رئيس مع الشعب؟ دستور ضد الشعب؟

0
2068

رئيس مع الشعب؟ دستور ضد الشعب؟

هيثم المدّوري

باعتباره مرشّحا لأن يكون أسرع تعديل دستوري في التاريخ الإنساني، صدرت النسخة الثانية من “مشروع دستور الجمهورية الجديدة” عشية الجمعة 09 جويلية 2022، بعد انقضاء الآجال القانونية، 30 جوان، وقبل أسبوعين تقريبا من عرضه للاستفتاء المزمع إجراؤه يوم عيد الجمهورية والذكرى الأولى للانقلاب. فضلا عن هذه الأخطاء الإجرائية، وبغض النظر عن السياق والمسار، نتعرّض فيما يلي لماجاء في هذه المسودة من حقوق وحريات، من وجهة نظر اقتصادية واجتماعية، حسبما تعرّفها المرجعيات الأممية والحقوقية، سواء الحقوق المباشرة للأفراد كالحق في الصحة، العمل، الماء، التعليم… أو الحقوق التي تهم المجموعة  كضمانات تحقيق العدالة الاجتماعية وآلياتها والتوزيع العادل للثروة، وسبل توفير الحياة الكريمة، وحماية البيئة والمحيط، والتنمية ومدى تناسب السياسات العامة للدولة مع تطلعات المواطنين.

ما من اقتصاد تضامني أو أهلي:

كانت الفترة السابقة لإعلان دستور 2014، بين 22 نوفمبر 2011 و27 جانفي 2014، فترة مخاضات حقوقية ونضالية لا يتسع المجال لذكرها، لكن انعكاساتها كانت جلية في الدستور، كالتنصيص على مدنية الدولة أو تعزيز حضور المرأة في المجالس المنتخبة، أو الفصل 49 الذي يعتبر بمثابة “الشعر القانوني”، والعبارة للرئيس الشرفي للقضاة الإداريين أحمد صواب.  اتسم دستور 2014 بالحقوقية المفرطة حد التخمة، نتيجة للسياقات والمناخ الذي صيغ ضمنه، ومنه ضغط المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية بالصيغ الديموقراطية المختلفة، لذلك كان أكثر من ثلثي فصوله ينص بصريح العبارة، أو ضمنيا، على الحقوق والحريات.

فيما يخصّ مجالنا في هذه القراءة النقدية، ونعني الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد أبقى سعيّد في مشروعه على أغلب ما جاء في الباب الثاني من دستور 2014، باب الحقوق والحريات، مع ضرورة التنبيه إلى تعدد حالات الإحالة على القانون في أكثر من موضع، ما يطلق يد المشرّع، وهو المنفذ والقاضي في آن واحد، في تحديد مساحات هذه الحقوق وحدود التمتع بها. رغم تأثيث مونولاغته بأفكار توحي بالتحررية والثورية، كإشارته أكثر من مرة إلى التقسيم العالمي للعمل، لم يتبنّ سعيّد فكرة الاقتصاد التضامني والاجتماعي، حيث تغافل عن إدراجه بالفصل 17، وهو ما كان من بين مؤاخذات اتحاد الشغل في قراءته النقدية الأخيرة المنشورة عشية الجمعة 08 جويلية 2022: ” إغفال الفصل 17 من المشروع التنصيص على الاقتصاد التضامني والاجتماعي كقطاع ثالث إلى جانب القطاعين العام والخاص[1]…”

