حول مافيا الفساد في القطاع الصحي:الموت الذي لن يتوقّف

0
5748

حول مافيا الفساد في القطاع الصحي: الموت الذي لن يتوقّف

تونس/المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

أسماء سحبون (صحفية تونسية)

ينتظر التونسيون ما ستسفر عنه نتائج التحقيقات في السابع والعشرين من الشهر الجاري بخصوص وفاة 15 رضيعا في قسم الولدان بمستشفى وسيلة بورقيبة.

ويعتقد الكثير منهم بان الحقائق التي ستكشف قد لا تكون في مستوى الكارثة التي حصلت والتي هزّت وجدان الجميع وطنيّا وكانت خبرا إنسانيا محزنا في أغلب وسائل الإعلام العالمية. ومردّ ذلك عدم ثقة عموما في أداء السلطات تجاه مجمل الازمات التي تطلّبت إحداث لجان تحقيقي فقبرت الحقيقة ولم تكشفها.

كما ان رئيس لجنة التحقيقات في كارثة وفاة الولدان، الدكتور محمد الدوعاجي، وفي اول ظهور إعلامي له بدى مرتبكا ومصطفّا الى جانب الإطار الطبي وشبه الطبي من خلال دفاعه بشراسة عن أداء هؤلاء في القسم الامر الذي قد لا يسمح بتحميل المسؤوليات في كارثة وفاة هؤلاء الولدان. وأبدى رئيس لجنة التحقيقات أيضا إصرار بان هؤلاء الولدان كانوا مرضى وفي حالات صحيّة هشة وربّما نسي الدكتور الدوعاجي ان هؤلاء كانوا بين أحضان العلاج وكان يمكن إنقاذ حياتهم بدل تعريضهم للتعفن الجرثومي؟

كارثة منتظرة

هذه الكارثة تبدو نتيجة منتظرة للوضع الذي يعيشه القطاع الصحّي فحالة التدهور في البنية الأساسية ونقص المعدات اللوجستية ونقص الموارد البشرية كانت في أكثر من مناسبة سببا لاحتجاج الإطار الطبّي وشبه الطبّي في عدد من المستشفيات الصحية. ومنها نذكر احتجاج الإطار الطبي وشبه الطبّي في معتمدية الجريصة بالكاف يومان فقط قبل وقوع كارثة وفاة الولدان في وسيلة بورقيبة طلبا لتحسين ظروف الخدمات الصحية في المستشفى ومنها توفير سيارة اسعاف ثانية. ونذكر أيضا حادثة استقالة رئيس قسم طب الأطفال بمستشفى نابل هيثم بشروش منذ شهر ديسمبر 2018 احتجاجا على حالة الاكتظاظ في قسم الولدان والتي تؤدي أحيانا الى إيواء 10 رضع في سرير واحد كما أطلق صيحة فزع من اجل تحسين الخدمات الصحية المقدمة الى هؤلاء الولدان دون أي تفاعل ن قبل السلطات.

ولا يخف العاملون في الهياكل الصحية العمومية مخاوفهم من استمرار الكوارث في القطاع الصحية بسبب الوضع المريب من النقائص في المستشفيات العمومية والنقص الفادح في الموارد البشرية بالإضافة الى بروز عنصر الفساد في المنظومة الصحية والذي بدا ينخر القطاع ويعرّض حياة التونسيين للمخاطر وصولا الى مقتل 15 رضيعا في مهودهم في المستشفى.

وكان القطاع الصحي قد عايش في العام 2015 كارثة زرع لوالب قلبية فاسدة لـ107 مريض في المصحات الخاصة وتقول مصادر مطلعة إنّ تلك اللوالب اقتناها المزود بـ500 دينار وقبض مقابل لها 2500 دينار (أي خمس مرات ثمنها الحقيقي رغم انها فاسدة) طبعا بتكفّل من الصندوق الوطني للتامين على المرض. كما عايش في ذات العام كارثة استخدام “بنج” منتهي الصلوحية مما أدى الى مقتل 5 اشخاص. ولم يكن من الصعب الوصول الى “تعفّن جرثومي” في قسم الولدان في وسيلة بورقيبة مما أدى الى مقتل 15 رضيعا.

فساد

احالت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد منذ 2016 ملفات فساد على انظار القضاء منها شبهة فساد مالي واداري في مستشفى الهادي شاكر بصفاقس وتحديدا قسم طب الاطفال وكذلك شبهة فساد في مستشفى فرحات حشاد بسوسة تورط فيها طبيبان وُجّهت لهما التهمة بتحويل وجهة المرضى بصفتهما طبيب مباشر في المستشفى وشبهة فساد بمصحة لتصفية الكلى بحدائق المنزه حيث يتم استقطاب المحتاجين وضعفاء الحال بواسطة سماسرة لبيع الكليتين بمقابل مادي.

