الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة في مشروع سعيد: مدخل لقراءة أنثروبولوجية
رضا كارم
“تتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في الغذاء الكافي، والحقّ في السكن اللائق، وفي التعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي، والمشاركة في الحياة الثقافية، والمياه والصرف الصحي، والعمل” [1]. إذا اعتمدنا هذا النّصّ مقياسا لقراءة ما احتواه مشروع قيس سعيد من نصوص حول الحقوق موضوع المقال، فإنّنا سنلفي جزءا هامّا من التّوطئة وعشرين فصلا كدّست كلّها للإشارة إلى سعي الرّئيس لضمان مجمل هذه الحقوق. فقد وردت أربع فقرات في التّوطئة تشير إلى الثّورة على التّجويع ومطالب الشّغل والكرامة واستعداد الرّئيس من خلال ما سمّاه الثّورة التّصحيحيّة لاستعادة الثّروات الطّبيعيّة. وبيّن ضمن قراءة تاريخيّة أنّ تاريخنا الرّاهن هو تاريخ الحرّية والسّيادة وتحقيق الكرامة الوطنيّة. ثمّ وضع لمشروعه هذا أهدافا تأسّس عليها وهي تحقيق السّيادة والكرامة. فأكّد أنّ العدل عماد السّلم الاجتماعيّة، والحرّية عماد الكرامة، و”السّيادة الكاملة والاستقلال الحقيقي” عمادا عزّة الوطن. ثمّ ربط “الدّيمقراطية الحقيقية” بشرط “الدّيمقراطيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة” الّتي تتحقّق من خلال الحقّ في “الاختيار الحرّ” و”مساءلة من يختاره”. ثمّ حشا النّصّ بقوله “ومن حقّه التّوزيع العادل للثّروات”. وختم بالإشارة إلى العلاقة السّببيّة بين النّظام الجمهوري والآمال في حفظ السّيادة وتوزيع الثّروات توزيعا عادلا. وأكّد على استمراريّة التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة “في بيئة سليمة تزيد تونس الخضراء اخضرارا من أقصاها إلى أقصاها، فلا تنمية مستمرّة دائما إلّا في بيئة سليمة خالية من كلّ أسباب التّلوّث”.
كما أشار نصّ مشروع سعيد إلى ضمير المتكلّم الجمع “نحن” وأردفه قوله ” الشّعب التّونسي” وهو بذلك يتمايز عن نصّ 1959 الّذي يفتتح كلامه بالقول ” باسم الشّعب نحن الحبيب بورقيبة” وعن نصّ 2014 القائل “نحن نوّاب الشّعب التونسي أعضاء المجلس التّأسيسي”. وهي التّراكيب الّتي تغيب كلّيا في مشروع بلعيد- محفوظ ليحضر بدلا عنها القول “إنّ الشّعب التّونسي يعلن”. وفي المحصّلة فإنّ جميع التّوطئات المشار إليها تتحدّث نيابة عن الشّعب وتتفاوت هذه النّيابة من نصّ إلى آخر لتبلغ أوجها مع نصّ 1959 الذّي يشير إشارة مواربة إلى الشّعب ليمرّر رؤية الحبيب بورقيبة بل يسمّيه ويعلن عن حضوره. أمّا نصّ قيس سعيد فهو لا يكتفي بتصميت الشّعب وسلبه حقّ الكلام بل يحتكر صوته ولسانه ويتحوّل ناطقا باسمه معتمدا بناءات لغويّة مختلفة جذريّا عن البناء اللّغوي لنصّ بلعيد – محفوظ مثلا.
