مشروع الدستور: مشروع لم/لن يخُطّه الشباب على الجُدران

0
1880

مشروع الدستور: مشروع لم/لن يخُطّه الشباب على الجُدران:

سُفيان جاب الله

 

مشاريع في مشروع: مشروع الإماراتيين والسعوديين، ومشروع الريع الاقتصادي الحاكم، ومشروع النظام القاعدي ولو كان شكليا، ومشروع سعيد الشخصي والوجودي، كلها تم تدوينها في الدستور، إلا مشروع العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.

سنشرح، فيما يلي، كيف نعتبر هذا الدستور، دستور الجميع إلا دستور ما يسميه قيس سعيد ” ما خطه الشباب على الجدران”؟ ولماذا نذهب هذا المذهب؟

الفصل/ أو الطابور، الخامس؟ :

“تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الدفاع على النفس والعرض والمال والدين والحرية”.

-الفصل الخامس ”خاصّة” بعد تعديله-

عبر الفصل الخامس المعدل، حسم قيس سعيد، وحلفائه في الداخل والخارج، المعركة مع الخصم الأقوى المهدد لسيطرتهم على السلطة، أ لا وهو الإسلام السياسي. وليس ذلك من باب الدفاع عن مدنية الدولة (تم محوها من الدستور) ولا عن الحداثة والتحرر، بل دفاعا عن مصالح نظام حاكم/ حكم ضد نظام حكم منافس كان يحكم ويريد العودة للحكم.

فبقراءة سريعة بعين علم الاجتماع السياسي، يمكن أن نستقرئ ما يلي في هذا الفصل:

لوحدها: فقط الدولة، ولها حاكم فعلي وحيد ومطلق، وهو قيس سعيد، من لديها الحق دستوريا في العمل على تحقيق مقاصد الإسلام.

في ظل نظام ديمقراطي: قوة الإسلاميين، وقوة تسيسيهم لمسألة فقه المقاصد، تكمن في توجيههم رسالة إلى الداخل الانتخابي: وهو مجتمع مسلم تواق إلى الديمقراطية والإسلام في آن، تخاطب فيه توقه إلى حرية لا تقوم على حساب دينه. ورسالة إلى الخارج: الغرب أساسا، تخاطبه ضامنة وجود ديمقراطية نيو ليبيرالية تؤمّن الاستقرار والسلم.

وفي مستوى آخر، فإنّ إضافة ” في ظل نظام ديمقراطي” لا تضمن مدنية الدولة ولا فصل الدين عن السياسة بطبيعة الأمر. ففي كل من جمهورية إيران والكيان الصهيوني توجد أنظمة ديمقراطية في ظل تدين الدولة وعملها على نصرة دين أمتها. بل تضمن، كما فسرنا أعلاه، سحب البساط من تحت الأحزاب ذات المرجعية الدينية.

من جمهورية الشعب يريد إلى جمهورية الله يريد:

مررنا عبْر مشروع الدستور، خاصة بعد تعديله بإضافة في ظل نظام ديمقراطي، من دولة يحتكر رئيسها إرادة الشعب، إلى رئيس يحتكر إرادة الله والشعب والدين. وإن كانت إرادة الشعب قابلة للرصد والتكميم والقياس عبر سبر آراء أو مسح إحصائي أو استشارة إلكترونية، كتقنيات بحثية قادرة على اختبار المقولات التي تجعل من الرئيس ناطقا رسميا باسم المجتمع، عبر التأكيد أو النفي، فإن إرادة الله والدين عموما، إذا ما صار الرئيس الناطق الرسمي والوحيد باسمها بل المنفذ الوحيد لها، فهي غير قابلة للاختبار ولا للجدال ولا للتنسيب. وهكذا قد مررنا من جمهورية ”الشعب يريد” إلى جمهورية “الله يريد”، ومن دستور كتبه الشعب على الجدران إلى دستور أنزلته الملائكة. وبالتالي صرنا نواجه رئيسا بمثابة إمام وولي أمر وناطق رسمي بإسم النقلِ الذي صار هو عقل الدستور والدولة والمجتمع.

المقاصد من وراء دسترة المقاصد:

إذن الدولة، عبر رئيسها، وباعتبارها جزءا من أمة إسلامية، ومسؤولة، وحدها، كما ينص على ذلك الفصل الخامس، عن تحقيق مقاصد الإسلام (الفكرة تعود لمقولة فقه المقاصد للشاطبي /وابن عاشور لكن مع تعديلات)، وتحتكر الحق في تسييس الدين وسياسته،  هي دولة دينية في منطلقاتها وغاياتها وأساليبها.

