم بما ورد في التوطئة من خلال عبارة: “الأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي” وبالمبادئ العامة التي تحيل على: “مقاصد الاسلام الحنيف” اذ أن تفسير هذا المبدإ وتطبيقه سيكون متناقضا مع المعجم الديني. ولذلك لا بد من التذكير بأن مبدأ عدم التمييز لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات والتي نذكر من بينها الدين. إذ ورد بالتعليق العام رقم 18 للجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان بأنه على الدولة أن: “تكفل لجميع الأفراد حماية واحدة وفعالة ضد التمييز القائم على أي أساس مثل العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب.[3]” فكيف سنمنع التمييز بين الأفراد إذا كانت المرجعية دينية بحتة؟

إن تطبيق مبدأ عدم التمييز مرتبط بممارسة كل الحريات الفردية والجماعية الواردة بالباب الثاني من المشروع اذ أنه يمنع كل استثناء أو تقييد أو تفضيل ينتج عنه تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان وبممارستها. ولذلك وضعت السلطة التأسيسية فصلا يحمي ممارسة الحقوق والحريات في صورة وردت عليها قيود وهو الفصل 49 من دستور 2014. غير أن مشروع دستور 2022 قام بإعادة نسخ الفصل المذكورفي نسخة “مشوهة” لا تضمن بصفة مطلقة حماية الحقوق والحريات من أي انتهاك أو تعسف من السلطة العامة خاصة إذا وردت عليها قيود تحدّ من ممارستها في إطار سعي الدولة إلى حماية الأمة الإسلامية وتحقيق مقاصد الإسلام على حساب الحريات الفردية.

فقد ورد بالفصل 55 من مشروع الدستور: “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلاّ بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطيوبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية. ويجب ألاّ تمس هذه القيود بجوهر الحقـــوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وأن تكون مبررة بأهدافها، متناسبة مع دواعيها.”

نلاحظ، أولا،غياب التنصيص على الدولة المدنية والديمقراطية والتي تقوم على مبادئ تحمي مضمون الحقوق والحريات وتفرض على السلطات وخاصة القضاء التقيد بها في صورة حصل تجاوز من السلطة العامة. وتتمثل هذه المبادئ في: المواطنة وعلوية القانون والتي وردت بالفصل 2 من دستور 2014. فهل سيطبق القاضي “مقاصد الإسلام” ويؤخذ بعين الاعتبار الانتماء “للأمة الإسلامية” حتى يقر بدستورية القيود الواردة على الحقوق والحريات من عدمها؟

وفي هذا الإطار نذكر أنّ أغلب الدساتير العربية تستند على الشريعة ولا تضمن الحقوق نفسها  للمرأة والرجل بل وللأقليات غير المسلمة أو حتى لللادنيين  بل تضمن في قوانينها الجزائية عقوبات قاسية ضد “المرتدين”. فكيف ستؤول عبارة “مقاصد الإسلام” عندما تعمل الدولة على الحفاظ على الحرية؟ هل ستعتمد مرجعية دينية بحتة؟ أم هل ستعتمد مرجعية كونية حقوق الإنسان في ترابطها وتكاملها؟

ثانيا، ينص الفصل 55 من مشروع الدستور على أنه: “على كلّ الهيئات القضائية أن تحمي هذه الحقوق والحريات من أي انتهاك”. وردت العبارة نفسها بالفصل 49 من دستور 2014 بما يحيل على دور القضاء بكل أنواعه في إنفاذ الحقوق والحريات. لكن الإشكال المطروح في مشروع دستور 2022 هو غياب المبادئ التي سيستند عليها القاضي للقيام بهذا الدور. إذ تمثل هذه المبادئ ضمانات للمتقاضين من ناحية وسدّا منيعا ضد تجاوزات السلطة من جهة أخرى. هذا وقد نص الفصل 102 من دستور 2014 عليها من خلال التأكيد على أن: “القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات“. بيد أن هذه الأحكام غابت في مشروع الدستور مما يثير تساؤلات عديدة حول إن كان القاضي سيضمن علوية الدستور والقانون الوضعي بما فيه المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والتي صادقت عليها تونس أم سيضمن علوية “مقاصد الإسلام”؟

ثالثا، يبقى الأمل الوحيد في آخر سطر بالفصل 55: “لا يجوز لأي تنقيح أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.” فاعتماد مبدإ عدم التراجع وعدم المساس بالحقوق والحريات المكتسبة يعني أن الحقوق والحريات المكتسبة بموجب القانون أو نص آخر غير قابلة للتراجع عنها [4]. مما يعني أنه يتعين تحصين الحقوق والحريات الفردية وتعزيزها باستمرار. لكن الأمر يبقى رهين تأويل المحكمة الدستورية للنص الدستوري خاصة وأن أعضاءها يقع تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية بالإضافة إلى أن تركيبتها لا تشتمل على أساتذة القانون والمختصين في مجالات أخرى مما قد يجعل الآراء والأحكام الصادرة ذات رؤية ضيقة.  وما كما أنّ حذف إحدى الهيئات الدستورية المستقلة يؤثر أيضا على تفعيل الحقوق والحريات. ونقصد بذلك هيئة حقوق الإنسان بالرغم من صدور القانون المنظم لها وهوالقانون الأساسي عدد 51 لسنة 2018 مؤرخ في 29 أكتوبر 2018 يتعلق بهيئة حقوق الإنسان والتي تتعهد بأي مسألة تتّصل باحترام حقوق الإنسان والحريات وحمايتها وتعزيزها في كونيتها وشموليتها وترابطها وتكاملها.

إن مشروع الدستور لا يحمي الحريات الفردية ولا يحمي الحق في الاختلاف بل يؤسس لحريات مبتورة تمنح وتسلب حسب مزاج السلطة التي يمكن أن تقيدها حسب الآداب العامة ومقاصد الدين الإسلامي.

[1]انظر في هذا الموضوع: سلوى الحمروني، تمهيد عام حول الفصل 49 من الدستور، دليل القاضي الدستوري في تطبيق الفصل 49 من الدستور مدخل القاضي الدستوري لمراقبة احترام ضوابط الحد من الحقوق والحريات، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، تونس 2021.

[2]أنظر في نفس الموضوع: وحيد الفرشيشي، “قراءة في مشروع دستور 2022: المخاطر الكبرى لدستور “الزمام الأحمر” “، المفكرة القانونية، 1 جويلية 2022،

https://legal-agenda.com/

[3]التعليق العام رقم 18: عدم التمييز، صدرعن اللجنة في دورتها السابعة والثلاثون، 1989.

[4]سهيمة بن عاشور ومحمد أمين الجلاصي، قراءة قانونية من أجل المصادقة على مجلة الحقوق والحريات الفردية الملخص، الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، تونس 2020.