مجتمع مدني يقاوم من اجل العدالة البيئية
رابح بن عثمان
- واقع بيئي متردي من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب
يعتبر انخرام المنظومة البيئية السمة المشتركة لكل جهات البلاد التونسية سيما في السنوات الأخيرة التي ازداد فيها حجم الاعتداءات على المحيط وهو ما جعل العديد من نشطاء الحركات البيئية والقوى الحية تدق ناقوس الخطر لان الوضع لم يعد يحتمل وأصبح ينذر بحدوث كوارث جراء حجم التلوث الذي يزداد عاما بعد عام. وقد شمل التلوث المناطق الساحلية بسبب عدم احترام المؤسسات الصناعية للمعايير البيئية مثل شركة السياب بصفاقس والمجمع الكيميائي بقابس واللذان تسببا في تدمير كلي للمنظومة الايكولوجية جراء القاء الملايين من الاطنان من مادة الفوسفوجيبس لتتحول هذه المناطق الى مناطق منكوبة غير قابلة للحياة.
ففي خليج المنستير على سبيل المثال يتمثل المشكل أساسا في تأثيرات معامل الجينز التي تقوم بإلقاء كميات كبيرة من المياه الصناعية والتي تحتوي على مواد كيميائية ملوثة مما أدى الى نفوق الأسماك وانتشار الروائح الكريهة. ونفس الاشكال يطرح في الضاحية الجنوبية للبلاد التونسية التي تلوثت شواطئها ولم تعد صالحة للسباحة إضافة الى الروائح العفنة التي تنبعث منها جراء ربطها بقنوات الصرف الصحي منذ سنوات عديدة.
وفي المناطق الداخلية سيما تلك التي تحتوي على ثروات باطنية فان الإشكاليات البيئية تزداد حدة مثل منطقة الحوض المنجمي اين يتركز قطبا الصناعة الاستخراجية ونقصد هنا شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي التونسي واللتان تسببتا منذ احداثهما في ارتفاع معدلات التلوث بشتى انواعه من تلوث للهواء وتلوث الماء والتلوث السمعي بالإضافة الى الاعتداء على المخزون العقاري للأهالي ليحرموا بذلك من حلم امتلاك عقار بصفة قانونية باستثناء بعض الحالات النادرة في بعض المدن المنجمية.
وبالإضافة الى هذه الأصناف من التلوث تعاني جل المدن من إشكالية التصرف في الفضلات المنزلية والصناعية وحتى المصبات المراقبة التي أحدثت منذ سنوات فاقمت الوضعية واصبحت بدورها جزءا منها. ولعل الاحداث الأخيرة التي رافقت اغلاق مصب القنة بعقارب في نوفمبر 2021 خير دليل على ذلك. وتعود هذه الإشكاليات بالأساس الى غياب استراتيجية واضحة للتصرف في النفايات، كما أن المنوال التنموي لا يجعل من النفايات والتصرف فيها مصدرا للثروة ودافعا مهما لعجلة التشغيل والاستثمار بشقيه العام والخاص. وتعاني جزيرة جربة نفس الإشكاليات، حتى أنها أصبحت «مطمورة النفايات”.
كما تعتبر مشكلة الانقطاع المتواصل للماء الصالح للشراب معضلة حقيقية أصبحت تلقي بظلالها على حياة المواطنين و لا تقتصر هذه الانقطاعات على المناطق الداخلية فحسب بل شملت في السنوات الأخيرة المدن الساحلية و تونس الكبرى و هو مؤشر خطير خاصة اذا علمنا ان تونس تعتبر من البلدان المفقرة مائيا حيث لا يتجاوز النصيب السنوي للفرد 420 م3 مما يعني اننا في أزمة فقر مائي و الذي ستزداد حدته في قادم السنوات سيما في ظل التغيرات المناخية التي من احد تجلياتها ارتفاع درجات الحرارة وبلوغها أرقاما قياسية و طول مواسم الجفاف و عدم انتظام موسم التساقطات وهي كلها عوامل ستزيد من تعميق ازمة العطش.
