شباب قفصة

    0
    2717

    شباب قفصة

    http://www.mediterraneanhope.com/articoli/i-ragazzi-di-gafsa-1996

    توماس تامبوريلو

    “نظرة على الحدود” هي فقرة يقوم بتحريرها كل من فريق “أمل المتوسط” والعاملين على مشروع الهجرة بفيدرالية الكنائس الانجيلية بايطاليا. هذا الأسبوع صدر عن مرصد لامبيدوزا فيلم “Looking” (مشاهدة) لتوماس تامبوريلو.

    روما – نوفمبر 2017 – هنا في النقطة الساخنة بلامبيدوزا، يحس الشباب التونسي بوطأة الزمن و بطء مرور الساعات، متأكدين بأنه سيقع ترحيلهم الى بلدهم في أي لحظة. اتفاقيات الترحيل القسري بين تونس وايطاليا ترعبهم الى الحد الذي دفعهم للتظاهر والاحتجاج لعدة أيام بل أن بعضهم دخل في اضراب جوع وعمد اثنان منهم الى خياطة أفواههم كنوع من الاحتجاج الصامت.

    الوضع في تونس:

    سبق وان تطرقنا في الأسبوع الماضي الى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالجمهورية التونسية،حيث بلغت نسبة البطالة بالبلاد مستويات مرتفعة جدا (15.3% حسب آخر الدراسات) تمسّ نحو 40% من الفئات المجتمعية الشابة.

    هاته المؤشرات تبلغ أعلى مستوياتها بمناطق جنوب البلاد وغربها، أي بالمناطق الأكثر فقرا وتهميشا من حيث الاستحقاقات الاجتماعية والبنية التحتية.

    عدى عن الخصاصة التي خلفتها البطالة، تعددت العوامل المتسببة في انتشار الاستياء والسخط والمأثرة على استقرار الدولة الاجتماعي: نذكر مثلا التلوث البيئي في عدد من المناطق والمخاطر الصحية المنجرّة عنه وانتشار الفساد ضمن الطبقة الحاكمة و المحسوبية والمحاباة في اسناد الوظائف. مشاكل عهدناها منذ فترة حكم بن علي، إلا أنها لم تنته بانتهاء حكمه بل زادت تجذّرا واستفحالا.

    حدّثونا اثر ذلك عن العنف البوليسي وتعذيب المحتجزين، وهو واقع يومي يعيشه الشباب التونسي في محاولة لقمع المعارضة السياسية بتعلّة مقاومة الارهاب والاجرام.

    نداء من النقطة الساخنة واحتجاجات سلميّة:

    يوم 27 أكتوبر 2017 نشر شاب تونسي متواجد بالمركز عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايس بوك نداءا للرأي العام الدولي يعلن فيه عن دخول بعض المحتجزين في اضراب جوع. رمت هذه الخطوة الجذرية الى المطالبة بحق التنقل والاحتجاج ضد الطرد القسري. وأتى في البيان ما يلي: “نحن مهددون بترحيل قسري، يخرق المعاهدات الدولية المكرسة لحق حرية التنقل المعارضة لسياسات الطرد الظالمة وللمعاهدات الثنائية التي تؤمن الحدود على حساب احترام حقوق الانسان الكونية. لا تختلف أحلامنا عن أحلام الشباب الأوروبي المتمتع بحرية التنقل الى دولتنا كما الى غيرها من الدول، للبحث عن تجارب جديدة وللنهوض بالحرية والعدالة الاجتماعية والسلم.

    نوجّه نداءنا هذا للأحرار المدافعين عن وجود عالم بديل، تسوده القيم الكونية والتضامن لأنكم تحتجزون أحلامنا خلف هاته الجدران في حين يتجول شبانكم بحريّة في أرجاء دولتنا.

    سمير، محمد وكريم: الحياة في مدينة “الرديف”

    التقينا لاحقا في شوارع لامبيدوزا بثلاث شبان تونسيين يستضيفهم المركز تتراوح أعمارهم بين 25 و 30سنة وينتمي هؤلاء الشباب الى المجموعة المحتجّة والمعلنة عن اضراب الجوع. استمعنا الى شهاداتهم وأطلقنا عليهم أسماء: سمير، محمد وكريم.

    هؤلاء الشباب هم أصيلو مدينة”الرديف” التي تقوب في جنوب غرب البلاد، وسط الحوض المنجمي بقفصة. وتعد شركة فسفاط قفصة ومنذ زمن بعيد المشغل الوحيد بالمنطقة وتقوم لوحدها بتأمين 3% من الناتج الخام للجمهورية التونسية، واحدة من أكبر الدول المصدرة للفسفاط على الصعيد العالمي. مع ذلك، لا توزع هذه الثروات بطريقة عادلة ولا تتمتع هذه المنطقة بأي نصيب منها، بل أنها من أفقر مناطق البلاد ويبدوا ذلك واضحا من خلال بنيتها التحتية. كما تشهد المنطقة ارتفاعا خطيرا لمستوى التلوث الهوائي والمائي باليورانيوم والكادميوم كنتيجة لمخلفات معالجة المناجم وهو ما أثر سلبا على صحة متساكني المنطقة وأدى الى تفشي مرض السرطان وأمراض مستعصية أخرى.

