حكايات من قلب غابات جبال خمير

0
1949

حكايات من قلب غابات جبال خمير

مالك الزغدودي: صحفي وباحث تونسي مهتم بقضايا البيئة وحقوق الإنسان

“الغابة هي حياتي، لا يمكن أن أتنفس خارج هذه الغابة، سابقا لم تكن هناك زيارات للجبل أو زوار يرمون النفايات ويتركون أعقاب السجائر هنا وهناك. نحن سكان غابة عين الزانة (منطقة جبلية تتبع إداريا معتمدية عين دراهم) نعرف معنى الحرائق ونعيش رعبها وعشنا قتلها حيواناتنا وحرقها حقولنا لكن الزوار بجهل أو بسهو منهم لا يعرفون. مرحبا بالجميع لكن احترموا الغابة … “

محسن عرفاوي 68 سنة، راعي وفلاح أخذنا في جولة معه في غابات جبال الخمير، الممتدة بين مدينتي طبرقة وعين دراهم على تخوم الحدود التونسية الجزائرية.

 

تعرفنا على سكان القرية عين الزانة الذي لا يتجاوز عددهم المئة شخص على الأكثر، يعيش أغلبهم من الرعي أو جمع البلوط وبيعه وهو ثمرة شجرة الفرنان والبلوط أو العمل الموسمي في جمع مادة الخفاف وهو لحاء شجرة الفرنان أو كما يسمى بالعامية في هذه المناطق “بالڨشر”.

دأبت أيضا نساء هذه القرية والقرى المجاورة على جمع الاكليل والزعتر الجبليي وبيعهن هذه المنتوجات الطبيعية إلى معامل تقطير واستخراج الزيوت الروحية والطبية، بأثمان غير مجزية مقارنة بالمجهود المبذول في جمعه كما أكدت أغلب شهادات نساء القرية.

لا يقتصر نشاط قرية عين الزانة على جمع الحشائش والشجيرات بل هناك التحطيب الموسمي وهو عبارة على جمع بقايا أغصان الأشجار اليابسة، وهي عملية تساهم في وقاية الغابة من الحرائق كما أكد لنا فيصل وهو حارس غابة حديث العهد، لم تتجاوز مدة خدمته الأربعة سنوات، لم يقع ترسيمه إى حد الساعة ولم يتمع بالقدر الكافي من الدورات التدريبية حسب قوله رغم حسسية المهام التي يقوم بها، حيث أصبح حرس الغابات بمثابة جرس الإنذار رقم واحد في مواجهة الحرائق والكوارث المحتملة التي تواجهُها الغابات.

وأيضا يقوم النسوة والأطفال بجمع الفطر (الفڨوع) والريحان والكمأ البني (الترفاس) وأوراق الكالتُوس من أجل التقطير وطبعا زيت القذّوم.

في حقيقة الأمر لم أكن أحتاج رحلة ميدانية للتأكد من الارتباط الوثيق بين سكان القرى الجبلية وغابات خمير وما تنتجه من موارد، لعديد الأسباب والعوامل ربما أهمها أني من سكان تلك المناطق رغم انقطاعي لأكثر من عقد عن قضاء أكثر من أسبوعين هناك، إلا أنه في حقيقة الأمر ما تزال علاقتي جيدة بأغلب سكان تلك المناطق بحكم عملي الصحفي أو البحثي، لكن لم أكن أعتقد يوما أن تشهد الغابة مثل هذا الدمار الهائل وما لحقه من تأثير مباشر على حياة السكان وعدم قدرتهم على التأقلم مع التغيرات المناخية وتقاعس الدولة في القيام بدورها في حماية الثروة الغابية وفي توعية زوار وسكان القرى الجبلية على حد السواء.

ملاحظة: يهدف هذا المقال إلى أن يكون صوت سكان عدد من القرى والتجمعات السكانية الجبلية في جبال خمير بين مدينتي طبرقة وعين دراهم، من خلال وصف أغلب الأنشطة الاقتصادية للسكان المعتمدة بشكل مباشر على الغابة. كما يهدف أيضا إلى رصد تأثير التغيرات المناخية على الغابة وبالتالي على حياة السكان المحليين موثقا ما يعيشونه من هشاشة اجتماعية واقتصادية، مسلطا الضوء على تقاعس وانعدام أي مخطط استراتيجي من الدولة من خلال هياكلها المعنية من أجل خلق حلول مستدامة لحل أزمة الحرائق الغابية وما تمثله من خطر مباشر وغير مباشر على سكان القرى الجبلية.