- حراك نحب نعيش “ستوب بولوشون” بمدينة قابس: نضال متواصل وتدويل لقضية التلوث بالفوسفوجيبس
خلال سنة 2012 وبمناسبة اليوم العالمي للبيئة قام عدد من الجمعيات (أكثر من 15 جمعية) بالتنسيق مع عدد من النشطاء البيئيين بتأسيس حراك أطلق عليه اسم “سكر المصب ” في إشارة الى ضرورة التوقف الفوري عن القاء الفوسفوجيبس في البحر وقد خلق هذا الحراك ديناميكية وحركية على مستوى الشارع ونبه الى حجم الكارثة البيئية التي تتعرض لها سواحل مدينة قابس والتي لم يعد بالإمكان السكوت عنها. واتفق الجميع على ضرورة الضغط على السلط المعنية من اجل نقل وحدات معالجة الفسفاط خارج مناطق العمران وهو المطلب الرئيسي الذي لا يمكن التنازل عنه.
وبالفعل انطلق الحراك بحملة لجمع أكثر عدد ممكن من التوقيعات امتدت على مدى ثلاث أيام 17 و18 و19 جوان 2017 وتلتها فيما بعد ندوة علمية يوم 23 من نفس الشهر تحت عنوان” أي استراتيجيا لوقف التلوث في قابس ” اثثها الأستاذ عبد الجبار الرقيقي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي للشغل. وتطرقت الندوة الى افق التنمية في ظل وجود المنطقة الصناعية وتبعات تركيز المنوال التنموي الحالي على الصناعات الملوثة وكلفتها الصحية والبيئية في إشارة الى ان المعركة هي معركة تنموية بالأساس وهو ما يؤكد على ضرورة النضال من اجل فرض منوال تنموي يحترم الحقوق الأساسية للإنسان مثل الحق في الحياة والحق في الصحة والحق في بيئة سليمة.
وفي مرحلة أخرى قام أهالي وذرف بتنظيم مظاهرة امام المسرح البلدي بتونس العاصمة للتعريف بحجم المعاناة التي يعانيها الأهالي جراء صناعات الموت وطالبوا بحماية مدينتهم من الخطر الذي يتهددها جراء أطنان الفوسفوجيبس التي يقع تكديسها على مشارفها وللتذكير فقد تم الاختيار على هذه المدينة من اجل ردم هذه المادة وهو ما رفضه الأهالي بشدة وخاضوا من اجله نضالات عديدة كانت اخرها الاحتجاج بتونس العاصمة. وفعلا، تخلت السلطة عن هذا الحل.
وعموما٬ يمكن القول ان جذوة الرفض لم تنطفئ ابدا حتى وان خفت وتيرتها في بعض الفترات فإنها لا تنفك تعود بأكثر قوة وأكثر حدة وهو ما يعكس إصرار أهالي الجهة والقوى الحية على الدفاع على حقهم في العيش في فضاء سليم. ويحسب لهم تنويع أساليب الاحتجاج ابتداء بالمظاهرات والمسيرات وصولا الى الجلوس على طاولة المفاوضات وطرح البدائل الكفيلة بتجنيب المنطقة ويلات التلوث والضغط على صناع القرار من اجل البحث عن حلول جذرية قد تجنب الولاية ويلات التلوث.
وتواصلت المسيرة النضالية لحراك “ستوب بولوشون” بالتنسيق مع –نحب نعيش-وجمعية حماية واحة شط السلام حيث تم تنظيم مسيرة على ضفاف البحر يوم 29 جوان 2017 انطلاقا من ميناء الصيد البحري في اتجاه غنوش الى حدود المياه البحرية المقابلة للمنطقة الصناعية. وتواصل التحرك الى حدود يوم 30 جوان الذي يعتبر يوما مشهودا نظرا للكم الكبير للمشاركين في هذا التحرك ولأهمية الشعارات التي تم رفعها والتي تنادي بضرورة إيقاف هذا النزيف. وانضم لأول مرة الى الحراك عدد من ممثلي الأحزاب السياسية.