 كيف ذلك؟ ولماذا هذا الحكم؟ : لأنها، بإيجاز، دولة عقلها يولده النقل، وما هو وضعي يضع شروطه ما هو ديني. وبدسترة هذا التوصيف، صار لتونس دستور لم يحاول حتى الإسلاميون أنفسهم تمريره.

في الظاهر هذا الدستور يخدمهم (وهذا ما يعتبره حزب التحرير مثلا تحريفا للإسلام وخدمة للإسلاميين ونزعا لقوة الإسلام بحلول الاجتهاد مكان الجهاد وضرب فكرة الخلافة والتوسع إلخ…) لكنه، في الباطن، يقضي على كل أحلامهم (احتجت قياداتهم على مشروع الدستور معتبرة إياه قد قام بالقضاء على أسس الدولة المدنية). فقوة الأحزاب الإسلامية هي النشاط السياسي في إطار مدني ديمقراطي بجعل ضعف الدين وكونه في خطر وكونهم الوحيدين الساعين لنصرته، السلاح القوي في معركتهم من أجل كسب أصوات الناخبين. لكن الإسلام السياسي يضعف في إطار سيستام دكتاتوري يستنير فيه صاحب السيادة من النقل قبل العقل وينصب نفسه، ‘رئيسا جمهوريا’ للمؤمنين محققا لمقاصد الدين ووليا لأمرهم. وهكذا يجفف منابع الإسلام السياسي لا بمحاربة التدين أو بتحديث الإسلام بل برسم بورتريه للرئيس المؤمن على طريقة أنور السادات، أي بأسلمة السياسة: لا عن طريق نظام حاكم يأتي للحكم عبر حزب ينتهج الإسلام السياسي، بل عبر دولة تسوس المجتمع باعتماد مقاصد الإسلام منطلقا وغاية وأسلوبا.

ربما يجد بعض القراء في هذا ضربا للإسلاميين في مقتل، وأن ذلك في حد ذاته هو فعل إيجابي. لكن على العكس تماما، لا يمكن أن يكون من الإيجابي دسترة أسبقية النقل على العقل وتَسَلُّفْ (Salafisation) الدولة فقط للقضاء على الإسلاميين. وكأننا نستعمل العلاج الكيميائي للقضاء على نزلة برد.

فعليا، قيس سعيد، وسنده الجيوسياسي، خاصة الإمارات والسعودية، هدفهم القضاء على خصم سياسي وعدو وجودي لا خوفا على مدنية الدولة وحداثتها بل على حساب هذه الخصال تحديدا. فحتى لو كان الهدف من وراء هذا الفصل سحب البساط من تحت الإسلام السياسي عبر تدخل الدولة في سوق الدين والسياسة عبر احتكار (لوحدها) تأويل ما هو ديني (المقاصد الخمس) وتحقيق مقاصده، فإن هذا الفصل حمال أوجه وقابل لتأويلات متعددة ويفتح الباب لإمكانية التأسيس لحكم ديني في حقبة قيس أو بعدها.

هذا البراكسيس في مشروع سعيد يوضح السعي لبناء دولة غير ديمقراطية وغير مدنية تضمن استقرارا سياسيا بوضع قواعد لعبة لا منتصر ولا منهزم فيها لأنها تعلن وجود نتيجة دائمة وتقصي من اللعبة أقوى اللاعبين، ألا وهم الإسلاميون ولكن أيضا تقصي اللاعبين الثانويين ألا وهم الديمقراطيون التقدميون واليسار والمجتمع المدني الحقوقي.

من جهة أخرى، كما هو بين، لا وجود للعدالة الاجتماعية في مقاصد الإسلام بل أن المنظور الإسلامي للمسألة الاقتصادية هو ليبرالي ولا تتدخل فيه الدولة إلا لكفالة الأكثر ضعفا، وهذا ما دونه دستور سعيد الذي لم يدستر ضمان عدم تغول الريع الاقتصادي أو حتى هيمنة رأس المال على الطبقة المنتجة أو دور الدولة في تعديل الكفة نحو العدالة الاجتماعية. بل دستر كفالة الأكثر هشاشة ( أي أكبر الخاسرين من لعبة الصراع الاقتصادي) أي الشباب والعاطلين عن العمل ( أغلبهم شباب أيضا). لكن لا وجود لدسترة مكافحة الاستغلال الاقتصادي للقوة المنتجة شبابا ونساء ورجالا، لأن الفقه القيسي يرى  أن تطبيق القانون هو جوهر العدل حتى إن كان القانون استغلاليا. ومن لا يطبق القانون الظالم فهو ظالم ومن يطبقه فهو عادل. وهكذا يتساوى مالك البنك وعامل النظافة. إد أن الامتثال الأعمى للمعايير والقوانين دون مساءلة جوهرها ومنطلقاتها ودون موضعتها هو أساس سياسة رئيس الجمهورية. فالأخلاق والقيم والمثل هي مصانع وتقنيات وثروات بالنسبة إلى الاقتصاد الأخلاقي لقيس سعيد.

