تهميش وانهيار المدرسة العمومية في تونس: : هل أصبحنا في مواجهة تعليم طبقي يكرّس التفاوت بين أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية ؟؟

0
9156

تهميش وانهيار المدرسة العمومية في تونس: : هل أصبحنا في مواجهة تعليم طبقي يكرّس التفاوت بين أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية ؟؟

رحاب مبروكي

 

مثلت الأسابيع الفارطة مسرحا لمناقشات ومفاوضات مكثفة حول الظروف المحيطة بالعودة المدرسية، إذ لم يمر بضعة أيام على عودة التلاميذ إلى مقاعدهم حتى استغاث العديد من الأولياء وتتالت الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بتحسين وتهيئة بعض المداس الابتدائية حتى تستجيب لأبسط المقومات التي يحتاجها التلميذ أثناء مزاولته لتعليمه، كما تداول نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي صورا تبين انهيار أسقف بعض المدارس العمومية  إضافة إلى غياب الإطار التربوي عن العديد منها والاكتظاظ في الأقسام وغياب وسائل النقل عن ألاف التلاميذ الذين يقطنون في المناطق الريفية وكذلك افتقار العديد من المؤسسات التعليمية  للماء الصالح للشرب الذي يؤدي غيابه أو تكرر انقطاعه إلى خلق وسط ملائم لسرعة انتشار الفيروس بسبب غياب وسائل الوقاية التي ترتكز على الماء، وهو ما يتعارض مع التدابير الحكومية والإجراءات الوقائية التي لا تزال جارية لمواجهة الوباء، ما دفع الأولياء في العديد من المناطق إلى مقاطعة العودة المدرسية خاصة وأن الخوف من عودة انتشار الجائحة لا يزال قائما رغم التحسن الملحوظ الذي تم رصده في الفترة المنقضية.

مدارس ابتدائية دون ماء !

في شهر أكتوبر 2020 صرح وزير التربية فتحي السلاوتي عن وجود 1415 مدرسة ابتدائية في تونس غير مرتبطة بشبكة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، مبينا أن من بين هذه المؤسسات التربوية 461 مدرسة تشهد إشكاليات واضطرابات متكررة في التزود بالماء. وفي ولاية القيروان وحدها يوجد 175 مدرسة ابتدائية لا يصلها الماء من جملة 313 مدرسة خلال السنة الدراسية 2018/2019 حسب بيان أصدره المنتدى التونسي. أرقام من المتوقع أن تكون في زيادة خاصة في ظل المشاحنات السياسية التي تمر بها البلاد خلال العشرية الأخيرة والتي أبعدت الاهتمام بالتعليم العمومي عن خانة الأولويات في عمل الحكومات المتعاقبة، ما دفع وتيرة الاحتجاج تزداد خلال العودة المدرسية لهذه السنة والتي شملت تقريبا أغلب ولايات الجمهورية لتتصدر المناطق الداخلية المراتب الأولى، حيث أقدم أهالي ‘الرياشية’ من معتمدية نصر الله التابعة لولاية القيروان بتاريخ 17 سبتمبر 2021 على تنفيذ وقفة احتجاجية تم على إثرها غلق الطريق المؤدية إلى ولاية سيدي بوزيد أمام المدرسة الابتدائية “العجاينة” من أجل المطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب بالمدرسة وإدخال تحسينات وتهيئتها إضافة إلى تحسين المسالك الفلاحية التي تؤدي إليها  لتفادي حصول حوادث تمثل خطرا على سلامة التلاميذ. ولاية القيروان ليست الوحيدة التي تشكو مشكل انقطاع الماء بالمدارس، بدورهم منع الأولياء بمعتمدية سبيطلة من ولاية القصرين  والواقعة على سفح جبل سمامة أبنائهم من الالتحاق بمقاعد الدراسة بسبب غياب الماء، أما في معتمدية تمغزة يواصل الأولياء بالمدرسة الإعدادية بتمغزة إلى حدود مطلع الشهر الجاري منع الدروس بسبب غياب الطباخ المكلف بإعداد الوجبات للتلاميذ الذي يقطنون في مناطق بعيدة إضافة إلى نقص الإطار التربوي والإداري من قيمين ومؤطرين للتلاميذ.