ونتيجة لهذا الضغط انعقدت جلسة وزارية مضيقة على مستوى رئاسة الحكومة تم التطرق خلالها الى هذه الازمة والحلول الممكنة والتي من بينها إقرار مشروع لتفكيك الوحدات الملوثة واحداث وحدات صناعية جديدة والشروع في إيجاد حلول للقضاء على التلوث الناجم عن مادة الفوسفوجيبس.
ولم يقتصر نضال الحراك على المستوى المحلي والوطني فقط بل عمل على التعريف بالقضية على المستوى الدولي من خلال مشاركته في قمم المناخ الأخيرة التي انتظمت بمراكش وباريس واسكتلندا كما عمل على خلق شبكة من العلاقات مع منظمات ومؤسسات اجنبية تهتم بالدفاع عن الحق في العيش في بيئة سليمة وهو ما أحرج السلطات التونسية التي تحاول في كل مرة التأكيد على انه من حق أهالي مدينة قابس العيش في محيط خالي من التلوث. وللأسف رغم كل هذه التحركات بقي الوضع على حاله ولازالت الجهة تنزف.
مشاركة ممثلي حراك”ستوب بولوشون” في قمة المناخ بقلاسكو أكتوبر 2021
- حملة يزي لغلق معمل السياب
كان مصنع معالجة الفسفاط السياب التابع للمجمع الكيميائي التونسي يمتد على مساحة 210 هكتار في وسط مدينة صفاقس، على بعد 4 كيلومترات فقط من وسط المدينة. وفي عام 2008 قدر التدهور البيئي الناجم عنه منذ انشائه سنة 1952، بنحو 683 مليون دينار (حسب مكتب دراسة COMETE). وتساهم النفايات، وخاصة الفوسفوجيبس، والغازات السامة في تلوث التربة والمياه والهواء.
وفي مواجهة التلوث المتفاقم الناجم عن السياب، بدأ سكان صفاقس في التحرك، خاصة بعد ثورة 2010. وفي عام 2017، ولدت حملة يزي للمطالبة بإغلاق المصنع ومحاربة ظاهرة التلوث التي تؤثر على المدينة. وقد تم خاصة تنظيم مظاهرة شعبية كبيرة في 22 فيفري 2017 لإنهاء المعاناة التي تسببها أنشطة الفسفاط في المدينة، كان لها الاثر الكبير في غلق الوحدة في نفس السنة.
صورة للوقفة الاحتجاجية التي انتظمت بمدينة صفاقس في فيفري 2017 والمطالبة بإغلاق السياب
- خليج المنستير: معاناة بيئية متواصلة وعجز الهياكل الرسمية على إيقاف النزيف
يعتبر هذا الخليج حاضنة للعديد من الكائنات البحرية والأعشاب الحامية من التصحر. وتبلغ مساحته الجملية حوالي 17 ألف هكتار في مياه المتوسط. وينتصب بولاية المنستير عدد هام من معامل النسيج بلغ عددها سنة 2012 حوالي 512 معملا تساهم منذ السبعينيات في تحقيق حركية اقتصادية هامة وتتمركز هذه المنشآت أساسا في كل من المنستير وخنيس وقصيبة المديوني وصيادة ولمطة و بوحجر أين تقع نتيجة لذلك أهم التأثيرات البيئية السلبية نتيجة الحجم الكبير للمياه الصناعية التي يقع القاؤها يوميا في عرض البحر وهو ما أدى الى تحول خليج المنستير الى مقبرة للكائنات البحرية مع انتشار الروائح الكريهة والامراض الخطيرة.
وامام هذه الوضعية، انطلقت أولى التحركات الاحتجاجية سنة 2006 بتأطير من عدد من الناشطين والمناضلين وانخرط فيها عدد هام من المواطنين الذين أحسوا بحجم الخطر الذي يتهدد المنطقة برمتها. وفي الاثناء تم الاتفاق على خطة نضالية تقوم أساسا على مواصلة الاحتجاج وقطع الطريق الشاطئية وإصدار بيانات في الغرض والتوجه الى مقرات السيادة والاتصال بوسائل الاعلام داخليا وخارجيا لتسليط الضوء على حجم الكارثة وهو ما افضى في نهاية المطاف الى تنظيم لقاء مفتوح مع المواطنين بحضور عدد من المسؤولين والخبراء في المجال البيئي. وعلى الرغم من كل هذه التحركات والنضالات والوعود المقدمة من طرف السلطة من اجل استصلاح الخليج، لازالت المنطقة تعاني الى يومنا هذا تأثيرات التلوث الصناعي الناتج عن أنشطة وحدات النسيج والدجين.