كانت الجائحة الصحية “كوفيد 19” المجرفة التي استعملها سعيّد لقبر الديمقراطية الناشئة، من خلال استقالته من قيادة الأزمة وتعطيل العمل الحكومي، والتعنّت والمساهمة في إدخال البلاد في انسداد سياسي حاد ورفض كل سبل الحل ومبادراته، كمبادرة الحوار الوطني التي اقترحها اتحاد الشغل في نوفمبر 2020، في فترة تحتاج الدولة فيها إلى كل مواردها وقواها لمواجهة أزمة أنهكت كبرى الاقتصادات وأدت إلى انهيار أوشبه انهيار لأكثر من منظومة صحية كما حدث في إيطاليا والبرازيل والهند. هذا بالإضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية المركبة والمتواصلة منذ عقود تعود إلى أوّل قرض من صندوق النقد الدولي سنة 1964، الّذي زاد من تعفّن الأوضاع. لا يمكن لأ يسلطة سياسية أن تحقق استقرارا سياسيا دون الإجابة عن السؤال الاقتصادي والاجتماعي. لم يتأخر سعيّد منذ تولّيه زمام الرئاسة منذ أكتوبر 2019، ولا أمر المملكة منذ جويلية 2021، عن تقديم إجابات في شكل “وجبات سريعة” -والعبارة للمؤرخ الفرنسي بيار روزانفالون- للحشود التي ذاق صبرها من “انتظار جودو[2]“. “الجحيم هم”. قالها سارتر ذات يوم، وكثّفها سعيد في معجمه السياسي، بدءا من المنكّلين بقوت المواطن، الفاسدين، المتآمرين، ناهبي أموال الشعب… نذكّر فحسب بأنّ المنظّرة السياسية ناديا أوربيانتي في محاولتها لتفكيك ظاهرة الشعبوية، فضحت الخطاب الثّنائي المميّز للشّعبويّين في كتابها “أنا، الشعب”: “إن إزدواجية –نحن الأخيار/هم الأشرار-هي المحرّك لكل أنماط التحشيد الشعبوي”[3].

على ضوء هذه المونولاغات المتعددة لسعيد وتنديده المتواصل “بالمنكّلين بقوت المواطن”، على حد تعبيره، كان من المنتظر أن يكون مشروع الدستور الممنوح حاملا لفكر اقتصادي تحرري ضد التبعية وهيمنة المكينات التجارية العالمية، ولو بشكل شعبوي دعائي، إلا أنّه فضلا عن النسخ شبه الكلي لباب الحقوق والحريات من دستور 2014، فقد تغافل عن المفهوم الوحيد الذي كان ربما قد يعكس فكرا ثوريا، الاقتصاد التضامني الاجتماعي، ولا حتّى مفهوم “الاقتصاد الأهلي”، لو سلمنا بوجوده. من ناحية المضمون، تحيل فكرة الاقتصاد التضامني الاجتماعي أو “الاقتصاد الأهلي” إلى ما تراكم من تنظيرات تمتد إلى آباء الأناركية الأوائل باكونين وبرودون، مرورا لهوبزباوم وليشتهايم، وصولا لمنظّري ما يسمّى بالاشتراكية الحرة، المعاصرون كدايفيد غرايبر وجايمس سي سكوت.

قبل تولّيه الرئاسة، كان سعيّد من الداعمين لاعتصام أهالي جمنة ومطالبهم المتمثّلة آنذاك في استغلال ضيعة التمور، المملوكة للدولة، من قبل أهالي الجهة بالتعاقد أو بالكراء، بدل تأجيرها لصالح الباعثين الفلاحيين كما تنص على ذلك التراتيب الجاري بها العمل. وصرّح حينها قيس سعيّد لإذاعة نفزاوة المحلية[4]: “جمنة قدمت الدرس وعلى الدولة أن تقدم الإطار القانوني الذي يمكن تجربة جمنة وغيرها من التجارب التي تعاني من نفس الإشكال من التعبير على إرادتهم”.  نجحت تجربة أهالي جمنة، وكانت أساسا تمهيديا لمصادقة البرلمان على قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي المؤرخ بـ 30 جوان 2020. وحال تولّيه الرئاسة، وخاصة بعد 25 جويلية، ضرب سعيّد المثل في أكثر من مناسبة بتجربة الاقتصاد التضامني الاجتماعي، أو كما يحلو له أن يسمّيها، الشركات الأهلية (بغض النظر عن المؤاخذات السوسيولوجية للكلمة): “في مسألة هنشير جمنة، هو أنهم آنذاك لم يجدوا الإطار القانوني اللازم، ولذلك ما أطرحه في الواقع هو تقريبا تجربة جمنة[5].”