إذن، وعبر دسترة ” اللاعدالة الاجتماعية”، صارت الجمهورية مبنية على دولة رعايا لا دولة رعاية. لا تتدخل هذه الدولة لتعديل الاقتصاد وتحقيق العدل ومقاومة السيادة الاقتصادية الاحتكارية ‘’الكارتالية’’ لطبقة أقلية على الأغلبية، لأنها تكتفي بالسيادة الخطابية وتترك الهيمنة الفعلية لرأس المال، أو لأوليغارشيا الريع الاقتصادي العائلي صاحب السيادة والحاكم الفعلي لتونس منذ قرون. بل تتدخل لشرعنة إنتاج وإعادة إنتاج اللاعدالة.

تغيير الدستور والحكم المنفرد: صيرورة أم ولادة سيرورة جديدة؟

كُنّا في مقال تحليلي نُشر في موقع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أواخر أوت من سنة 2021، بعنوان: “الشعب يريد، عودة الدولة أم صيرورة الثورة أم كلتاهما معا”؟[1]، قد قدمنا تحليلا تشريحيا مفصلا لما اعتبرنا/افترضنا أنها مرجعيات تولد تكتيكات واستراتيجيات قيس سعيد إضافة إلى محاولة ‘’ موضعة (Objectivation) ‘’ وجوده السياسي عبر تشخيص للسيرورة (processus) التي أنجبته فصار عراب صيرورتها (devenir) الجديدة وحصان طروادتها القديمة.

انطلقنا في ذلك التحليل من تشخيص نقدي لمسار الانتقال الديمقراطي مرورا بسعي السيستام القائم لتبديل جلدته والانبعاث في شكل جديد وصولا لكارل شميث ومسألة العداء للديمقراطية التمثيلية ومسألة صاحب السيادة والشرعية والمشروعية وحالة الاستثناء الخ..

عمليا، نجحت هذه القراءة في توقع ما حدث في تونس منذ أواخر شهر أوت. أساسا ذهاب سعيد قدما في مساعيه. أي تغيير الدستور ومسألة الاستفتاء وخاصة التحويل الجوهري للمنظومة (العلاقة بين الدولة والنظام.(

لم يكن ذلك وحيا او نبوءة، بل نتاجا لقراءة موضوعية متواضعة احترمت نفسها ومن تقرؤه ومن سيقرؤها. فانطلقنا من الواقع الموضوعي باعتباره امتدادا للماضي واستمرارا في الحاضر وتحضيرا لمستقبل ما ممكن، فحاولنا فك شيفراته عوض الرجم بالغيب.

هذه القراءة مكنّتنا من أن نصل إلى ما هو محتوم نظرا لما قاله وفعله وما يقوله وما يفعله قيس سعيد ومن معه منذ سنين ولتناغم ذلك مع إرهاصات الواقع في تونس بكل تعقيداته خاصة منذ أزمة نتائج الانتخابات الماضية وما أفرزته من عجز في الميزان السياسي وزواجها بأزمة جائحة الكوفيد 19.

ما لم يكتبه سعيد في دستوره، لكنه سيكون جوهر تغييره للدستور:

قيس سعيد عصفور نادر، لا فقط للبوليس والجيش ولمن جعلوا من اقتصاد البلاد ريعا عائليا وللإيطاليين المسرورين من توريد سعيد لحدودهم والإمارات المحاربة لمشروع الخلافة السادسة وللدولة جهازا أو قاربا ( شْقٓفْ باللهجة الدارجة) لا ترغب في محرك مزعج. بل هو عصفور نادر لأي باحث في علوم الإنسان والمجتمع والسياسة والتاريخ. إذ أن وضوح مشروعه (لمن يقرأ السطور لا ما بينها) ولا شرطية (inconditionnelle) أفعاله وتحقيقها وتواصلها في الواقع، تجعل التوقع سهلا. لكن، من جهة أخرى، تجعل رد الفعل صعبا في الآن نفسه! ولو كان قيس سعيد سؤالا في المسابقة أو رقما في اليانصيب لفاز الجميع!