وهكذا يفتتح سعيد كل فقرة من التّوطئة بجملة التّخصيص “نحن الشّعبَ التّونسي” ويردفها بالقول صاحب السّيادة . فتغدو الجماعة تعبيرا عن الفرد الواحد وهو في حالتنا هذه ليس إلّا قيس سعيد ذاته الّذي خصّص الشّعب بالتّسمية ثم ناور لغويّا ليحوّل حضور ذاك الجسم الهلامي إلى مفرد “صاحب سيادة”. وبما أنّ المسؤول عن النصّ هو سعيد، فإنّ النّتيجية المنطقيّة الأكثر مقبوليّة في هذه الحالة هي أنّ سعيد كفّ عن أن يكون ناطقا باسم جسم جامع اسمه الشّعب وبات هو الشّعب ذاته مختزَلا كلاميّا ومقاميّا في ذات قيس سعيد صاحب النّصّ. أي أنّ سعيد ألغى الشّعب مباشرة إثر استحضاره وعوّضه بالرّئيس المسؤول عن النّصّ. وهكذا فإنّ سعيد لم يستدع الشّعب للاستماع إليه، بل استحضره ليقوم على الفور بتغييبه واستعمال الحضور الخطابي لتبرير سطوة الرّئيس على المقام التّواصلي. إنّنا تداوليّا إزاء نصّ يحضر غائبين من أجل إخفائهم بعد اعتمادهم مؤشّرات في المقام للتّمويه على طبيعة النّصّ المسقطة وطبيعة الرّئيس الاختزاليّة التّعسّفيّة.
النص المجرّد و الواقع المركّب
إذا كان ما تقدّم محاكما للنّصّ كلّه بجميع مستوياته توطئة وفصولا وأحكاما فإنّ التّركيز على الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة في مستوى التّوطئة يحيلنا إلى نظام أسلوبي قائم على المبالغة والتّشبيه والاستعارة والاستثناء والحصر. ومنه قوله “نحن الشعب التونسي، صاحب السيادة، الذي حقّق بداية من يوم 17 من شهر ديسمبر من سنة 2010، صعودا شاهقا غير مسبوق في التاريخ، ثائرا على الظلم والاستبداد وعلى التجويع والتنكيل في كل مرافق الحياة”[2]. لنلاحظ أنّ النّصّ يتحدّث عن صعود ينعته بالشّاهق وغير المسبوق في التّاريخ. ثمّ يزيد فيستعمل مركّبا شبه إسنادي ليحدّد حال الشّعب التّونسي الصّاعد. والمفعول به الّذي شكّل مدار الثّورة هو الظّلم والاستبداد معطوفا على التّجويع والتّنكيل في كلّ مرافق الحياة. والواقع أنّ الزّيت والدّقيق كانا متوفّرين دون قيود أو موانع. وأنّ ما كنّا نحسبه تجويعا وتعطيلا عن العمل، لا يقاس بأيّ حال من الأحوال بحجم ما نعانيه اليوم من أجل اقتناء لتر من الزّيت المستورد أو رطلا من السّكّر. وهكذا فإنّ أمثلة بهذه البساطة تعرّي سوأة النّصّ وتفضح ثرثرته وإنشائيّاته الّتي خرّبت النّصّ وحوّلته إلى بيان سياسي ينتمي إلى زمن إديولوجي مطلق لا علاقة له بالواقع المركب وأهله المتعددّون .
ودون أن نسقط في تبرير الاستبداد النّوفمبري والحكم المطلق الّذي مارسته دولة بورقيبة –بن علي، فإنّ ما يقع أمامنا اليوم ليس مختلفا بأيّ معنى عمّا كنّا نحياه من معاناة فعليّة في مستوي حياتنا اليومية البسيطة , وهكذا فإنّ “الصّعود الشّاهق غير المسبوق” ليس شيئا آخر غير كونه نزولا ساحقا وانغراسا في الظّلم وتقبّلا للاستبداد والرّأي الواحد. فتنقلب استعارة الصّعود على سعيد وتفضحه باعتباره سيّد النّزول ومحدّده الرّئيس وهو الّذي قضى سنة كاملة دون أن يقوى على حلّ أزمات مثل توزيع الزّيت والقطع مع الانقطاعات اليوميّة للماء الصّالح للشّرب والتّزوّد بالسّكّر والبيض. ولم يتوقّف التّجويع الّذي يتواصل رفضه والانتفاض ضدّ مسبّبيه من أهل السّلطة المباشرين، ولنا في جانفي 2021 خير مثال على ذلك. بل لم يكن حدث 25 جويلية الّذي ذهب فيه سعيد إلى تأويل مغال لنصّ دستوريّ مرتبك، كفيلا بإعادة الموادّ الغذائيّة المفقودة إلى بيوتنا، بل ظلّ طيلة سنة يضع صواريخ الألفاظ على منصّات الاستعارات وينتهي بنا الأمر تحت قصف بلاغي بليد التّركيب قبيح النّتائج.