كما تم في العام 2017 إحالة شبهة فساد في الصيدلية المركزية وفي مستودع تخزين الادوية بمستشفيات سوسة ما بين العام 2012 و2016 على النيابة العمومية وشبهة فساد في تعمّد إلحاق اضرار بدنية خطيرة بصحة المرضى بسبب انعدام الصيانة وغياب المعايير الصحية بمصحة خاصة في حماما الانف. بالإضافة الى ملف الفساد المالي والإداري بمصحة العمران حيث فُقدت كميات من الادوية الخصوصية وصرف ادوية دون وصفات طبية وفقا لملفات وهمية بالصيدلية التابعة للمستشفى وكذلك شبهة فساد في مستشفى الرازي بمنوبة تتمثل في احتجاز مريضة بتعلة انها تمثل خطرا على نفسها وعلى الغير في حين ان الامر كان لغايات إجرامية.

هذا بعضا مما كشفته هيئة مكافحة الفساد ومن خلال التشكيات التي وصلتها والمنطق يقول بان كوارث أخرى اعمق لم يُكشف بعدُ عنها النقاب في مؤسسات صحية أخرى لم تبلغ ملفاتها بعدُ هيئة مكافحة الفساد فكيف يمكن الوصول إليها؟

تشير الأرقام الرسمية الى ان 17 ولاية تعاني من تصحّر في طب الاختصاص وبالتوازي تشير مصادر من الجامعة العامة للصحية الى ان القطاع الصحي يحتاج الى 20 ألف انتداب جديد في الاطار الطبّي وشبه الطبّي والعملة والاداريين إلا ان ابواب الانتدابات في القطاع العام اقفلتها السلطات منذ 2016 رغم احالة 4500 على التقاعد خلال سنوات 2016 و2017 و2018.

في المقابل تعاني المستشفيات في حالة اكتظاظ وتراجع للخدمات الأساسية. هذا الوضع المتردّي جعل عملية تعقيم اقسام الانعاش غير ممكنة والصادم ان وزير الصحة المستقيل عبد الرؤوف الشريف قد تحدّث عن عدم القيام بعملية تعقيم منذ 2016.

هذا الوضع بدوره اثمر تسجيل ما بين 1300 و1500 حالة اصابة بالتهاب الكبد الفيروسي صنف “ب” في صفوف الاطار شبه الطبّي بسبب الوضع في المستشفيات.

سياسات فاشلة

هذه الحصيلة هي نتيجة سياسات عامة شابها الفساد وهي لا تتجه نحو تحسين جودة الخدمات الصحية للمواطن او على الاقل تأمينها في ظروف معقولة بل إنّها توجهت نحو مزيد دعم القطاع الخاص. فالصندوق الوطني للتامين على المرض لم يلتزم بخلاص الدفوعات المالية التي تنص عليها الاتفاقية المبرمة بينه وبين الهياكل الصحية العمومية والمقدرة بـ550 مليون دينار سنويا مقابل التزامه بالدفوعات المالية الخاص بالقطاع الخاص وفقا لمصادر من الجامعة العامة للصحة. بل إنّ اكبر الدفوعات التي تحصّلت عليها الهياكل الصحية العمومية من الصندوق كانت خلال العام 2018 وفي حدود 44.8 مليون دينار كانت تقل عن المبلغ المتفق عليه في الاتفاقية المبرمة. وتطالب الهياكل النقابية بفك لغز صندوق التامين على المرض واصفين إياه بـ”الصندوق الأسود” الذي اسهم في تشجيع القطاع الخاص من خلال نظام التكفل بالمصاريف وعدم التوازن في الدفوعات بين القطاعين العام والخاص إذ يحصل الأول على 20 بالمئة فقط من الدفوعات فيما يحصل الثاني على 80 بالمئة من دفوعات الصندوق.

لا تبدو مكافحة الفساد، إذن، مسالة جديّة في المنظومة الصحية وفقا لحصيلة الكوارث التي حصدناها خلال السنوات الاخيرة فالمسؤولين الذين تمت أقالهم وزير الصحة الاسبق سعيد العايدي عقب فضيحة اللوالب القلبية الفاسدة في 2015 عادوا الى مناصبهم وكأن شيئا لم يحصل.

كما لم تشهد حادثة وفاة حوالي 5 مرضى بسبب استخدام بنج فاسد أي تتبعات وكانت مثل هذه الكوارث-التي لم تحصد سوى خسائر معنوية ومادية في صفوف المرضى-الطريق للوصول الى كارثة مقتل الوِلْدان في مستشفى وسيلة بورقيبة وقد لا تتوقف خساراتنا عند هذا الامر.

نحن نواجه إذن قتل ما تبقّى في منظومة الصحّة العمومية حيث لا ترتقي الخدمات الصحية الى مستوى حفظ الكرامة الإنسانية للمريض على حد تعبير الكثير من الاطارات الطبيّة في المستشفيات العمومية من يعانون الامرين فهم ملتزمون بالخدمة في القطاع العمومي إيمانا بقيمة الرسالة التي يحملون وفي الان نفسه هم غاضبون من اذان سلطات صمّاء غير مكترثة بتدهور الوضع الصحي في المنظومة العمومية. بهكذا وضع نمضي نحو احتمالات كثيرة متوقعة في مستشفياتنا بشكل شبه يومي وبهكذا وضع نفتح الابواب على مصراعيها لاستمرار الفساد وسيادة اباطرة “قانون الغاب”.