غلق الطريق من طرف أهالي القصيبة احتجاجا على التلوث البحري
- الحوض المنجمي: جرح ينزف وثروات تستنزف
تعاني منطقة الحوض المنجمي بولاية قفصة من ارتفاع نسب التلوث جراء الأنشطة الاستخراجية التي تقوم بها شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي التونسي الذي فاقم الوضع وزاد من معاناة الأهالي منذ تأسيسه في اواخر الثمانينيات. وتتعدد مظاهر التلوث لتشمل جميع مراحل الإنتاج انطلاقا من عملية الاستخراج بواسطة المتفجرات والتي غالبا ما تؤدي الى اضرار جسيمة تطال المنازل المجاورة والممتلكات الفلاحية مثل ما حدث في 2020 في مدينتي الرديف وام العرائس.
وفي مرحلة ثانية، تتسبب عملية نقل الفسفاط في انتشار الغبار والضجيج نظرا للسرعة المفرطة للشاحنات وغياب الصيانة. وفي مرحلة ثالثة وهي المرحلة الأهم يتم غسل الفسفاط وإزالة الشوائب وهو ما يتطلب استعمال كميات هامة من المياه ومواد كيميائية قبل أن يتم التخلص من الفضلات بشقيها الصلبة والسائلة في الفضاء المفتوح مما يتسبب في كوارث بيئية حقيقية طالت تبعاتها ولاية توزر.
استنزاف الثروة المائية
يتطلب غسيل الفسفاط كميات كبيرة من المياه ولذلك قامت الشركة بحفر ابار عميقة خاصة بها في كل من الرديف وام العرائس والمتلوي بمعدل ضخ يصل ال 715 ل/ث ولغسيل 1 طن من الفسفاط يلزم 5000 م3 من المياه وهي كمية مهولة خاصة وأننا في جهات مفقرة مائيا.
وقد كان لهذا الاستنزاف اثار سلبية على الموارد المائية لان الإمكانات اللوجيستية لشركة فسفاط قفصة تتجاوز بكثير إمكانات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه التي تعاني ابارها من هبوط مستوى الماء. وقد وصل الامر الى نضوب بعضها بصفة نهائية (وضعية ابار الرديف صيف 2021) مما سبب اضطرابا على مستوى توزيع المياه وحرمان عدد كبير من المواطنين في مدينة الرديف من حقهم في الماء الصالح للشراب.
وامام هذه الوضعية، قام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فرع الحوض المنجمي بإصدار بيان [1]للراي العام دعا فيه السلط المحلية والجهوية الى تحمل مسؤولياتها وإيجاد حلول جذرية لمشكلة العطش من ناحية ومن ناحية ثانية دعوة جميع أهالي الرديف الى الاستعداد للدخول في سلسلة من التحركات والاعتصامات.
وبالفعل بدأت التحركات وانطلقت من مقر المعتمدية وصولا الى إدارة الشركة ليقع بعدها تحديد جلسة مع مدير إقليم الرديف للنظر في كيفية مساهمتها في حلحلة الاشكال ولو وقتيا سيما في ظل هذا الطقس الحار.
وحرص المنتدى على ان يبقى الجميع في حالة استنفار وعمل على تقسيم الأدوار ليقوم عدد من المواطنين بالاعتصام في المغسلة التابعة لشركة فسفاط قفصة في حين يقوم فريق اخر بالتفاوض مع المسؤولين وهو ما أدى الى فرض حل وقتي لمشكلة العطش.
اعتصام أهالي الرديف بإدارة شركة فسفاط قفصة في 21 اوت 2021
ومواصلة لنفس النهج الذي تبناه المنتدى وذلك بممارسة أكثر ما يمكن من الضغط على مختلف المتدخلين في قضية الماء الصالح للشراب، قمنا بمراسلة رئاسة الجمهورية حول هذه القضية واحطناها علما بكل الحيثيات وفي الاثناء طالبنا بضرورة التدخل العاجل خاصة ضرورة التنسيق مع شركة فسفاط قفصة التي بإمكانها حل الاشكال ولو وقتيا.