إذ رغم غموض تكتيكاته، فالوضوح يعم الأفق الاستراتيجي لمشروعه، بلا سراب وبكرم في إرواء الباحث الضمآن. وهو وضوح يعطيه أسبقية لأنه يحتكر قوانين اللعبة والكرة والملعب.

’’السيستام’’ القيسي الجديد/القديم ذاهب إلى بناء منظومة (أي نتيجة العلاقة بين الدولة والنظام الذي يحكمها) تلغي النظام لصالح الدولة. أي أن كل الأجسام الوسيطة الواقعة خارج جهاز الدولة، والتي تضخمت (كالأسعار)، بفعل مسار الانتقال الديمقراطي، من هيئات وأحزاب سياسية ومنظمات وطنية وجمعيات، ستفقد سبب وجودها وستُشلّ وتُفرد لصالح الدولة باعتبارها، من الآن فصاعدا، جهازا صعب المراس، مستقلا، دائما، لا يتم انتخابه. أحدٌ صمدٌ لا كُفُؤ له ولا يشارٓكُ في سلطته. ويستطيع بالأساس، فعل كُل شيء وحده ولا يستحق أحدا، وهو قادر على الحكم والحوكمة والتسيير لوحده. بل لا أحد لديه القدرة على فعل ما تفعله أو ما يجب أن تفعله الدولة. وللدولة طبعا رئيس واحد أوحد، وبرلمان الشعب يمكن أن يوجد، بالتوازي مع مجلس آخر، لكنه سيكون صوريا دون صلاحيات يحج إليه الشعب بعد أن يكون قد مارس سيادته عبر الرئيس (الوحيد الذي يُنتخب) مباشرة. إذ حتى أن دوره التشريعي، بحكم الدستور الجديد، سيكون محدودا.

وهكذا، ستصبح الهيئات والمنظمات والجمعيات والأحزاب كالحبر الذي لا يجد ورقا ليُكتبٓ عليه. ستصير السلط سلطة واحدة؛ سلطة الرئيس الذي يُنتخب مباشرة (وبالدستور الجديد سيعيد دورتين إضافيتين على الأقل). وهو الوحيد الذي يمثل الدولة والجميع لدى الدولة موظف لا صاحب سلطة مستقلة غيره، فسلطته هي بالأحرى ميتا- سلطة (un méta pouvoir) في علياء لا يدركها أي من الساعين للحكم وأي من المحكومين. إذن فالجميع موظفون لدى رئيس جمهورية أشبه برئيس مجلس إدارة شركة هو نفسه الوحيد الذي لديه علاقة بمالكها لأنه هو من يملكها فعليا. وهكذا ندخل في غيمة من التوحد السياسي. فلا شيء مفصول وخارج عن الدولة بما هي جهاز واحد متحد. سنصير إذن دولة لديها نظام حكم ودون نظام حاكم. فالدولة هي النظام والنظام هو الدولة، وهما في حالة انصهار. فالنظم تتغير، وهي قابلة للسقوط والصعود، تنتخب وتأتي وتذهب وتعود. لكن الدولة وحدها، الدّولة معرّفة بالألف واللام، هي الباقية، وهي تتمدد على حساب النظام بما هو أجسام لا تنتمي إلى الدولة وترغب في حكمها/حوكمتها/وتنظيمها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.. وذلك، أي تمدد ما هو دائم على ما هو متجدد، يكون دائما حسب الهوى القيسي. إذن سيحال كل من هم خارج الدولة، أي الهيئات والمنظمات والأحزاب والجمعيات، على التقاعد الوجوبي إلا إذا ما عادوا إلى الرشد السعيدي وحجوا إلى صراط الدولة ووجدوا من لدُنها ملاذا وصاروا موظفين لديها أو مسبحين بحمدها، شأنهم شأن القضاة والبوليس والإداريين والنقابيين والناشطين والجمعيات. وهكذا تخيلوا قضاء دون سلطة، وبرلمانا دون تشريع وانتخابات دون صندوق ونقابة دون اعتراف، وجمعيات دون تمويل الخ… نظرة تشاؤمية؟ لا أعتقد. فحالة الخطر الداهم تحولت، بجرة قلم أو بقرار أو فعلا بفعل الواقع، إلى خطر دائم يستوجب تدبيرا استثنائيا دائما! وجاء الاستفتاء لإعطاء شرعية لكل ما حدث منذ 25 جويلية لمواصلة 25 جويلية. وهكذا يصير الاستثناء قاعدة لا مجرد استثناء أو حتى إثبات لوجود القاعدة.