انخراط التلاميذ بالمدرسة الابتدائية العجاينة في احتجاجات للمطالبة بتحسين وضع المدرسة[1]

بنية تحتية متهرئة

بمنطقة الرياشية بولاية القيروان، وفي مدرسة معزولة من دون أسوار ولا حراسة يقبع التلاميذ لساعات في وضع غير امن متوقعين انهيار أسقف الأقسام بسبب اهتراء بنيتها التحتية وعدم خضوعها للصيانة والتجديد منذ بنائها. هي دلائل على حجم المخاطر المحيطة بالمدرسة العمومية وتدني جودة التعليم المقدم فيها الذي دفع التلاميذ والإطار التربوي إلى النفور منها ما من شأنه أن يؤثر على قيمتها باعتبارها  فضاء تربويا تعليميا في الآن نفسه. ولا يقتصر هذا الأمر على منطقة دون غيرها من شمال البلاد إلى جنوبها بل أمسى ظاهرة منتشرة تحتاج خطوات جادة ومعالجة فعالة لتحسين وضع المدرسة العمومية. ويتواصل هذا الأمر بعد أكثر من 03 سنوات منذ تقديم الحكومة وعودها  بتخصيص برنامج شامل لصيانة المؤسسات التربوية عبر رصد اعتمادات مالية قدرت ب500 مليون دينار[2] ستمكن من تجديد العديد من المدارس الابتدائية في إطار برنامج لتحسين قطاع التعليم، وإقرار رئاسة الجمهورية في سبتمبر 2021 بتكوين لجنة تعنى بصيانة المؤسسات التربوية وتخصيص 50 مليون دينار[3] في إطار عمل اللجنة حسب ما صرحت به مستشارة وزير التربية وجدان بن عياد لإحدى الإذاعات الخاصة.  أرقام تبقى حبرا على ورق مادامت لم تغير واقع تلاميذ مدارس الأرياف شيئا.

المدرسة الابتدائية “العجاينة”[4]

تهميش المدرسة العمومية: سياسة ممنهجة لفتح المجال نحو خوصصة التعليم

يُلزم القانون الدولي جميع الدول باستخدام كل الموارد المتاحة للوفاء بالحق الأساسي في التعليم لجميع الأطفال. لكن بعض الحكومات تستخف بالحق في التعليم أو لا تستثمر فيه بالشكل الذي يجعله يستجيب للاحتياجات الأساسية للتلميذ بما في ذلك النظافة والصحة عبر توفير الماء  والحماية عن طريق  تهيئة البنية التحتية للمدارس. هذا الانخفاض في الاستثمار في التعليم العمومي  يؤدي إلى حرمان الأطفال من أحد حقوقهم الأساسية وإبقاء الآلاف منهم خارج المدارس تماما مثلما يحدث في تونس اليوم، حيث  أدى الوضع الذي تعيشه المدرسة العمومية إلى تزايد معدل الانقطاع المدرسي حيث ينقطع يومياً حوالى 280 تلميذاً وسنوياً أكثر من 100 ألف تلميذ عن الدراسة، بينما بلغ العدد الإجمالي في العشر سنوات الأخيرة للمنقطعين حوالى مليون تلميذ[5]، سواء خلال المرحلة الابتدائية أو الثانوية نتيجة تردي الظروف الصحية بالمدارس وبعدها عن المناطق السكنية في الأرياف وعدم تهيئتها بما يوفر الحماية الأساسية للتلميذ. انتهاكات قانونية واسعة النطاق وممارسات ترسخ عدم المساواة والتمييز على مستوى النفاذ إلى المعرفة، كما تحرم الأطفال من التعليم وهو حق أساسي لتنميتهم وجعلهم قادرين على المطالبة بحقوقهم. وتظل القيادة اللازمة لحل هذه الأزمة غير متوفرة خاصة في ظل تضافر الجهود من مختلف الأطراف لفتح المجال أمام التعليم الخاص حتى يصبح حكرا على طبقة معينة دون غيرها ما يكرس مزيدا من التمييز الطبقي ويجعل الدولة تتنصل من مسؤوليتها تجاه إصلاح منظومة التعليم اعتبارا وانه أصبح على ملك القطاع الخاص.