وسنلمح مزيدا من هذه الألعاب الإنشائيّة في فقرة أخرى من التّوطئة حيث يقول سعيد: “نسعى بهذا الدستور الجديد إلى تحقيق العدل والحرية والكرامة، فلا سلم إجتماعي دون عدل، ولا كرامة للإنسان في غياب حريةحقيقية، ولا عزة للوطن دون سيادة كاملة ودون استقلال حقيقي (…) إننا،ونحن نقر هذا الدستور الجديد، مؤمنون بأن الديمقراطية الحقيقية لن تنجح إلاّ إذا كانت الديمقراطية السياسية مشفوعةبديمقراطية اقتصادية واجتماعية، وذلك بتمكين المواطن من حقّه في الاختيار الحر، ومن مساءلة من اختاره ومن حقّه التوزيع العادل للثروات الوطنية” [3]. يميل النّصّ إلى أسلوب الحصر. فيحصر تحقّق السّلم الاجتماعي بتحقّق العدل، ويحصر حضور الكرامة بحضور الحرّية “الحقيقيّة” ولا يرى للوطن من عزّة دون سيادة كاملة واستقلال حقيقيّ. وبالحصر تُبنى علاقة تلازميّة شرطيّة منطقيّة تحوّل المتعلّق بأداة الحصر إلّا في قوله (الديمقراطية الحقيقية لن تنجح إلّا إذا كانت الدّيمقراطية السياسية مشفوعة بديمقراطية اقتصاديّة واجتماعيّة) أي الديمقراطية السّياسيّة المشفوعة بديمقراطية اقتصادية واجتماعية إلى شرط منطقيّ ومسبّب ضروريّ لحصول السّبب أي الديمقراطية الحقيقية على نمط التّلفّظ القيسي.
ونخلص من خلال قراءتنا الموجزة لهذه الفقرات من التّوطئة إلى أنّ قيس سعيد يكتفي بالاتّجار في بضاعة لفظيّة يعرضها على قارعة طريق مهجورة تخلو من كلّ مستمع.
أما المجتمع فقد انتقل مرارا من ضفّة الإنصات إلى ضفاف الإنجاز، ولمّا بان له أنّ الإنجاز مسألة حالمة لا أثر لها في التّاريخ العينيّ، فقد حمل زاده من الصّبر وانتحى ناحية التّجاهل واللّامبالاة والنّسيان. فأسقط من ذاكرته السّياسة والمشتغلين بها ومطلقي الكلام بلا هوادة والفاعلين الرّكحيّين الّذين لا يستحون من ارتداء أقنعة مختلفة حدّ التّناقض لأداء الدّور الواحد. وكلّ ما يفعله سعيد لا يجاوز أن يكون استدرارا لعاطفة شعبيّة لا يبدو أنّها مستعدّة للتّواصل الدّائم معه ولا مع غيره. فجاءت جملته الإنشائيّة تعبيرا عن مأزق سياسي وشكلا من أشكال تقديم عروض ركحيّة مغالية في المبالغة بهدف استحقاق عطف شعبيّ ما.