نص المراسلة الموجهة الى رئاسة الجمهورية
وللتذكير فان معركتنا من اجل الماء الصالح للشراب اتخذت عدة اشكال ابتداء بالاحتجاج اليومي والاعتصامات في مقرات السيادة وفي مقر شركة الصوناد وصولا الى الاشتباك القانوني حيث انطلق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ شهر اكتوبر 2020 في قضية ضد شركة فسفاط قفصة التي تستغل المائدة المائية بمنطقة الطرفاية وهي نفس المائدة التي تتركز فيها ابار شركة الصوناد. وفي تقديرنا ان مواصلة استغلال المقدرات المائية للمنطقة بهذا الشكل سوف يؤدي الى نضوبها بصفة كلية مما يهدد مستقبل الأجيال القادمة. ولعل المؤشرات التي بدأت تظهر للعيان خير دليل على ذلك حيث بدأ منسوب المياه في الابار خاصة ابار شركة الصوناد بالنزول وهناك ابار جفت تماما ويرجع ذلك أساسا الى طول فترات الجفاف وانحباس الامطار والى تأثير الابار العميقة لشركة فسفاط قفصة.
وبدأ مسار القضية بإعداد عريضة شعبية جابت كل احياء مدينة الرديف واستطعنا من خلالها ان نجمع ما يقارب ال 250 توقيعا.
عينة من العريضة الشعبية
وفي مرحلة ثانية قمنا بالتنسيق مع عدل منفذ للقيام بزيارة لمنطقة الطرفاية عاين من خلالها تجاور ابار الصوناد وابار الشركة. وبعد ذلك حددت اول جلسة في 25 ديسمبر 2021 حضرها ممثل شركة فسفاط قفصة الذي طلب التأجيل بينما طالب المحاميان المكلفان بمتابعة القضية المحكمة بتعيين خبراء مختصين في المياه والتربة ليبينوا مدى تأثير ابار شركة فسفاط قفصة على المائدة المائية بالمنطقة. والى حدود كتابة هذه الأسطر، مازلنا ننتظر تعيين خبراء من طرف المحكمة.
- مشكلة مصب القنة بصفاقس
لطالما مثل مصب القنة بمدينة عقارب ارقا حقيقيا لسكان المنطقة الذين عانوا الامرين منذ احداثه سنة 2008 ولأجل ذلك خاضوا نضالات متعددة كانت كلها تنادي بإيقاف هذه الكارثة وبضمان حق أهالي المنطقة في العيش في بيئة نظيفة.
وكان اللجوء للقضاء من بين الحلول المطروحة فتم رفع قضية ضد الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات في الغرض سيما بعد معاينة حجم الاخلالات والتجاوزات التي ترقى الى جرائم بيئية وخاصة منها التخلص من الفضلات الطبية في المصب وتجاوز انبعاث الغازات السامة الكميات المسموح بها قانونيا. وصدر الحكم الأول والذي قضى بالغلق الفوري للمصب مما مثل دفعة قوية للحراك لكن السلطة ممثلة في وزارة البيئة تنكرت لهذا القرار وأصرت على مواصلة استغلال المصب في تحدي صارخ لمصلحة الأهالي وحقهم في بيئة سليمة وللقرارات القضائية الصادرة في الغرض.
وامام هذه الوضعية قرر نشطاء الحراك، بعد مشاورات عديدة، القيام بغلق المصب بالقوة ومنع الشاحنات من دخوله وهو ما تم فعلا بداية من شهر سبتمبر 2021. وكردة فعل على هذا التحرك قامت السلطة باللجوء الى استعمال القوة من اجل فتحه في نوفمبر 2021مما أدى الى اندلاع مواجهات بين قوات الامن والأهالي العزل أدت في نهاية المطاف الى استشهاد المواطن “عبد الرزاق الاشهب” بسبب الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع[2].