 “إن تراجع الدولة على مستوى ضمان تعليم عمومي جيّد وانهيار المدرسة العمومية، يفتح المجال لبناء سدود أمام قدرة الطبقات الفقيرة على تحصيل التكوين الجيّد الذي تحظى به طبقات أخرى قادرة على إنتاج فضاءاتها المعرفية ذات الجودة العالية”. هذا ما أشار إليه المفكر اللبناني مهدي عامل في كتابه “مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني”[6]، والذي يؤكد فيه على أن النتيجة الحتمية لخوصصة التعليم ستكون إنتاج تعليم طبقي يكرّس التفاوت بين أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية. ويتزامن هذا الأمر مع حالة العجز الاقتصادي التي تعيش على وقعها تونس منذ بداية العقد المنقضي والتي أدت إلى  تراجع دور الدولة كفاعل اقتصادي يكفل ضمان الحقوق الأساسية لمواطنيها كالتعليم والصحة. مما أثر على المدرسة العمومية التي وجدت نفسها  تتخبط في العنف الطبقي عبر انخفاض جودة التعليم واهتراء بنيتها التحتية  في مقابل نمو التعليم الخاص الذي طرح نفسه كطوق نجاة معرفي، فقط لمن استطاع إليه سبيلا. و بلغ عدد المؤسسات التربوية الخاصة في تونس سنة 2017، 735 مدرسة ومعهدا إعداديا وثانويا تقدم خدماتها لأكثر من 138 ألف تلميذ[7]، حسب الإحصاء المدرسي الذي تصدره الإدارة العامة للدراسات والتخطيط ونظم المعلومات التابعة لوزارة التربية  كما  يشغل هذا القطاع حاليا أكثر من 197 ألفا يتوزعون بين أساتذة معلمين ومتفقدين وإداريين، ويمثلون 30.9% من جملة موظفي القطاع العمومي، ويقدم خدماته إلى أكثر من مليوني تلميذ بموازنة عامة بلغت 6509 مليون دينار لسنة 2020 حسب نفس المصدر.

أرقام تشير إلى تغوّل هذا القطاع واحتكاره للجودة سواء عبر تطوير الآليات البيداغوجية المعتمدة وكذلك توفير أحدث التجهيزات لتسهيل النفاذ المعرفي لرواده  ما جعله ملاذا للتحصيل العلمي لطبقة معينة دون غيرها كما ساهم في طرح إشكالية عميقة تحتاج عملية تفكير جدي في مستقبل ألاف التلاميذ المحرومين من التعليم وبالتالي مستقبل جيل بأكمله.

[1] https://www.facebook.com/Forum-Tunisien-pour-les-Droits-Economiques-et-Sociaux-section-Kairouan-233012453493683/photos/pcb.4055356674592556/4055351977926359

[2] https://ultratunisia.ultrasawt.com/

[3] https://www.facebook.com/mosaiquefm/videos/843098403076552

[4] https://www.facebook.com/Forum-Tunisien-pour-les-Droits-Economiques-et-Sociaux-section-Kairouan-233012453493683/photos/pcb.4055356674592556/4055351977926359

[5] https://www.independentarabia.com/node/188566/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85

[6] https://freshbooks2u.com/%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%AA-

[7] http://www.edunet.tn/article_education/statistiques/stat2020_2021/stat_scolaire.pdf