أمّا في مستوى الفصول الّتي عرضت للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، فقد كان النّصّ أميل إلى الاقتضاب والدّقّة والحرص على الإشارة إلى مجمل مكوّنات المنظومة الحقوقيّة المشار إليها في لغة تبدو تقنية ومعنى يبدو واضحا. فخلت الفصول من كلّ تزوّد لفظيّ وحشو وسفسطة وتلبيس اصطلاحي. وقد أشار سعيد في مشروعه إلى الحقوق الاقتصاديّة فذكر الثّروات وألحقها بالشّعب التّونسي واعتبرها خالصة له على أساس العدل والإنصاف وهي العبارة الّتي يصرّ عليها سعيد الّذي يتهرّب في نصّه من مقولة التّوزيع العادل للثّروات مثلما يتهرّب من مقولة المساواة ويفضّل استعمال العدل والإنصاف. وهو ينطلق في ذلك من نقاش فلسفي قديم يعتبر المساواة تعني التّقايس وتنتهي إلى أن ينال الجميع المقدار نفسه أو النّصيب نفسه، في حين أنّ الإنصاف يعني أن ينال الجميع المقدار الّذي يلبّي حاجته. فالعائلة المتكوّنة من خمسة أفراد تحتاج خبزا أكثر من العائلة المتكوّنة من فردين. فإذا اعتمدنا المساواة فإنّنا سنمنح العائلة الأولى والعائلة الثّانية المقدار نفسه، وربّما ننتهي إمّا إلى جوع عائلة أو إلى تبذير عائلة أخرى أو إلى الأمرين معا. وهكذا فإنّ مبدأ الإنصاف سيحقّق العدل عندما يمنح كلّ عائلة نصيبها المستحقّ. لكنّ هذا النّقاش انتقل عند قيس سعيد من مستواه المنطقي الأوّل إلى مستوى إديولوجي حصرا. وهو يستعمله لضرب مفهوم المساواة الّذي تطرحه الحركة النّسويّة مثلا. وليس في إصراره على معاودة استعمال هذه الصّياغة إلّا حرص إديولوجي منه على زرع حضوره الشّخصي في نصّ دستوري وُضع للشّعب التّونسي نظرا وافتراضا.
بل يمكننا القول إنّ تونس منذ زمن الاستبداد السّياسي المطلق في عهدي بورقيبة وبن علي لم تتخلّف عن تضمين قوانينها نصوصا تدعم هذه الفئة الاجتماعيّة أو تلك ولو أنّ الممارسة أكّدت على نقيض ما أمضي عليه من معاهدات. فقد انتهى دستور 1959 حفنة من الأوراق يتلاعب بها البلاطيّون من عسكر السّلطان ودائرته الفاسدة. من بورقيبة إلى بن علي وحاشيتهما إلى سيّدات القصر وسيلة ثمّ ليلى، ظلّ دستور 1959 محض كلام ملقى على عواهنه لا أحد يحمله على محمل الاحترام. فقد صرّح النّصّ بديمقراطية النّظام وجمهوريّته ثمّ تراجع وصمت فسمح لبن علي بأن يحوّره ساعة بعد أخرى ليستجيب لترشّحاته المتتالية ولمناشدات بائسة صدرت من كلّ صوب تطالبه بالإقامة على أقدارنا سنين أخرى. ولم يشذّ دستور 2014 دستور الثّورة- كما سمّى نفسه- عن القاعدة، ليعاود تكرار بذاءات التّاريخ التّونسي ذاتها. دستور يعظّم الأمور ويحصّنها من كلّ عدوان، لكنّه يتجاهل بالكامل منظومة قانونيّة من مناشير وزاريّة ومذكّرات داخليّة تسقط الدّستور برمّته ضربة واحدة. لقد كانت سنة يتيمة كفيلة بفضح كذبة دستور الثّورة العظيم التّقدّمي الّذي لا يكاد يكون له مثال عند العرب والعجم وسائربلاد الجوار. ففي القيروان تعرّض قوم إلى فحص شرجي للتّثبّت من ميولاتهم الجنسانيّة ومحاسبتهم إن بان أنّهم مثليّون، رغم أنّ الدّستور يتيح الحرّيات الفرديّة لفظا صريحا ومعنى واضحا.
إنّ ما تقدّم يعني بالضّبط أنّ الدّساتير في تونس توضع لكي تخترق. إنّنا إزاء أنظمة سلطويّة استبداديّة تختزل أصوات الجمهور في أصواتها وتحضر المجتمع لتغيّبه وتبني له ركحا اليوم لتنفيه منه غدا وتستأثر بالرّكح وحدها. هكذا تصرّف بورقيبة وبن علي والغنوشي والشّاهد والباجي، وهكذا سيتصرّف بالضّرورة قيس سعيد. ولذلك فإنّ الدّساتير الّتي يكتبها السّاسة دون وعي رهانات الجمهور هي محض ألفاظ تزيّن جدران الدّولة ومؤسّساتها وتُعرض على الأمم المتّحدة وعلى أعضائها من سائر الدّول، فتصدر حولها تقييمات إعلاميّة مبشّرة بالخير وأخرى مشكّكة، ومن ثمّ ينتهي النّقاش. ذلك أنّ النّصوص الّتي لا ينطقها الواقع الحقيقي ولا يكتبها الهمّ الجماعي لا يمكن بأيّ معنى أن تكون نصوص الجمهور أو الشّعب كما يسمّيه قيس سعيد. هذا الشّعب الّذي يدّعي تمثيله والنّطق بلسانه لم يفوّض لسعيد كتابة دستور ولم يطلب أن يُستفتى في شأن متعال مماثل. فالصّيغ القانونيّة المجرّدة هي محض صياغات متعالية عن مطالب الجمهور من الكرامة بما تعنيه من استقلاليّة ورفاه وأمان وحرية.