يتضمن هذا المقال محاولة نقل الشهادات كما هي دون تحريف بمبدأ الأمانة الصحفية والعلمية، من أجل خلق معجم محلي للنباتات والأشجار والمنتجات الغابية في المجال الغابي والسكني لقرى خمير، وذلك من خلال توثيق الأسماء باللهجة المحلية كما وردت في الشهادات المتعددة لسكان القرى التالية وهي قرية عين الزانة / قرية ملولة / قرية شعبة الربيع / تجمع المريج / قرية سيدي محمد.

اخترت القرى المتاخمة للجبال أو الموجودة داخل الجبال أين يرتبط النشاط الاقتصادي والمعيشي للسكان مباشرة بالغابة.

حرائق الغابات: مدمرة للطبيعة ولمورد رزق سكان القرى الجبلية

“بعيدا عن لغة الأرقام وما تعنيه في أحيان كثيرة من حقائق، علاقتنا بالغابة وجدانية قبل أن تكون اقتصادية أو حياتية ولا تدخل تحت أي نموذج وقراءة اقتصادية دقيقة لا رأسمالية ولا اشتراكية، نحن سكان الغابة (الجبلية) والغابة هنا ليست مجرد وصف لغوي بل هي عنوان للوحدة بيننا نحن السكان والنظام الطبيعي والبيئي المحيط بنا بشكل عام بمعنى أننا نعيش مصيرا واحدا لا يمكن فصله وتجزئته”هكذا بدأ ماهر نقاشنا قبل إنطلاق زيارتنا إلى القرى.

انطلق النقاش ما قبل الرحلة بمجموعة مكثفة ومتعددة من الأسئلة:

  • هل نحن المسؤولون عن التغيرات المناخية؟ هل تونس دولة صناعية ساهمت في تلويث العالم وهي الآن تدفع ثمن الاحتباس الحراري؟
  • هل كانت القرى الجبلية ضمن مخططات التنمية الوطنية الخمسية والعشرية؟
  • يقولون إننا ضحايا، ثم يقولون إننا محظوظون نتنفس هواء نقيا ونأكل من خيرات ما نزرع ونُربي المواشي والدجاج “العربي” ثم مع الحرائق نعود ضحايا والغريب يعتقدون أننا نتوسل بطاطين وحليب!!!
  • هل يعرف التونسيون مجلة الغابات؟ هل يجب تغيير منوال التنمية العمرانية حتى يجعل المدن لا تتوسع عشوائيا على حساب الغابات؟

كل هذه الأسئلة والاستفهامات العميقة كانت محل النقاش مع الأصدقاء ماهر العرفاوي ومناف العرفاوي وأنيس بوشناق ونحن في زيارة عدد من القرى الجبلية وفي نقاش مع سكانها مباشرة بعد حرائق هذا الصيف (2023) المتكررة والتي لا تهدأ. ويمثل الشباب السالف ذكرهم إضافة إلى عدد أخر من سكان المنطقة مجموعة من الناشطين المحليين المهتمين بالبيئة والتغير المناخي.

ربما لم يكن هؤلاء الخمِيريون كما يطلقون على أنفسهم (وهنا هم ليسوا من الخمير الحمر في كمبوديا بل نسبة إلى سلسلة جبال خمير وما تحمله من تاريخ وثقافة حياتية مشتركة)، يتخيلون أن تشهد الغابة والحياة البرية مثل هذا التدهور الرهيب وما عقبه من انعكاس مباشر على حياة السكان المحليين.

قررت نقل الأحداث أو على الأقل الأسئلة الحارقة كما هي، تخليت نسبيا عن دور الواعظ الذي يريد أن يجد حلولا إلى دور الصحفي الذي ينقل القصة الصحفية لا من خلال بطل (بروتاغونيست) واحد بل من خلال أبطال متعددين.

بعد الحرائق قررنا تسجيل أغلب الأعمال المرتبطة بالغابة فوجدنا أن هناك ثلاثة أعمال رئيسية:

  • الأولى وهي الأكثر شيوعا الرعي وتتمثل أساسا في رعي الأغنام والماعز الجبلي والأبقار ومن ثم بيع الحليب أو المواشي وهي الأعمال التي تراجعت مردوديتها بسبب الحرائق
  • العمل الثاني وهي الأعمال الموسمية: من خلال حظائر جمع لحاء الفرنان “الڨشر” أو تثبيت كاسرات الحرائق التي لم تثبت نجاعتها في كل حرائق السنوات الفارطة ولم يفتح تحقيق جدي واحد في مدى نجاعتها أو وجودها من الأساس.
  • العمل الثالث أو المجال الثالث: وهو جمع الخشب بمختلف أنواعه وتحويله إلى أواني خشبية أو تحف يدوية أو جمع الحشائش أو أوراق الأشجار والشجيرات التي يمكن أن تتحول إلى زيوت نباتية، إضافة إلى مختلف منتوجات الغابة الأخرى من فطر أو الكمأ البني “الترفاس”…

كانت أغلب شهادات سكان القرى من رجال ونساء تفيد بتراجع المداخيل أكثر من النصف بعد الحرائق، مع التأكيد على أن الأمور تتجه نحو الأسوأ.