في بلاد تعاني أزمة هيكلة اقتصادية مزمنة، كانت أساسا السبب وراء كل الانتفاضات المحورية في تاريخ تونس الحديث والوسيط، تحظى المسألة الاقتصادية والاجتماعية بدور محوري في تحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. تسليما بأن دستور 2014 كان دستورا حقوقيا بامتياز، ولم يعن بالمسألة الاقتصادية بالشكل اللازم (بتحفّظ)، فالمتوقّع أن يتضمّن الدستور الجديد إجابة مدسترة عن السؤال الاقتصاد الاجتماعي، لتكون قاعدة دستورية واضحة وصريحة لتشريعات وتراتيب قانونية لاحقة “للجمهورية الجديدة”، وهو ما صرّحت به “اللجنة الاستشارية” على لسان الصادق بلعيد وأمين محفوظ: “قال الصّادق بلعيد الرّئيس المنسّق للهيئة الوطنيّة الاستشاريّة من أجل جمهورية جديدة، إنّ الهيئة اختارت أن تولي أهمية للجانب الاقتصادي أكثر من الجانب السياسي، وأن يكون خيارها الأوّل هو ارساء نظام متوازن بين الاقتصاد الليبرالي والاجتماعي وإدماجه مع الاقتصاد الاشتراكي التضامني.” وهو ما نص عليه الفصل الأول من  مسودة دستور بلعيد-محفوظ: “تضمن الدولة التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين مواطنيها. يقوم الاقتصاد على التعايش والتنافس بين القطاعات العامة والخاصة والتضامنية”. في حين لا نجد أي إشارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى هذه الحقوق في مسودة دستور سعيّد.

أعلن صندوق النقد الدولي منذ نهاية جوان 2022 عن استعداده بدء المفاوضات مع تونس حول برنامج تمويل جديد[6]. يعرف الصندوق في الأوساط المالية العالمية بالمقرض الأخير أو the last loaner، بمعنى الدائن الأخير الذي يفترض أن يلجأ إليه عند انسداد كل الطرق، لكن نهاية أغلب التجارب معه انتهت بطريقة مأساوية: الأرجنتين، اليونان، نيجيريا الخ. المعلوم أن صندوق النقد يطرح الوصفة ذاتها التي يطرحها لكل الدول التي تستنجد به: خفض نفقات الدولة، والخوصصة، وفتح الأسواق… إلى باقي السياسات النيوليبرالية المعروفة. عند مقارنة ما تم اتخاذه من إجراءات حكومية حتّى الآن: تجميد كتلة الأجور 2022-2024، والرفع التديريجي للدعم عن المحروقات، ومشروع الأمر الحكومي شبه الجاهز حول إمكانية تمليك الأجانب للأراضي الفلاحية[7] (وهو ما لم تنجح الحكومات المتعاقبة في تمريره)… يمكن الاستنتاج أن هذه الإجراءات ماهي إلا رسائل نوايا طيبة وتمهيد لجملة “الإجراءات” النيوليبرالية الحادة التي وعدت بها الحكومة صندوق، كما تسرّبت في الوثيقة التي نشرتها منظمة أنا يقظ في جانفي 2022  [8].

عند مقارنة ما تقدّم من سياسات في ظل الحكم السعيد، يتضح جليا أن قيس سعيّد هو “خيار صندوق النقد الدولي ودول الجنوب الأوروبي”، وما الصلاحيات الامبراطورية التي ضمّنها دستورَه إلا عقد بتفويض عالمي لتطبيق السياسات التي يفرضها الصندوق في إطار العولمة واقتصاد السوق المفتوح، وحماية حدود أوروبا الجنوبية ومنع الهجرة. أما تعديل 08 جويلية 2022، بعد زيارة الجزائر، والذي أزاح الغموض عن طريقة انتخاب مجلس النواب بطريقة مباشرة، والتنصيص على النظام الديمقراطي في الفصل الخامس، فليست إلا اللمسات الأخيرة لتسوية “القضية التونسية” وفق الهوى الغربي، وبهذا تسقط جميع الأقنعة وتبدأ مرحلة جديدة من النضال ضد التبعية والهيمنة.

[1] جريدة الشعب نيوز. تاريخ الاطلاع 10/07/2022.

[2] اقتباس من عنوان مسرحية “في إنتظار جودو” لصامويل بيكيت.

[3] Nadia Urbainati. Me, the people, how populism transforms Democracy. Harvard University Press. P38.

[4] من صفحة فايسبوك “الحملة الوطنية لدعم جمنة”. رابط: https://www.facebook.com/watch/?v=1147366962011577

[5] من خطاب قيس سعيد في مجلس الوزاري بتاريخ 02 ديسمبر 2021.

[6]https://www.mosaiquefm.net/ar

[7] مشروع أمر قانون الطوارئ الاقتصادية: https://www.leaders.com.tn/article/33590-mesures-economiques-d-urgence-un-decret-loi-ficele?fbclid=IwAR0tJTEfamax6jOCXmviOqCJqfxWP9gb-InLm_pZDLxeK9saMTSKEx1DAD4

[8]المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبرنامج الحكومة “السري”. تاريخ الإطلاع: 14 جويلية 2022. الرابط: https://www.iwatch.tn/ar/article/905