ورغم هذا الترهيب أصر الأهالي على مطالبهم وهو ما اجبر السلطة على التراجع والدخول في سلسلة من المفاوضات أدت في النهاية الى حلحلة المشكل جزئيا بأن تم غلق المصب وتجميع نفايات ولاية صفاقس في موقع وقتي في انتظار الحل الجذري الذي سيضمن حق أهالي عقارب في العيش في فضاء نظيف.
مسيرة احتجاجية بالشاحنات تنديدا بالتلوث في عقارب
- المجتمع المدني في تونس جزء من الحل
كشفت الإشكالات البيئية التي تعاني منها جل المدن التونسية عن غياب استراتيجيا واضحة للنهوض بالواقع البيئي ورغم تعدد الهياكل ابتداء من وزارة البيئة وصولا الى الدواوين والوكالات (الديوان الوطني للتطهير والوكالة الوطنية لحماية المحيط والوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي…) الا ان الوضع يتجه من سيء الى اسوء وهو ما يعكس ان المشكلة أعمق من احداث إدارات وهياكل لأنها في نهاية المطاف مسألة خيارات مرتبطة ارتباطا عضويا بمنوال التنمية.
و يكمن الحل في تغيير هذا المنوال الذي يجب ان يجعل من حماية البيئة أولوية والاستثمار في المشاريع في إطار الاقتصاد الأزرق والاقتصاد الأخضر فمثلا يمكن ان تتحول ازمة النفايات التي تعيشها كل الجهات الى مصدر للثروة وهو ما نادت به عديد المنظمات والجمعيات التي قدمت الحلول والبدائل لكل هذه الإشكالات و في هذا الصدد نذكر بما يطرحه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية الذي نادى مرارا بالقطع الجذري مع سياسة الردم التي تنتهجها الدولة التونسية منذ سنوات و الانطلاق في تبني مشروع متكامل بالتنسيق مع البلديات من اجل تثمين النفايات المنزلية و المشابهة و تشريك منظمات المجتمع المدني التي يمكن ان تلعب دورا مهما من حيث التأطير و التوعية و التحسيس مع ضرورة الانفتاح على المؤسسات التربوية لتكوين جيل متشبع بالثقافة البيئية اللازمة.
وقد ساهمت عديد الجمعيات في هذا المجهود سواء عبر العمل الميداني مثل المساهمة في عملية التشجير التي قامت بها جمعية “سولي اند قرين” والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في القيروان والرديف أو عن طريق إسناد المطالبين بحقوقهم البيئية والدراسات الميدانية الهادفة الى الكشف عن التجاوزات في المجال البيئي من طرف مؤسسات الدولة أو المنشآت الصناعية. كما يتسنى للمجتمع المدني والحركات المنظمة تفعيل مبدأ التقاضي واستغلاله في افتكاك الحقوق.
ويبقى دور منظمات المجتمع المدني محوريا وأساسيا في الدفع نحو تبني منوال تنموي جديد من خلال ابراز النتائج الكارثية للمنوال القديم سواء على مستوى مؤشرات التنمية الجهوية او على مستوى الكوارث البيئية والصحية التي خلفها والتي تحتاج الى سنوات عديدة لإصلاحها. ومن هنا، سعت عديد الجمعيات الى الدفع نحو بناء منوال تنموي في إطار اقتصاد اجتماعي بعيدا عن المنهج الليبرالي الذي لا يمكن ان يحقق الا نموا لفائدة مجموعة معينة على حساب الأغلبية. كما طرحت مسألة الرهان على الصناعات الملوثة وهل ان الجدوى الاقتصادية التي تتحقق من ورائها كفيلة بالتغاضي عن المآسي البيئية والصحية والجمالية التي تلحق مدنا وجماعات بأكملها وهي في تقدير الكثير من الجمعيات تكلفة باهظة تفوق حجم المرابيح التي تغنمها الدولة. ولذلك وجب الرهان على الصناعات النظيفة ذات القيمة المضافة العالية والقادرة في نفس الوقت على تحقيق النمو والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.
[2] لمزيد الاطلاع على ازمة النفايات في عقارب، الرابط التالي