لقد راهن قيس سعيد على كتابة الواقع كتابة مجرّدة من المحايث واليومي. ولذلك نحن إذن إزاء نصوص يكتبها جماعة “الأعلى” من ساكنة الطّمأنينة والفكاك من الجوع والفاقة والحرمان. وهي نصوص توضع لجماعات “الأسفل” من أجل إنشاء ما يشبه جدل أفلاطون النّازل الآمل في صعود حكيم نحو عالم الماهيات الجوهريّة. ويتحقّق جدل أفلاطون، عند سعيد وعند من شابهه من فيالق النّطق بدلا عن جمهور الواقع المرير، من خلال جمل قانونيّة لا قيمة لها بعد تحريرها ولا قيمة لها قبل التّحرير. وهكذا فإنّ نصّ سعيد باعتباره نصّا متعاليا لا يتفكّر أزمات الواقع العينيّة، هو نصّ آخر سيلقى نصيبا واسعا من الازدراء والتّجاهل والرّفض والسّقوط المقبل سريعا. ولذلك فإنّ استراتيجيات “الأسفل” الطّبقي وسياسات التّحت الاجتماعي لن تقبل طويلا هيمنة الثّرثرة الدّستوريّة الّتي احتلّت فضاء الخطاب الإعلامي على مدى السّنة المنقضية. قريبا يغادر الجمهور كراسي صمته المؤقّت ويفرج عن هدير غاضب مدوّ يعلنها عاليا ضدّ قرطاج وقيصرها وضدّ القادمين ومشاريعهم: لا نصّ يعلو على نصوص التّاريخ الماثل وجراحات الفاعلين وركح المحرومين من أدوات تحقيق النّزر اليسير من الوجود الكريم.
إنّ أنتروبولوجيا الواقع لم تكفّ يوما عن تأكيد رفضها للاختزالات السّلطويّة الاستبداديّة الّتي يشرف عليها منتخبون من معسكر اللّيبراليّة التّابعة. وهذا يعني أنّ أنتروبولوجيا الواقع المهيمن عليه لم تكفّ عن معاندة أنتروبولوجيا السّلطويّة المهيمنة وإذا جاز لكلا الخصمين الطّبقيّين كتابة ثقافته وأنتروبولوجيّته فإنّ التّاريخ ومساراته تؤكّد على سقوط كلّ أنتروبولوجيا لا تلتزم صياغات اليومي وشروطه ورمزيّاته ونظمه الأولى، أي لا تلتزم حلّ مشكلات التّزويد بالماء الصّالح للشّرب والزّيت والسّكّر والبيض. وضمن هذا المعنى يمكننا القول إنّ مشروع قيس سعيد لم يوافق مقتضيات الواقع ومصالح الجماهير الّتي يدّعي تمثيلها في عناوين من قبيل “الشّعب يريد. والجليّ أنّه يضع نصّا يهيّئ لزمن دكتاتوري يكون فيه للرّئيس –الزّعيم مطلق السّيطرة على التّاريخ.
[1] الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، موقع الأمم المتّحدة، تاريخ الاطّلاع: 07/07/2022،
الرّابط: https://www.ohchr.org/ar/human-rights/economic-social-cultural-rights
[2] التّوطئة، الرّائد الرّسمي للجمهوريّة التّونسيّة -30 جوان 2022، عدد 74، ص، 2343.
[3] م، ن، ص، 2343.