هذا ليس وقوفا على أطلال ديمقراطية ليبيرالية أو تحسر على مسار “دمقرطة” لم ينجز شيئا أو أنجز خرابا، لكنه تبين لآثار استبداد قديم، يلوح من جديد ويعدنا بسنين جمر قادمة.

ما الحل، ما العمل؟

الحل هو أولا فهم حقيقي للمشكل يتطلب نزولا من البرج العاجي وتحررا من الدغمائية. يتطلب عودة إلى ليالي 17 ديسمبر / 14 جانفي 2010/2011 وما تولد عن تلك اللحظة الثورية وصولا إلى اليوم لنعيد ترتيب البيت الداخلي ونطرح السؤال الحقيقي على أنفسنا. السؤال الذي لطالما كان يجب أن نطرحه ونحن نسير في درب مسار انتقالي تم تعبيده على حساب مسار الخبز والحرية والكرامة والديمقراطية وخِيط على مقاس طوائف ليدوم ملكها. مسار لم يكن لا ديمقراطيا ولا اجتماعيا ولا وطنيا أسس استبدادا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا لكنه كان خفيا يمارس عنفا رمزيا لا يفهمه المفعول بهم، فتمخض بدوره عن جبل من استبداد جديد قديم وبروح مختلفة عنوانه قيس سعيد ومن يحوم هو في فلكهم ومن يحومون هم في فلكه.

يجب إذن أن نطرح السؤال عما فعلناه نحن الناشطون الحقوقيون والسياسيون والمفكرون والمثقفون والباحثون والمناضلون وصناع الرأي العام، باعتبارنا نتاج مصعد اجتماعي أو فرقة ناجية من تعطل كل المصاعد رغما عن أنفسنا وعلى حساب أغلبية لم تملك مصيرها ولا أدوات تقريره بين أيديها. أغلبية ثارت ضد مسار لم يستفد منه إلا من قبلوا بقواعد اللعبة الجديدة ولو على مضض واستفادوا ( أحزاب وفئات وأفراد) من خيرات اللعب الانتقالي الديمقراطي. مسار بني على جثث أحلام الأغلبية ولم تستفد منه إلا أقلية. مسار أكل فتات خبزهم وداس على كرامتهم يمينا ويسارا وعمّق أزمة سيادة وطنهم وسرق حلم حريتهم. يجب أن نطرح هذا السؤال لننفس عن ذنوبنا شكلا من الكاتارسيس (catharsis) النضالي. يجب أن نعيد رسم مشروع لا يعادي “شيعة” الثورة كي لا يصيروا شعبا يبكي إرادته فيأتيه مهدي منتظر يعلن أنه سينقذه من خطر داهم.

الحل هو أن نكف عن اعتبارنا نخبة مالكة للحقيقة في علاقة مع شعب لا يعرف مصلحته. أننا يجب أن نرتقي بوعي الشعب الذي نعامله كقارئ يحب أن يصعد إلينا لا أن ننزل إليه. هنا مربط الفرس، هنا تمكن قيس سعيد من قول العكس تماما للجموع الغفيرة : أنتم تملكون الحقيقة، النخب تزيف قدركم وتصادره. هكذا صار سعيد صديق الشعب وصارت الأحزاب والنخب والمجتمع المدني الديمقراطي والحقوقي والاجتماعي عدوة للأغلبية المضطهدة.  الحل هو أن ننزل في منزلة بين المنزلتين، ونحايث سيرورات بناء والمجتمع وتكوينه لعلاقته بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي دون شعبوية ( populisme) تعتبر الشعب قادرا مقتدرا مالكا للحقيقة ضحية للنخب والسياسيين الفاسدين، ولا ”مسكينية” تعتبر الشعب مسكينا يجب الوقوف إلى جانبه ومساعدته لأنه رائع ويستحق العون ( misérabilisme)! يجب أن نفهم ونحول الفهم إلى فعل وحركة وحلول تعمل، على المدى المتوسط والطويل، على بناء علاقة مجتمعية مختلفة مع الواقع. علاقة مُقاومة وبناء، لا تحتاج لمقاولات شعبوية أو إسلامية أو رجعية لبناء أسس غد أفضل.

[1] سفيان جاب الله، ”الشعب يريد، عودة الدولة أم صيرورة الثورة أم كلتاهما معا”، موقع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مُتاح على  https://ftdes.net/ar/lepeupleveut/