    في جانفي 2008، شهدت مدينة الرديف حراكا احتجاجيا ضخما اثر صدور النتائج المزورة لامتحان القبول بشركة فسفاط قفصة. ثورة أهالي الرديف لها أهمية تاريخية كبرى: أدت هذه الثورة الى ارتفاع مستوى القمع واستخدام العنف خلال فترة حكم بن علي ولعبت دور مقياس حدّة الحركات الاجتماعية التي هبّت في 2011 مطالبة بالحرية والكرامة والعمل فكانت حجر الأساس الذي بنيت عليه جميع ثورات الربيع العربي لاحقا.

    لقاء بمكتب “أمل المتوسط” في لامبيدوزا:

    سمير: “جميعنا من أصحاب الشهائد، الا أن الوضع الاقتصادي الصعب حد من آفاقنا وآمالنا. (يتحدث سمير اللغة الانجليزية بطلاقة، متحصل على شهادة جامعية في اللغة الانقليزية ومؤهل لتدريسها) .

    لم نتمكن من الحصول على عمل والعديد من أفراد عائلتنا ليس لديهم أي مداخيل. عديد العائلات المحتضنة أحيانا لخمس أطفال، تضطر للعيش براتب شهري أدنى لا يتجاوز ال400 دينار أي ما يقابل 120 أورو. لا يكفي هذا المدخول لتغطية حاجيات العائلة من طعام فقط، دون احتساب تكاليف تعليم الأطفال.

    لا توجد مستشفيات بالمنطقة رغم تدهور حالتنا الصحية. أنظروا الى أسناني، هذا من تأثير مياه الحنفية التي نشربها لأننا لا نقدر على شراء المياه المعدنية المعلبة. الفسفاط والمواد الكيميائية الأخرى التي نستنشقها دمرت رئاتنا وفتّتت عظامنا. حرمتنا البطالة والخصاصة من التأمين على المرض وبالتالي التمكن من العلاجات التي نحتاجها. لا وجود لبنية تحتية بالمنطقة والبيايات المعمرة مخالفة للقوانين: لا داعي للاهتمام بسلامتنا فهم أصلا لا يعترفون بإنسانيتنا. يساونا القلق ازاء استغلال ثروات بلادنا من نفط وغاز وفسفاط، الصيد والسياحة وكل هاته الثروات التي لم نلاحظ منها شيئا غير الأوبئة والأمراض المنجرة عن التلوث.

    يساورنا القلق أيضا حيال التدهور الحاد والمستمر لمستوى التعليم العمومي في بلادنا: نشعر فعلا بأنها سياسةحكومية ممنهجة تهدف الى خفض مستوى الوعي لمنع الشعب من تطوير ملكاته النقدية.

    أما عن دخول سوق الشغل فالأمر معتمد أساسا على المحسوبية والمحاباة: اجتياز الامتحان لا يعتمد على الأفضلية بل على الصداقات مع المسؤولين أو على المبالغ النقدية التي يمكن دفعها.

    كريم: “تلوث المياه والهواء جراء انتاج الفسفاط دمر صحتنا: انتشر مرض السرطان بالمنطقة بشكل فظيع. بلغت الثلاثين من عمري ولم أتمكن حتى الآن من ايجاد معنى لوجودي أو شغل يحفظ كرامتي. كرهت الحياة حتى أنني حاولت الانتحار مرة. قيمة الضرائب مرتفعة جدا وان لم تقدر على دفع الرشاوي للمسؤولين فلن تتحسّن وضعيتك في تونس: يتمكن أصدقاء المسؤولين ومن تتوفر لهم الامكانيات المادية من ايجاد وظيفة بسهولة أما البقية فلا مكان لهم بسوق الشغل. أما عن الحكومة فهي لا تأبه لنا ولا لمشاكلنا.”

    محمد: تجاوزات وعنف قوات الأمن أمر نتعرض له يوميا. سبق وأن سُجنت لستة أشهر فقط لأنني طالبت بحقي في التشغيل. تقلقني أيضا الهجمات الارهابية التي تتعرض لها تونس، هجمات تتصاعد وتيرتها وتمس عددا أكبر من الأشخاص يوما بعد يوما ولا رغبة لي في التورط فيها. أخشى أن يُقبض عليّ لمشاركتي في المظاهرات ثم اتهامي بالمشاركة في أعمال ارهابية فالحكومة تقمع كل أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية بتعلّة مكافحة الارهاب

    اللامساواة والفوارق الاجتماعية كبيرة جدا بين طبقة غنية جدا وأخرى لا تملك شيئا. أحد أقربائي أصابه مرض السرطان، أصبح يشكوا من أوجاع حادة بالرأس، بالقلب وبالمعدة. بدون تأمين صحي، هو لا يملك حتى ثمن دواء يخفف من ألمه قليلا.