كررت الزيارة بعد شهر من الحرائق إلى منطقة ملولة من أجل كتابة هذا المقال بأكثر دقة ممكنة، ومن أجل التصوير مع بعض سكان المنطقة حول تدخل أجهزة الدولة أو الحلول التي يرونها ممكنة من أجل حل وضعيتهم بعد حرق أكثر من 80 بالمئة من الغابة المحيطة بهم.

لم يتغير شيء، غابة الصنوبر الحلبي المحترقة والمتفحمة والتي يجب أن يقع قطعها وإزالتها مازالت في مكانها مع نفس روائح الحرائق وثاني أكسيد الكربون. نساء المنطقة العاملات في جمع القذّوم في حالة بطالة حيث أكدت الخالة سعاد 55 سنه أنها لم تتمكن من جمع أي حبات من القذّوم من أجل تقطيرها هذه السنة وعصرها واستخراج زيت القذّوم ومن ثم بيعه. كما أردفت قائلة ” تحرقنا نحن ليس الغابة، رزقنا هو الذي حرق، حياتنا، هذه ليست غابة هي مصنع أحلامنا الصغيرة. كنت أبيع زيت القذّوم وأهب ما أحصله من نقود إلى ابني الذي يدرس في الجامعة. الحرائق متكررة والدولة لم تجد من حلول سوى أن ترسل رجال الحماية المدنية أو الغابات وهم في حد ذاتهم لا حول لهم ولا قوة…”

 حياة الخالة سعاد لا تختلف كثيرا عن حياة بقية نساء القرى الجبلية في طبرقة وعين دراهم، وتأثير الحرائق انعكس بشكل مباشر على حياتهُن، إضافة إلى حالة الجفاف التي ضربت المنطقة مما حرمهن من زراعة حقولهن الصغيرة، وممارسة ما تعودن عليه من فلاحة عائلية.

الغابة هي مصدر النشاط الاقتصادي الأساسي في القرى الجبلية

سعيد 50 سنة فلاح وعامل موسمي، يعمل في حظائر “الڨشر” أي نزع لحاء الفرنان، وجمع الفقوع موسميا وهو الآن مفقود ونادر حسب قوله. يُربِي العم سعيد عددا صغيرا من الماعز والأغنام ويعتمد على الرعي الجبلي في ذلك.

تأثر منزله من الحرائق وكذلك حقله وهو الآن لم يزرع لا هو ولا زوجته شيئا نظرا لشح الأمطار.

كان مدخول العم سعيد سنويا لا يتجاوز 5 آلاف دينار، معظمها من بيع الماعز أو الأغنام أما اليوم نظرا لتراجع أعداد القطيع، وغلاء الأعلاف وحرق المراعي في الغابة باع السنة الفارطة فقط ثلاثة خرفان ولم يكن هناك أي من الأعمال الموسمية في الغابة.

تراجع مدخول العم سعيد وعائلته المكونة من ثلاثة أفراد إلى 3 آلاف دينار.

حالة عائلة العم سعيد الذي تعمل زوجته الخالة منجية في جمع خيرات الغابة وبيعها والتي احترقت هي الأخرى، حالة ممثلة لأغلب العائلات في قرى وأرياف مدينة طبرقة وعين دراهم.

خلال الزيارات الميدانية وأخذ شهادات السكان تبين التأثير الشديد والمباشر على حياتهم، وفسر أغلبهم أنهم أصبحوا يفكرون جديا في مغادرة القرية والتوجه نحو المدن سواء طبرقة وتونس العاصمة وبعض المدن الساحلية مثل الحمامات وسوسة.

حيث وصف العم سعيد الأمر بالعبارة التالية ” تموت الغابة، فتصبح بعدها حياتنا مستحيلة والغابة تموت يوما بعد يوم”.

ربما كانت كلمات العم سعيد أفضل العبارات التي تلخص الوضعية وعلاقة سكان القرى مع الغابة وكيفية المقاومة اليومية والعيش تحت خطر التغيرات المناخية في شهادة صادقة مثلت بصورة أو بأخرى لا فقط صوت سكان الغابة بل صوت الغابة ذاتها.