    كيف هو الوضع بالنقطة الساخنة؟ ما سبب احتجاجكم؟

    محمد: أنا أحب جميع المتواجدين بالمركز. أحتج فقط لأنني لا أرغب في العودة الى تونس وأخوض الآن اضراب جوع للاحتجاج ضد ترحيلي الى هناك. أنا أفضل البقاء بهذا المركز في لامبيدوزا طيلة حياتي على أن يقع ترحيلي الى تونس.

    كريم: أرغب أولا في أن أتوجه بالشكر لكل الايطاليين العاملين بهذا المركز. طيلة حياتي لم يعاملني أحد بمثل هذا الاحترام واللطف. حتى أعوان الأمن لطيفون هنا، يلقون التحية ويسألونني عن حالي. أرغب في البقاء في ايطاليا، أو فرنسا أو أي دولة أوروبية أخرى. أرغب في استغلال طاقاتي ومؤهلاتي وأنا علة قناعة بأنني سأتمكن من النجاح هنا. لي عديد الأصدقاء والأقرباء في أوروبا أُتيحت لهم الفرصة لتأسيس حياة كريمة، خاصة النساء منهم، يتمتعن هنا بحقوقهن وبقدر أكبر من المساواة.

    أنا شديد الغضب والسخط على حكومة بلدي. يحصدون الأموال لقاء التوقيع على اتفاقيات الترحيل، يقبضون النقود مقابل ترحيلي ويأسي وكأنني بضاعة تجارية. أنا لا أرغب في العودة الى تونس، أفضل الموت على ذلك، حاولت الانتحار مرة وأنا مستعد لإعادة الكرّة.”

    سمير: “أتقاسم موقف أصدقائي: لن تدوس رجلي التراب التونسي مجدّدا، أفضل الموت على العودة هناك وانا مستعد للانتحار ان أرغموني على الرحيل. هذا آخر أمل لي… صدقوني… لقت كنت في جحيم هناك ولا أقوى على العودة الى العيش في تلك الظروف. أؤكد مجددا، احتجاجنا هذا ليس ضد الدولة الايطالية أو بسبب ظروف تواجدنا بالمركز بل ضد سياسات الترحيل الظالمة التي ترق أذهاننا. لم نتسبب بأي أذى ومن حقنا التنقل بحرية. لماذا يتمكن الايطاليون والفرنسيون من القدوم الى تونس دون الحاجة الى تأشيرة ويتم منعنا نحن من مثل ذلك؟

    نحن لا نقل انسانية عنهم، عشنا جميعا في بطون أمهاتنا لتسع اشهر قبل المجيء الى هذا العالم، تلقينا تعليما وتحصلنا على شهائد مثلهم… ما الفرق بيننا وبينهم؟

    ما الذي تبحثون عنه في ايطاليا أو في أوروبا؟

    سمير: “نحن نبحث عن فرص لتغيير حياتنا نحو الأفضل. منذ طفولتي وعدت أمي بأن أدرس وأتعلم وأتحصّل على شهادة الدكتوراه. لن أتمكن من تحقيق ذلك في تونس، مستوى التعلم هناك سيء وحتى ان تمكنت من تحصيل الشهادة لن تنفعني بشيء في وطني. ثم وبصراحة، دفعتني أسباب مادية للقدوم الى هنا. لن نحيا إلا حياة واحدة وعلينا عيشها بكرامة واحترام. أرغب في السفر وفي التمتع بحقي في رؤية أشياء وأماكن جميلة.”

    كريم: أرغب في بناء حياة جديدة والاستقرار هنا. أود التعرف على امرأة والزواج منها وانجاب أطفال لأن ديننا يدعونا لذلك ويشدّد على أهمية تكوين الأسرة: بالزواج تكون قد حققت نصف أهدافك في هذه الحياة وهو ما أرغب به. أرغب في تأسيس عائلة والتمتع بحياة طبيعية كغيري من البشر.”

    محمد: أنا أيضا أرغب في الزواج وانجاب أطفال ولا أرغب بتاتا في العودة الى تونس. تعبت هناك كثيرا حتى انقطعت أنفاسي بسبب الغيظ الذي أكظمه. لطالما أحسست بظلم الحكومتي لي، وكأنني لا أحمل الجنسية التونسية، بسبب التمييز المجحف بين أهالي شمال البلاد وأهالي جنوبها كأمثالي.

    نحن الجنوبيون نملك خيرات كثيرة، الا أن المؤسسات الأجنبية وأهالي الشمال الأثرياء هم من يتمتعون بها.

    يعيش مواطنوا بعض الدول الافريقية الأخرى تحت وطأة الحروب، أما نحن فكأننا نخوض حربا باردة، تحت ضغوط مستمرة متصاعدة، حيث يتحكم فينا قوات الأمن باستمرار وحيث يملأ التوتر حياتنا اليومية.

    سألت أخيرا هؤلاء الشباب عن رأيهم في هذا العدد الهائل من التونسيين المغادرين لتونس نحو ايطاليا، خاصة خلال الأشهر الثلاث الأخيرة وكانت الاجابة بالإجماع بأن الناس ضاقت ذرعا بظروف عيشها وبمسببات هاته الظروف: البطالة، الفقر واليأس.